في روما القديمة كانت المصافحة تُستخدم في الغالب كرمز للصداقة والولاء. حتى إن صوراً لأزواج من الأيدي المتشابكة للمصافحة ظهرت على العملات المعدنية الرومانية. ويعتقد البعض أنه في تلك الفترة التاريخية، نشأت المصافحة كبادرة سلام، من خلال إظهار أن لا أحد من الطرفين يحمل سلاحاً في يده. حتى إن الرومان كانوا خلال المصافحة يمسكون بأكمام بعضهم بعضاً للتأكد من أن أحدهم لا يخفي خنجراً في ملابسه.
كان وجوب الامتناع عن المصافحة من باكورة النصائح التي أعطاها الطب للوقاية من التقاط عدوى كوفيد19-. فهذه العادة العالمية ذات الدلالات الإيجابية العديدة، أصبحت للمرَّة الأولى في التاريخ مصدر خطر وسبباً للهلاك. الأمر الذي يشكِّل مناسبة للتوقف أمام هذا الفعل الذي يبدو بسيطاً ويقتصر على شبك كفّي شخصين، ولكنه في الواقع ذو تاريخ عريق ودلالات تبقى راسخة فيه، مهما تجاهلناها بحكم الاعتياد على المصافحة.
تختلف أشكال التحيات باختلاف الثقافات. ففي التيبت يتم إخراج اللسان كطريقة للترحيب بالآخرين. وفي نيوزيلندا يحيِّي الماوري بعضهم بعضاً بتلامس أنوفهم. ويسلّم الرجال الإثيوبيون على بعضهم من خلال لمس الأكتاف. أما في جمهورية الكونغو الديمقراطية فيلمس الأصدقاء الذكور جباه بعضهم الآخر للتحية. وتُعدُّ الانحناءة طريقة التحية المثلى في عديد من البلدان الآسيوية. بينما في بعض الدول الأوروبية المتوسطية وكذلك الدول العربية يُعدُّ العناق أو التقبيل على الخد طريقة التحية الأكثر انتشاراً. ووسط هذا التنوُّع الكبير في عادات التحية تبقى المصافحة باليد الطريقة الأكثر شيوعاً في جميع أنحاء العالم. ولكن كيف بدأت طريقة التحية هذه التي أصبحت تلقائية، حتى إننا لا نتردَّد أبداً في مد يدنا اليمنى للمصافحة في كل مرَّة نلتقي قريباً كان أم بعيداً؟
تاريخها العريق
لا شك في أن المصافحة كانت موجودة بشكل أو بآخر منذ آلاف السنين. إذ تم العثور على واحدة من أقدم الصور للمصافحة، وهي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، في منحوتة تُظهر الملك الآشوري شلمنصر الثالث وهو يصافح حاكماً بابلياً للتعبير عن عقد تحالف بينهما.
كما تُظهر الآثار والنصوص القديمة أن المصافحة التي كانت تسمى باللاتينية باسم (dexiosis) (أي أعطِ يدك اليمنى)، كانت تمارس في اليونان القديمة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، إذ نجد عند الشاعر الملحمي هوميروس عدة إشارات إلى المصافحة في ملحمتي الإلياذة والأوديسة، لا سيما عندما يتعلَّق الأمر بإبرام المعاهدات وإظهار الثقة.
وكانت هذه الإيماءة أيضاً فكرة متكرّرة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، وأكثر ما نجدها في الفن الجنائزي اليوناني، إذ غالباً ما كانت تصور شو
تماماً كما تفعل الحيوانات بشم بعضها بعضاً كوسيلة لمعرفة ما إذا كان الحيوان الآخر عدواً أم صديقاً، يقوم معظم الأشخاص برفع أيديهم إلى أنوفهم بعد المصافحة لتعزيز الانطباع عن الشخص الآخر، وللتحقق من الإشارات الكيميائية التي يمكن استكشافها من خلال حاسة الشم.
هد القبور الشخص المتوفى وهو يصافح أحد أفراد عائلته في إشارة إلى وداع أخير، أو إلى العلاقة الأبدية بين الأحياء والأموات.
وفي روما القديمة كانت المصافحة تُستخدم في الغالب كرمز للصداقة والولاء. حتى إن صوراً لأزواج من الأيدي المتشابكة للمصافحة ظهرت على العملات المعدنية الرومانية. ويعتقد بعض أنه في تلك الفترة التاريخية، نشأت المصافحة كبادرة سلام، من خلال إظهار أن لا أحد من الطرفين يحمل سلاحاً في يده. حتى إن الرومان كانوا خلال المصافحة يمسكون بأكمام بعضهم بعضاً للتأكد من أن أحدهم لا يخفي خنجراً في ملابسه. ويقول بعض العلماء المسلمين إن عادة المصافحة عند العرب أول ما بدأت في اليمن، ومن ثم انتشرت في المحيط العربي مع توسع الدولة الإسلامية. وللدلالة على ذلك هناك ما رواه أبو داود عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة”.
المصافحة: عقدة الربط ذات المعاني المتعدِّدة
وعلى مر السنين، تغيَّرت السياقات وطوّرت هذه الإيماءة الرموز الخاصة بها. وأصبحت التحية اليومية الأكثر شيوعاً في معظم الثقافات في العالم. حتى إن الأبحاث تشير إلى أن الشخص العادي يصافح ما معدَّله 15,000 مرَّة في حياته.
ولأن وضعية الأيادي التي تتشابك في المصافحة تشبه العقدة، يصف عالم الإنثروبوجيا دزموند موريس المصافحة بـ “عقدة الربط” التي تربط بين طرفين. ويمكن لعقدة الربط هذه أن ترمز إلى معانٍ متعدِّدة. فهي إما تكون تحية ودية، أو علامة احترام، أو لإبرام اتفاق، أو لمجرد ملء اللحظات المحرجة عند مقابلة شخص غريب لأول مرَّة، أو حتى للدلالة على أن الشخص الآخر موثوق به بما فيه الكفاية لمشاركة الجراثيم معه! كما تقول العالمة السلوكية الأستاذة في كلية لندن للصحة والطب المداري فال كيرتس في كتابها “لا تلمس. لا تنظر”. وفي ذلك أهمية خاصة لا سيما عندما نعرف أنه، حسب دراسة أجرتها جامعة كولورادو نشرت في مجلة “المحادثة” في عام 2018م، يوجد على يد الإنسان في المتوسط كمية تقدَّر بأكثر من ثلاثة آلاف من الجراثيم والكائنات الحية الدقيقة المختلفة التي تنتمي إلى 150 نوعاً مختلفاً.
وإضافة إلى ذلك، هناك تفسير علمي وراء الأسباب التي تدفعنا إلى المصافحة وتعطيها قوتها الدائمة، فالمصافحة قد تكون أكثر غريزيةً مما نعتقد، بحيث يمكن استخدامها من دون وعي للكشف عن الإشارات الكيميائية التي تنبعث من الأشخاص الآخرين. فقد لاحظت إحدى الدراسات أنه، تماماً كما تفعل الحيوانات بشم بعضها بعضاً كوسيلة لمعرفة ما إذا كان الحيوان الآخر عدواً أم صديقاً، يقوم معظم الأشخاص برفع أيديهم إلى أنوفهم بعد المصافحة لتعزيز الانطباع عن الشخص الآخر، وللتحقق من الإشارات الكيميائية التي يمكن استكشافها من خلال حاسة الشم.
مع انتشار فيروس كورونا، ظهرت ثقافة جديدة أدَّت إلى إعادة تعريف معايير اجتماعية كانت قد تشكَّلت لأجيال، وفرضت ترسيماً مختلفاً للمسافات المكانية بين الأشخاص، ما جعل التخلي عن المصافحة بالأيدي أمراً مطلوباً.
أهميتها في تكوين الانطباع الأول
هذا من الناحية الحسية، أما من الناحية النفسية فقد تكون المصافحة من أبرز الأدلة غير اللفظية التي نحصل عليها عن شخصية الآخر الإجمالية، مما يشكِّل أهمية خاصة لا سيما في عالم الأعمال.
في كتابها “أسطورة الجاذبية” تقول المؤلفة أوليفيا فوكس كابان، إن للمصافحة أهمية كبرى خلال مقابلات العمل حتى إن أحد المديرين التنفيذيين في شركة كبرى قال ذات مرَّة إنه إذا كان عليه أن يقرِّر بين اثنين من المرشحين لوظيفة ما، وكانت لديهما مؤهلات مماثلة، فسيعطي المنصب للمرشح صاحب المصافحة الأفضل. ويؤكد على هذه المسألة أيضاً ألن كونوباكي الذي يدير شركة للتدريب على المبيعات في شيكاغو اسمها “إنكوم”، فيقول إنه يمكن للمصافحة أن تسهم في إتمام الصفقة أو إلغائها. إذ إن المصافحة الجيدة توجِد مستوى أعلى من الثقة ودرجة من الألفة في غضون ثوانٍ وتسهم في تكوين انطباعٍ جيدٍ.
تفسير علمي لقوتها الدائمة
في أول دراسة قدَّمت أساساً علمياً للمعتقدات الراسخة حول الدور المهم الذي تلعبه المصافحة في التفاعلات الاجتماعية والتجارية، قام علماء في معهد بيكمان التابع لجامعة الينوي في الولايات المتحدة الأمريكية بدراسة نشرت نتائجها في عدد ديسمبر 2012م من “مجلة علم الأعصاب الإدراكي” (Journal of Cognitive Neuroscience) حول الارتباطات العصبية للمصافحة. فقد راقبت الدكتورة فلورين دولكوس، القائمة على الدراسة ما يحدث في الدماغ عند المصافحة، وذلك عن طريق تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي. وقد بيّنت الصور الدماغية أن النواة المتكئة، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة المكافآت في الدماغ البشري، أظهرت نشاطاً أكبر عند حصول المصافحة، في دلالة على ارتباط التأثير الإيجابي للمصافحة على التقييم الاجتماعي اللاحق. ولكن الدكتورة دولكوس نفت أن تثير أي مصافحة مشاعر إيجابية، ولكن طريقة معيَّنة لمصافحة الأيدي، مثل المصافحة القوية المليئة بالثقة والود، كما يتم الترويج لها غالباً كممارسة تجارية جيدة، أو بشكل أدق المصافحة التي تترافق مع التواصل المستمر بالعينين والقيام بإيماءة بسيطة بالرأس واتخاذ خطوة طفيفة إلى الأمام، وتمديد اليد اليمنى في حركة مباشرة واحدة قبل الإمساك بيد الشخص الآخر مع قدر مناسب من الضغط. ولا شك في أن النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة لها أهمية خاصة لأولئك الذين يريدون ترك انطباع جيد.
هل يمكننا التخلِّي عن المصافحة في زمن الجوائح؟
أما اليوم، ومع انتشار فيروس كورونا، ظهرت ثقافة جديدة أدت إلى إعادة تعريف معايير اجتماعية كانت قد تشكَّلت لأجيال، وفرضت ترسيماً مختلفاً للمسافات المكانية بين الأشخاص، ما جعل التخلِّي عن المصافحة بالأيدي أمراً مطلوباً.
والواقع أن هذا التحوُّل جعلنا نتنبَّه إلى مكانة المصافحة في حياتنا، وما كانت تضفيه على مجمل تفاعلاتنا الاجتماعية لا سيما في الثقافة العربية بحيث أكثر
هل بإمكان مثل هذه التحيات أن تحلَّ مكان المصافحة بشكل دائم؟ أم أن تراجع حضور المصافحة التقليدية عن المشهد الاجتماعي سيكون مؤقتاً؟ لا بد من أن الزمن هو الوحيد الذي يستطيع الإجابة عن هذا السؤال.
ما ترسخت مع وصايا لقمان لابنه عندما قال له: “يا بني ابدأ الناس بالسلام والمصافحة قبل الكلام” ومن ثم ازدهرت كوسيلة للتعبير عن القبول والترحيب وكرم الضيافة الذي اشتهر به العرب منذ القدم. ودخلت لاحقاً، كما في كل بلدان العالم، في شتى مجالات الحياة لنجدها كالتعبير الأمثل لإتمام المصالحات وعقد الصفقات وحتى في الألعاب الرياضية التي عادة ما تبدأ وتنتهي بالمصافحة بالأيدي حتى في حال الخسارة بحيث لا تعني فقط احترام الفريق الخصم بل احترام اللعبة الرياضية بحد ذاتها أيضاً. ولكن اليوم أصبحنا نفتقد هذه “اللفتة الغنية بالدلالات”، كما وصفها الممثل والمدير المسرحي البريطاني هنري سيدونز في كتابه الصادر في عام 1807م “الرسوم التوضيحية العملية للإيماءات والتصرفات البلاغية”، بقوله: “اليد التي تمتد للمصافحة هي اللسان الذي يعبِّر عن نوايا القلب الحسنة”.
ولما فرض علينا التباعد الاجتماعي العزوف عن المصافحة، ولأننا مخلوقات لا تسير إلا وفق طقوس اجتماعية معيَّنة، وربما لأننا نريد أيضاً أن نعبِّر عن “نوايا القلب الحسنة”، كان لا بد لنا في زمن الكورونا من ارتجال تحيات جديدة، فبرزت تحية لمس الكوع بالكوع كتحية جديدة في البداية، ولكنها مثلها مثل المصافحة لم تكن محمودة من قبل القيّمين على منظمة الصحة العالمية، لأنها لا تزال تجبر الناس على ملامسة بعضهم الآخر والمنطق نفسه ينطبق على ضربة القبضة أيضاً، وقد تكون التحية الأنسب هي تلك التي طورها مواطنو مدينة ووهان الصينية، حيث بدأ الوباء، والتي تعرف بـ “تحية ووهان” والتي تترجم بتلامس القدمين كوسيلة للتحية.
ولكن السؤال الذي يبرز هنا: هل بإمكان مثل هذه التحيات أن تحل مكان المصافحة بشكل دائم؟ أم أن تراجع حضور المصافحة التقليدية عن المشهد الاجتماعي سيكون مؤقتاً؟ لا بد من أن الزمن هو الوحيد الذي يستطيع الإجابة عن هذا السؤال. ولكن في الوقت الحاضر، ولكل من يشعر بضرورة التمسك بتحية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تكوينه الاجتماعي، قد يكون من الأنسب الاقتداء بما كان يقوم به الرسام فنسنت فان جوخ الذي كان يكتفي عند اختتام رسائله بعبارة “مع مصافحة حارة”.
اترك تعليقاً