إن التاريخ الرسمي لانتصار الإسبان على العرب في عام 1492م، لم يكن في الواقع نهاية وجود المسلمين في الأندلس. فهذا خطأ شائع يقيس عليه أغلب المؤرِّخين العرب. ففي حقيقة الأمر كان علينا أن ننتظر حتى عام 1616م، عام الطرد النهائي الرسمي، كي يمكننا القول عملياً بانتهاء الوجود الإسلامي في إسبانيا. إذ إن كثيراً من العائلات والأفراد تمكنوا بشكل وآخر من البقاء بين السكان، على الرغم من الصعوبات الجمَّة والعقبات الكبيرة التي وضعتها السلطات الدينية والسياسية.
من تلك الفترة الحرجة، وصلتنا كتابات خاصة عُرفت في ما بعد باسم الآداب الآلخميادية الأعجمية، من إنتاج الموريسكيين أو المواركة، الذين عاشوا في إسبانيا بعد عام 1492م. وهذه الآداب المتنوِّعة المشارب والاتجاهات هي ابتكار خاص بهذه الأقلية دون غيرها، ولعلها الأولى من نوعها التي دونت بلغة لاتينية (الإسبانية تحديداً) ولكن بحروف عربية. فخلال ذلك الوضع العسير من ملاحقات ومراقبة وتهجير وتقتيل، لم يكن أمام علماء الجالية المسلمة وأدبائها، غير التوصل إلى حل يمكّنهم من وضع عصارة أفكارهم ومؤلفاتهم في مدونات سرية بعيداً عن أعين السلطات الحاكمة. وهذا ما يُعرف بالمخطوطات الموريسكية أو الكتابات الأعجمية حسب تصنيف أغلب الباحثين الغربيين.
ظل هذا الأدب مجهولاً ولا يُعرف عنه إلا القليل حتى نهاية القرن التاسع عشر. المصادفة وحدها أخرجت هذه المخطوطات إلى الضوء. إذ إن العثور عليها كان نتيجة انهيار جدار في بيت عتيق في قرية الموناثيد دي لا سييرا القريبة من مدينة سرقسطة في شمال شرق إسبانيا، وذلك عندما كان عدد من العمال يهدم بعض الأبنية، سقط أحد الجدران الوسطية ما بين غرفتين، وظهر كمٌّ هائل من الكتب مخبأة خلف جدار مزيف بُني لغرض التمويه وإخفاء هذه الكتب الممنوعة. فعديد من الموريسكيين الذين بقوا على الأراضي الإسبانية أو طُردوا منها قد خبأوا كنوزهم الثمينة من آداب وعلوم، في أماكن سرية من بيوتهم وأراضيهم التي سيفقدونها في ما بعد نتيجة التهجير القسري نهايات القرن السادس عشر. ولم يكتشف الباحثون سرها ولا حل رموز لغتها الغريبة حتى مطلع القرن العشرين.
وفي العصر الحديث، كثرت الدراسات والبحوث المتعلِّقة بهذا التراث الثقافي الموريسكي، وأُرجع أغلبها إن لم يكن كلها إلى اللغة الإسبانية ومن ثم تُرجمت إلى لغات العالم قاطبة. ولكن اللافت هو قلة الكتابات العربية في هذا الحقل، وكأننا غير معنيين بالأمر، أو كأن هذه الآداب العربية الإسلامية الصبغة لا علاقة لها بنا وبعوالمنا وآدابنا.
إن دراسة المخطوطات الموريسكية وإخراجها إلى النور والتمعن بمعارفها وترجمتها إلى العربية في أقرب فرصة ما هو إلا إحقاق لوضع عاشه من نعدُّهم جزءاً مهماً من تاريخنا العربي. فآداب الموريسكيين الأعجمية المخطوطة، أو تلك المنشورة منذ سنين في الأساطير والأشعار المنتخبة والفنون والفقه والترجمات وآداب الرحلة إلى الديار المقدسة وكتب التفسير والتعمق بالديانة والمعتقدات، تبقى رغم تنوعها واختلاف مراجعها مصدراً مهماً لكل الدارسين عرباً وأجانب.
إذا كان الباع الأكبر في استخراج هذه المخطوطات ونشرها والتعريف بها هو لأجيال متتالية من الباحثين الإسبان والغربيين من جنسيات مختلفة، فالدور المنوط بالباحثين العرب هو أن يكملوا ما تم التعريف به في كتب مهمة تناولت الآداب الموريسكية السرية بصورة عامة، وعلى وجه الخصوص أدب رحلات الحج، مثل رحلتي الحاج بوي مونثون وابن بطون إلى مكة المكرمة والعودة متخفيين إلى الأندلس والكتابة عن تجربتهما الكبيرة، وعن المغازي والحروب والأساطير الدينية وأشعار محمد ربضان المذكّرة بكل ما هو عربي إسلامي من الممكن استعادته، وكذلك مخطوطات الحكايات الشعبية وقصص الأجداد وما وصل إليهم عن طريق الكتب الممنوعة والنسخ القرآنية المترجمة وحفظ التقاليد والتراث الشفاهي.
إنها مهمة مهيبة، من الصعب التصدي لها بمشروع واحد. لكنه تراث بالغ الأهمية، يستحق التعريف به والاعتزاز بقيمته ومكانته العالمية.
قرأت في مقال اخي د.عبد الهادي سعدون عن رحلة ابن بطون ، احتاج منها نسخة بصيغة pdf ..تحياتي ودعائي للجميع.