مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

السوق في الفن التشكيلي

الريادة للصينيين والذروة عند المستشرقين

عبدالله العقيبي وفريق التحرير

كان الفنانون الصينيون رواد الالتفات إلى الأسواق ورسمها، لكونهم رواد رسم المدن على لفائف من الورق قد تصل أطوال بعضها إلى عدة أمتار. وأشهر عمل بلا منافس قريب في هذا المجال، اللفافة المعروفة باسم “على طول النهر خلال مهرجان كينغ مين” للفنان تزانغ زيدوان (1085م – 1145م). تبلغ مقاييس هذه اللفافة 25.5 سنتمترًا عرضًا، و5.25 أمتار طولًا، وتمثّل جانبًا كبيرًا من مدينة بيانجينغ عاصمة أسرة سونغ (كايفينغ حاليًا). يظهر في هذه اللفافة 814 شخصًا من مختلف الشرائح الاجتماعية والمهن، ومن بينهم تجّار خارج باب المدينة يبيعون ويشترون المشروبات والأسلحة والأدوات الموسيقية والأدوية والأصبغة وأدوات الزينة، ويتراص هؤلاء الباعة ومتاجرهم وبعض المطاعم فوق جسر وبجواره.

جزآن من اللفافة الصينية “على طول النهر خلال مهرجان كينغ مين” العائدة إلى القرن الحادي عشر، ويظهر جانب من السوق داخل المدينة في الأولى، والسوق الآخر المقام على جسر خارج بابها.

كانت هذه اللفافة، التي تُعدُّ أغلى كنز فني صيني، فاتحة تيار استمر حتى اليوم في رسم المدن وأسواقها، إضافة إلى أنها العمل الوحيد الذي استمر الفنانون في نسخه طوال عشرة قرون تقريبًا.

وفي أوروبا، بدأت الأسواق تظهر في فن اللوحة خلال عصر النهضة في أوروبا الشمالية، حيث راج رسم مشاهد الحياة اليومية في القرن السادس عشر. فحضر السوق موضوعًا رئيسًا عند بيتر بروغل الكبير في أكثر من لوحة، وبدا دائمًا فوضويًا وعشوائيًا وفي الهواء الطلق. ورسم جان بروغل الحفيد، عدة أسواق متخصصة من أشهرها لوحتان: إحداهما بعنوان “سوق السمك الكبير” (1603م)، والأخرى “سوق سمك على ضفة نهر” (1620م).

“السوق” في هولندا خلال القرن السادس عشر كما يظهر في لوحة للفنان بيتر بروغل الذي ركّّز على الطابع العشوائي الذي يتسم به هذا السوق القروي.

وفيما استمر رسم الأسواق الأوروبية بشكل متفرق، اتخذ هذا المنحى بُعدًا جارفًا في القرن التاسع عشر، بلغ ذروته مع المستشرقين والأسواق التي شاهدوها أو تخيلوها في بلدان المشرق العربي وشمال إفريقيا من أسواق السجاد إلى أسواق العبيد، إلى التصوير بواقعية فائقة الدقة لجوانب بعض الأسواق. فلا نكاد نجد أحدًا من هؤلاء الفنانين تجاوز السوق الشرقي بوصفه موضوعًا من موضوعات لوحاته.

ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، الفنان الأسكتلندي دافيد روبرتس، الذي رسم معالم مصر ولبنان والأردن، إضافة إلى حياة الناس اليومية فيها. وكان من أهم أعماله لوحته “بازار الحرير”، التي تُصور أحد أسواق الحرير في مصر بدقة فائقة الجمال.

ومن هؤلاء الفنانين المستشرقين الرسام والنحات الفرنسي جان ليون جيروم، الذي انطلق في عام 1868م، في رحلة طويلة إلى مصر وآسيا الصغرى، رسم خلالها الكثير من المعالم التي شاهدها. لكن لوحته التي تهمنا هنا هي “تاجر السجاد”، التي تصور وتوثق لحظة التفاوض بين تاجر السجاد وزبائنه، بينما تنسدل قطعة رائعة من السجاد من إحدى الشرفات أمام أنظار المشترين.

ومنهم أيضًا الرسام الألماني غوستاف باورنفايند، الذي زار فلسطين بين عامي 1888م و1889م، ورسم خلالها عددًا كبيرًا من اللوحات التي تصور الأراضي القديمة. وتُعدُّ لوحته “سوق يافا” من أهم لوحاته، وتعكس صورة حقيقية لساحل مدينة يافا وملامح من سوقها آنذاك. واللوحة، بحسب المهتمين، تُعدُّ خارقة للعادة، ففيها دقة عظيمة في التصوير، وتدرج انسيابي للضوء بين أركان السوق، الذي يكتظ بأشكال وأصناف شتى من الرجال والنساء والأطفال. كما أن فيها تصويرًا لبعض الحيوانات، من دون إغفال معروضات السوق. ومعروف أن غوستاف باورنفايند، ولشدة ولعه بالمشرق، قرر الاستقرار في فلسطين بصحبة زوجته وابنه، وعاش في القدس حتى نهاية حياته.

لوحة “سوق يافا” الشهيرة للألماني غوستاف باورنفايند.

وفي العصر الحديث، يمكننا أن نجد الكثير من الأعمال الفنية، وخاصة التزيينية منها، تمثل مشاهد من أسواق الزهور أو السمك أو الخضار. غير أن أبرز ما في هذا المجال من أعمال بعيدة عن التزيين وتتضمن خطابًا اجتماعيًا وحضاريًا، هي أعمال الفنان الأمريكي المعاصر ريتشارد إيستيس، المتخصص عمليًا في رسم الأسواق والمحال التجارية في أشهر المدن الأمريكية، بدقة فوتوغرافية وتركيز عظيم على لمعان المعادن والزجاج في الأبنية الحديثة وما ينعكس عليها من إضاءات نيون المباني المجاورة، في شوارع نظيفة جدًا وخالية من المشاة، وهو ما يجعل من تجربة هذا الفنان بتقنياتها الحديثة مساحة رحبة للتأمل في موضوع رسم الأسواق بشكل مختلف عن المعهود.


مقالات ذات صلة

لو شئنا أن نقتصر في تعداد مكوّنات أي مدينة أو بلدة في العالم على مكوّنين اثنين فقط، لقلنا إنهما: المسكن والسوق. فلا حياة لأي منهما من دون الآخر. ولذا، فإن تاريخ السوق، وحتى إن لم يُؤتَ على ذكره بالتفصيل، هو من ضمن تاريخ أي مدينة. وأن يتكوّن السوق بشكل أساس من مجموعة متراصة من المتاجر، […]

لكل سوق في العالم صورة مختلفة في وجدان المتسوق، حتى عند من سمع به ولم يزره سابقًا. بعضها موسوعي لاشتماله على مختلف أنواع السلع، وبعضها يغلب عليه الطابع التاريخي، وبعضها يتعالى على الطبقة الوسطى، وبعضها يتعاطف مع الطبقة التي دونها. وفيما يأتي عينة من هذه الأسواق، من دون الزعم طبعًا أنها مسح شامل لأهم أسواق […]

ظهر المركز التجاري الحديث المعروف عالميًا باسمه الإنجليزي “مول”، في منتصف القرن الماضي، وتحديدًا في عام 1956م، عند افتتاح أول مركز للتسوق في إيدينا بولاية مينيسوتا الأمريكية، من وحي أفكار المهندس المعماري فيكتور جروين، الملقّب بأبي المراكز التجارية، الذي قدم للبشرية أول تصميم معماري يمثّل صورة المول بشكله الذي نعرفه اليوم في كل مدينة من مدن العالم.


0 تعليقات على “السوق في الفن التشكيلي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *