نشأت صناعة القفازات مبكرًا جدًا من الوعي بوجوب حماية اليدين من المؤثرات الخارجية، ولجأ الإنسان إلى استخدامها لأسباب مختلفة، منها حماية اليد في المهن الشاقة، ومن البرد، وتزينًا لدى الطبقات الراقية في السلطة والمجتمع، ثم بوصفها ضرورة صحية.
وتـكشف رسوم الكهوف عن قفازات بسيطة ارتداها البشر. ومن أقدم قفازات الرفاهية في التاريخ التي وصلت إلينا، قفازات الملك الصغير توت عنخ آمون (1343- 1323 ق.م). عُثر عليها في مقبرته المكتشفة عام 1922م، وكانت زوجًا مصنوعًا من الكتان الأنيق يُربط عند المعصمين، وعلى الأرجح كان الفرعون يستخدمهما عندما يركب عربته اتقاء لخشونة اللجام، أو هذا ما يفترضه مايكل ريدوود مؤلف كتاب “القفازات وصناعة القفازات”، الذي يعتقد أن هذه كانت البداية التي جعلت للقفازات أهميتها بالنسبة إلى الملوك ورجال الدين والقضاة في العصور الوسطى الأوروبية.
واستمر العالم في إنتاج القفازات من الأقمشة الفاخرة لتكملة الأزياء الرسمية عند النساء الأرستقراطيات، ومن الصوف والجلد للوقاية من البرد، ومن الألياف الصناعية الغليظة لحماية أيدي العمال في الصناعات الخشنة، وبطرز خاصة بسائقي السيارات والدراجات النارية تبقي الأصابع عارية للأعمال الدقيقة وتحمي المقود من تعرّق راحة اليد. أمَّا أضخم قطاع في صناعة القفازات وأهمها على الإطلاق، فهو قطاع القفازات الطبية.
تـكلفة حماية اليد
خلال جائحة كوفيد – 19، بلغ الاهتمام بارتداء القفازات الواقية من العدوى ذروة غير مسبوقة، حتى إن بعض حكومات العالم فرضت ارتداءها في كل الأماكن العامة. ولهذا الشكل من حماية اليدين تاريخ يعود إلى ما قبل قرن ونصف من الزمن.
ففي بداية القرن التاسع عشر، لم تكن الكائنات الدقيقة قد اُكتشِفت بعدُ، وكانت بعض تشققات الأيدي وجروحها لا تندمل، وكان بعضها يسبب الموت. وساد الاعتقاد أن نوعًا من الهواء الفاسد يتسبب في هذه الجروح المميتة. هذه الظاهرة قادت إلى اكتشاف التعقيم عند منتصف القرن، بفضل الطبيب البريطاني الشهير جوزيف ليستر وآخرين. ولكن العاملين في المهن الطبية بقوا عرضة للعدوى على الرغم من استخدام المطهرات. وعانى كثير منهم آثارًا جانبية شديدة كالحساسية؛ فكانت القفازات الواقية هي الحل.
ويروي مقال في موقع لشركة متخصصة في هذه الصناعة (sritranggloves) القصة الشائقة لهذا التطور. ففي عام 1889م، أخبرت رئيسة الممرضات الجراحية في مستشفى جون هوبكنز، كارولين هامبتون، مشرفها الطبيب ويليام هالستد، بعزمها على ترك مهنتها بسبب المضاعفات الشديدة للمطهرات على جلدها أثناء المشاركة في العمليات الجراحية وبعدها. فما كان منه إلا أن أخذ قالبًا ليديها وأرسله إلى شركة جوديير للمطاط، لتُنتج عددًا من القفازات للممرضة وللطاقم الطبي بالمستشفى. وقد أشاد الجميع بالقفازات التي حمت أيديهم وحسَّنت من قدرتهم على الإمساك بالأدوات المبتلة.
بعد ذاك التاريخ، شاع استخدام القفازات الطبية، ومع زيادة الوعي بالصحة اتسع استخدام القفازات في مهن أخرى لحماية الأيدي وتحسين الخدمة في مهن مثل: الطبخ، وتقديم الطعام، وبيع الحلوى، والمخبوزات. واستُخدمت في صناعتها خامات عديدة مثل اللاتكس والفينيل. ويُقدِّر موقع (Data Bridge Market Research Private Ltd) حجم تجارة القفازات في العالم بمبلغ 24.65 مليار دولار أمريكي في عام 2023م، ومن المتوقع أن يصل إلى 50.58 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2031م، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ %9.4.
أمَّا فيما يتعلق بمراهم اليدين المستخدمة في الترطيب والحماية من الشمس أو العلاج بالروائح العطرية ومكافحة تجعّد البشرة، فيقُدَّر حجم سوقها العالمية استنادًا إلى موقع “غراندفيو ريسرتش” (Grandview research) بنحو 779.7 مليون دولار أمريكي في عام 2023م، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل سنوي مركّب قدره %6.3 من عام 2024 م إلى عام 2030م. ويُعزى نمو السوق إلى زيادة وعي المستهلكين بنظافة اليدين وأهمية العناية بهما.
إصبع الفداء
اليد هي التي تفعّل كل أسلحة الحروب، من السيوف والرماح، إلى أجهزة إطلاق القنابل النووية. ولكن في مواجهة اليد القاتلة، هناك حالة تاريخية تستحق أن تُروى حول إصبع الفداء.
فمن المعلوم في الجيوش الحديثة أنه إن فقد المرء إصبعًا واحدة، فإنه يفقد صلاحيته للتجنيد والحرب. وفي مصر خلال الاحتلال الإنجليزي، كان الفلاحون الخائفون من قسوة التجنيد لصالح الجيش الإنجليزي يعمدون إلى قطع السبابة أو السبابة والوسطى لإعفائهم من احتمالات عالية للموت في معسكرات العمل الشاق والحروب. وكانت الإصبع المقطوعة تُدثر في كفن صغير وتُفتح من أجلها المقبرة لتُدفن كما يليق بعضو راح فداءً لباقي الجسد. أمَّا الشاب الذي لم يكن يمتلك الجرأة لوضع إبهامه تحت ساطور الجزار، فقد كان مشهد رحيله عن البيت يشبه مشاهد تشييع الميت. يجتمع الأقارب في منزله، بينما يخرج المُستدعى لـ”الفرز” والفحص الطبي في منطقة التجنيد بصحبة أخيه أو أبيه. ويبقى الرجال في الانتظار جالسين، بينما تلتف النساء حافيات حول الأم في ملابس الحداد، وعندما يعود المرافق وحيدًا تهب عاصفة الصراخ، ولا تفتأ الأم تعدد على ولدها الغائب تعدادها على الميت.
اترك تعليقاً