مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

السوق في الرواية


عبدالله العقيبي وفريق التحرير

لمَّا كان السوق هو المكان الرحب لحراك الناس واحتكاك بعضهم ببعض، وفيه تختلط المرئيات بالمسموعات وبالروائح المختلفة، فهو الفضاء الأنسب لكتَّاب ومبدعي فن الرواية، الذين يبحثون دائمًا عن أرض خصبة تتصارع عليها شخصيات أعمالهم. وهذا واقع ماثل في كم هائل من الروايات، التي استخدمت السوق مكانًا للأحداث والوقائع الروائية.

كان ظهور السوق بصفته مسرحًا للأحداث، مبكرًا في فن الرواية. فالروائي الفرنسي إميل زولا، استلهم في روايته “من أجل سعادة النساء”، أو “سعادة السيدات” كما في الترجمة العربية للرواية التي صدرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نمط متجر “لو بون مارشيه” الباريسي ذائع الصيت والمستحدث آنذاك، بما في ذلك عمليات الطلب عبر البريد، ونظام العمولات، ومفوض الموظفين الداخلي، وطرق استلام البضائع وبيعها بالتجزئة.

تدور أحداث الرواية بين عامي 1864م و1869م، حول دينيس بودو، وهي سيدة شابة تنتقل إلى باريس مع أشقائها للعمل بائعةً في متجر “من أجل سعادة النساء”، ويصف زولا ظروف العمل القاسية في المتجر، والصراعات التي تنشأ بين الموظفين. بينما يقدم أوكتاف موريه، صاحب المتجر، منافسة شرسة للتجار التقليديين من خلال تقديم خدمات مبتكرة وجذابة للزبائن الإناث. ويستغل موريه النساء لتحقيق أهدافه الشخصية، لكنه يقع في حب دينيس، وينتهي الأمر بزواجهما، وهو ما يعدُّ انتصارًا للمرأة، التي بدا السوق بالنسبة إليها فضاء مكانيًا مناسبًا لتحقيق تطلعاتها الاجتماعية.

وفي رواية “الحب في زمن الكوليرا” لجابرييل غارسيا ماركيز، يظهر سوق السمك مكانًا للتلاقي والتعارف بين الحبيبين فيرمينا وفلورنتينو. ففي مطلع الرواية، يصوّر المؤلف بأسلوب سحري سوق السمك في مدينة ساحلية جميلة لا يذكر اسمها، لكنها على الأغلب إحدى مدن الكاريبي. ويصف ماركيز الصخب والحيوية في السوق، حيث يشبه أصوات البائعين والزبائن بترنيمة موسيقية متجانسة، بينما يتألق الضوء الساطع على المأكولات البحرية الملونة والطازجة، ما يجعل السوق ينبض بالحياة والنشاط. ويعدُّ السوق في الرواية مكانًا مميزًا، يجسّد جمال المدينة وروحها، ويعكس تنوع ثقافتها وازدهارها الاقتصادي. إضافة إلى أنه يمثّل مكانًا مثاليًا لالتقاء الحبيبين.

ولمناسبة الحديث عن سوق السمك، يمكننا تذكر رواية “العطر” للألماني باتريك زوسكيند. فولادة بطل الرواية جان باتيست جرونوي تحصل في سوق السمك في باريس. ويصوّر زوسكيند هذه اللحظة بأسلوب مثير ومليء بالدهشة والتشويق. فجان باتيست يولد في ظروف بائسة ومأساوية، في جو السوق المليء بالضوضاء والروائح الكريهة للسمك. يعكس هذا المشهد التناقض الشديد بين جمال الحياة وقساوتها، وبين روح الولادة الجديدة والبدايات الصعبة. ويعدُّ مشهد الولادة في سوق السمك بمنزلة بداية لرحلة جرونوي في عالم الروائح والعطور، ويضع الأساس للغموض والتعقيدات التي ستلاحقه فيما بعد.

وفي الرواية العربية

عربيًا، لم يرتبط فضاء السوق بوصفه مكانًا للقصص والحكايات بأديب عربي مثلما ارتبط بنجيب محفوظ، ولعل ارتباط رواياته بالأسواق القاهرية عائد إلى عنصرين مهمين: أولهما اهتمام محفوظ الروائي بالقاهرة الفاطمية، التي لا يوجد بين حاراتها وأسواقها فاصل، بل إن معظم أسماء الحارات هي نفسها أسماء أسواق. والعنصر الثاني هو فني بحت، ويتمثّل في وعي نجيب محفوظ بأهمية السوق الشعبي بكونه مسرحًا للصراعات الاجتماعية والخلجات الداخلية للشخصيات. فالسوق يمكن أن يكون المكان الأمثل لتبادل الآراء والأفكار، وتكوين العلاقات بين الشخصيات. وفي بعض الأحيان تتجسد الصراعات السياسية والاقتصادية من خلال أحداث تجري في السوق. وهذا الأمر ليس فيه افتعال، أو خروج عن واقع الحياة المصرية، ما يجعل انتباه نجيب محفوظ إليه انتباهًا فنيًا بالدرجة الأولى.

ولو أردنا أن نمثّل لروايات نجيب محفوظ، التي حضر السوق في عناوينها أو في أحداثها، لاحتجنا إلى إفراد دراسة كاملة ومستقلة. لكن حسبنا هنا أن نكتفي بأشهرها على الإطلاق، وهي رواية “خان الخليلي”، التي صدرت عام 1945م، والتي مثّلت استثمار مبكرًا جدًا لفضاء السوق في الرواية العربية.

تتحدث الرواية عن أحمد أفندي عاكف، الذي اضطر إلى أن يترك تعليمه للبحث عن عمل، ليتمكن من رعاية أسرته بعد فصل والده وإحالته إلى المعاش. كانت الأسرة تعيش في حي السكاكيني، لكن مع تصاعد الحرب العالمية الثانية وتزايد الغارات الألمانية، اضطرت الأسرة إلى الانتقال إلى حي خان الخليلي.

وهناك، يبدو السوق هو الفضاء المكاني الرحب الذي تتفاعل شخصيات الرواية من خلاله بعضها مع بعض، وصولًا إلى الخاتمة حين تضطر الأسرة إلى مغادرة خان الخليلي الذي كانت تعيش فيه، والذي شكل سوقه الحيوي تجربة فريدة لبطل الرواية أحمد أفندي عاكف.

وبالنسبة إلى الرواية السعودية، يحضر السوق في عدد من الأعمال الروائية البارزة، مثل السوق الشعبي للقرية في رواية “الحزام” لأحمد أبو دهمان، وسوق العبيد التاريخي في مكة المكرمة في رواية “الحفائر تتنفس” لعبدالله التعزي. وبشكل متفرق ومختلف في روايات عبده خال، حضرت أسواق القرى بشكل خاص. أمَّا الحضور الأبرز للسوق، فكان في رواية “باهبل” لرجاء عالم، التي تدور أحداثها في الفضاء المكاني لأحد أقدم الأسواق الشعبية وأهمها في مكة المكرمة، وهو سوق أو شارع “المدعى” المطل على مسعى الحرم المكي الشريف، وهي الرواية التي صدرت حديثًا، والتي صعدت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). وفي الرواية حضور طاغٍ للسوق بوصفه مكانًا يدور فيه كثير من أحداث الرواية على مدى خمسين سنة انتهت بزوال سوق “المدعى” بسبب توسعة الحرم المكي الشريف.

والملاحظ من خلال ما سبق، هو جمال أشكال الأسواق وتعدديتها في الروايات العالمية والعربية على حد سواء، من متاجر فاخرة، إلى أسواق السمك، والأسواق الشعبية في القاهرة كما لدى نجيب محفوظ، وانتهاءً بأسواق العبيد التاريخية في مكة المكرمة، مرورًا بما هو شعبي منها. كل هذا يجعلنا نعيد التفكير في أهمية السوق داخل فضاءات المدينة، وتأثيره بالغ الأهمية في حياة الناس الحقيقية، وكذلك المجازية داخل النصوص الأدبية.


مقالات ذات صلة

الهجرة واحدة من أكبر المؤثرات في صياغة تاريخ الإنسانية، وفي نشوء الأمم، وفي التلاقح الثقافي، وتغيير أحوال ملايين البشر. في هذا الملف، يستطلع عبود طلعت عطية بعضًا مما تنطوي عليه الهجرة.

الهجرة النبوية تشكّل حالة استثنائية في التاريخ الإنساني على مستوى توثيق تفاصيلها، خلافًا لأحداث تاريخية عظمى حدثت في زمن أقرب إلينا.

الفرد ما إن يعقد العزم على الهجرة حتى تطغى عليه مشاعر وهواجس واهتمامات تُحيله شخصًا غير ما كان عليه، وستبقيه كذلك لبعض الوقت بعد وصوله إلى مهجره.


0 تعليقات على “السوق في الرواية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *