تتحدث أسطورة إيسوب “الأرنب والسلحفاة” عن سباق بين الأرنب السريع والسلحفاة البطيئة، بحيث ينطلق الأرنب إلى الأمام في بداية السباق، ولكنه بعد ذلك، وبسبب ثقته المفرطة، يصيبه الغرور فيقرر أن يأخذ قيلولة. في حين تواصل السلحفاة السير ببطء وثبات حتى النهاية. وعندما يستيقظ الأرنب من نومه، يجد أن السلحفاة قد وصلت إلى خط النهاية وفازت في السباق؛ لتعلّمنا أن المثابرة والتصميم يمكن أن يؤديا في كثير من الأحيان إلى النجاح، حتى ضد أسرع المنافسين.
ومثلما أن الفوز في السباق بين الأرنب والسلحفاة، وإن كان سباقًا خياليًا، قد تطلب أمورًا أكثر من مجرد السرعة، هناك أيضًا كثير من السباقات في الواقع يتطلب الفوز فيها أمورًا أخرى إلى جانب السرعة، مثل: الإستراتيجية والمثابرة والعمل الجماعي وأحيانًا التضحية.
فإذا ما نظرنا إلى رالي داكار، مثلًا، وهو سباق السيارات الذي كان يُقام في الأصل في العاصمة السنغالية داكار وفي فرنسا، والذي أصبح منذ 2020م يُقام في المملكة العربية السعودية؛ نجد أنه سباق يتطلب قدرة على التحمل على الطرق الوعرة، ويمثّل تحديًا للمتنافسين لقطع آلاف الكيلومترات من التضاريس الصعبة عبر الصحاري والجبال والكثبان الرملية. وبذلك فهو يتطلب مهارات ملاحية استثنائية، والوثوق بميكانيك السيارة. وهناك أيضًا ماراثون بوسطن الذي يُعدُّ أحد أقدم سباقات الطرق وأعرقها في العالم، ويمثل تحديًا فريدًا للمشاركين فيه. ففي حين أن السرعة مهمة بلا شك، ولكن الفوز بماراثون بوسطن يتطلب أيضًا عقلية تكتيكية وسرعة إستراتيجية وصلابة ذهنية، لا سيَّما بسبب التضاريس الجبلية التي تتخلل مساره وظروف الطقس غير المتوقعة.
ومن الأمثلة أيضًا، سباق فرنسا للدرّاجات، وهو السباق الأشهر في مجال ركوب الدراجات، والمعروف بمساره الشاق والمنافسة الشرسة بين المتسابقين. ففي حين أن مراحله الفردية غالبًا ما تكافئ السرعة والقوة، فإن الفوز بسباق فرنسا للدرَّاجات بشكله الجماعي يتطلب أكثر بمراحل من مجرد السرعة، فهو يتطلب قدرة استثنائية على التحمل وتخطيطًا إستراتيجيًا وعملًا جماعيًا وقدرة على تجاوز مختلف التضاريس، مثل الجبال والسهول وتجارب الزمن. علاوة على ذلك، يجب على الدرّاجين أن يتنقلوا بين تعقيدات ديناميكيات الفريق، وتكتيكات السباق، والظروف الطبيعية غير المتوقعة، بينما يتحملون ثلاثة أسابيع من المجهود البدني والعقلي المكثف.
وفي سباقات الخيل، يؤدي الفرسان دورًا محوريًا في تحديد وتيرة السباق؛ إذ يجب عليهم قياس سرعة فرسهم والمنافسة بعناية، ووضع أنفسهم بشكل إستراتيجي داخل المجموعة للحفاظ على الطاقة والقيام بخطوات حاسمة في اللحظات المناسبة. فمن خلال التحكم في إيقاع السباق، يمكن للفرسان التأثير في النتيجة وزيادة فرص نجاح خيولهم. فضلًا عن ذلك، يجب أن يتمتع الفرسان بغرائز سباق استثنائية ووعي تكتيكي؛ إذ عليـهم توقُّع تحركات الخيول الأخرى، وتحديد التهديدات أو الفرص المحتملة، واتخاذ قرارات في أجزاء من الثانية في مواقف الضغط العالي. وسواء أكان الأمر يتعلق بتحديد خط السباق الأمثل، أم توقيت الاندفاع في الوقت الملائم لخط النهاية، أم القيام بخطوات جريئة لتجاوز المنافسين؛ فإن قدرة الفارس على قراءة السباق وتنفيذ المناورات الإستراتيجية أمر بالغ الأهمية.
سباق الهجن إرث عربي عريق
على الرغم مما لدور الإنسان المتسابق من أهمية، ثمة فئة من السباقات تكون بمشاركة حيوان ينتزع منه الأهمية الأولى. فمع الخيول يصبح اسم السباق “سباق خيل”، وليس سباق فرسان، ومع الإبل “سباق هجن” وليس سباق هجّانة. ومع أصالة الخيول العربية، فإن سباقات الخيل مرتبطة تاريخيًا بالحضارتين الأوروبية والآسيوية الشرقية (الصين ومنغوليا). أمَّا عربيًا، فيستحق الأمر أن نتوقف أمام سباق الهجن، الذي يُعدُّ من أقدم الرياضات وأكثرها تقليدية في العالم العربي، لا سيَّما في المملكة وجوارها الخليجي.
تعود هذه الرياضة في أصولها إلى العصور القديمة، عندما كانت القبائل البدوية تستعرض أسرع الهجن لديها بوصفها وسيلة لعرض ثروتها ومكانتها. فكانت السباقات بمنزلة شكل من أشكال المنافسة الودية بين القبائل المختلفة التي ساعدت على إقامة تحالفات فيما بينها. والهجن نوع من الإبل، تُستخدم للرياضة والركوب، وتتسابق فيما بينها بسرعة تصل إلى 64 كيلومترًا في الساعة في مضامير مخصصة لهذا السباق. وتتميز بأنها أصيلة، من نسل السلالات العربية المؤصلة، التي تُعرف بأبناء أو بنات النوق الأصايل؛ وذلك لأنها تتصف بصفات خاصة تؤهلها للجري السريع، إضافة إلى صفاتها العامة.
وإن بدا أن هناك شبهًا بين رياضة الهجن وسباق الخيل، فإنهما يختلفان من حيث صفات الفرسان. إذ جرت العادة سابقًا بالنسبة الفرسان في سباقات الهجن أنهم يكونون من الأولاد الصغار الذين يجري تدريبهم خصوصًا لهذه الرياضة، فيكونون خفيفي الوزن ورشيقين، ويمتلكون المهارات المطلوبة لركوب الجمال بسرعات عالية. أما مؤخرًا فصار يُستعاض عنهم براكب آلي يصل وزنه إلى 2 أو 3 كيلوجرامات فقط لتحافظ الإبل على خفتها وسرعتها.
وأصبحت هذه الرياضة القديمة، رياضة قديمة حديثة، وعُدَّت في بعض البلدان رمزًا للثقافة والهوية، فراحت تُعقد لها سباقات منظمة وفق معايير عالمية، وتترافق مع مهرجانات واحتفالات شعبية كبيرة. وتتباين الميادين الخاصة بها من بلد إلى آخر من ناحية الشكل، فقد تكون على شكل مضمار مستقيم أو دائري أو بيضاوي، وتُقام فيها السباقات لمسافات مختلفة لا تتعدى عادة دورة واحدة حول الميدان البيضاوي أو الدائري، وتتراوح ما بين 8 كيلومترات و10 كيلومترات، وقد تصل إلى 22 كيلومترًا.
سباقات الهجن السعودية
ولأن هذه الرياضة موروث سعودي بوجه خاص، فليس من المستغرب أن يكون هناك اهتمام خاص في المملكة بسباقات الهجن، وكل المهرجانات المصاحبة لها. ومما يعكس هذا الاهتمام، إنشاء “الاتحاد السعودي لسباقات الهجن” الذي يتولى مسؤولية تنظيم بعض أكبر سباقات الهجن في العالم، وأبرزها مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل. ويستقطب هذا الحدث السنوي في مدينة الرياض، أصحاب الإبل وعشاقها من جميع أنحاء العالم، ويضم مجموعة متنوعة من المسابقات، مثل: سباقات الهجن العربية الأصيلة، ومسابقة ملكة جمال الإبل، وحتى مسابقة الروبوتات التي تركب الجمال. وقد اتخذ الاتحاد السعودي لسباقات الهجن كثيرًا من الخطوات لتحديث رياضة سباقات الهجن في المملكة، من بينها استخدام أجهزة التتبع الإلكترونية على الهجن التي تتيح مراقبة سرعة الإبل وموقعها أثناء السباق، والتأكد من عدم تجاوزها السرعة القصوى المسموح بها وبقائها في المسار المخصص لها. كما أطلقت المملكة منصة إلكترونية بعنوان “وثقها”، تهدف إلى حفظ سلالات الإبل وتوثيقها، عبر الاستعانة بالحمض النووي لها ومنحها بطاقة شخصية.
الماراثون أيقونة السباقات
يحتل الماراثون مكانة فريدة في عالم السباقات، إذ أصبح اليوم من أشهر السباقات وأكثرها شعبية على الإطلاق. كما أنه خير مثال عن السباق بين الإنسان وآخر من دون مطية ولا مركوب.
يبلغ عمر الماراثون، كما نعرفه اليوم، حوالي 128 عامًا، لكن تاريخه الفعلي يعود إلى أبعد من ذلك؛ إذ كان يُقام في الألعاب الأولمبية القديمة، التي استمرت من 776 قبل الميلاد إلى 261 بعد الميلاد، وكان أطول سباق آنذاك لا يتعدى 5 كيلومترات فقط. وبعد حوالي 2500 سنة، أُعيد إحياء فكرة هذا السباق للمسافات الطويلة على يد البارون الفرنسي بيير دي كوبرتان، الذي سعى لإقامة مهرجان رياضي دولي يعتمد على الألعاب الأولمبية القديمة. وبالفعل أُقيمت أول دورة ألعاب أولمبية حديثة في أثينا عام 1896م، وقد اعتُمِد الماراثون جزءًا أساسًا من برنامجها. أمَّا تسميته بسباق “الماراثون”، فذلك لأن جذوره الأولى تعود إلى السباق الأسطوري الذي قام به أحد المقاتلين اليونانيين ويُدعى فيديبيدس في عام 490 قبل الميلاد، بعد أن قطع مسافة حوالي 40 كيلومترًا جريًا على الأقدام من مدينة ماراثون في اليونان إلى أثينا. أمَّا غايته، فكانت نقل رسالة من أرض المعركة، التي كان يخوضها الجيش اليوناني ضد الفرس في مدينة ماراثون، ليعلن فيها انتصار جيش بلاده. وعند وصوله إلى أثينا، لم يتسنَّ له سوى إطلاق صرخة النصر “Nike” قبل أن يسقط على الأرض ويُفارق الحياة من شدة التعب والإرهاق.
فيديبيدس في عام 490 قبل الميلاد، الذي قطع مسافة حول العالم في ثمانين يومًًا. حوالي 40 كيلومترًًا جريًًا على الأقدام من مدينة ماراثون في اليونان إلى أثينا.
وحرصًا على الحفاظ على روح فيديبيدس، باتت المسافة المعتمدة في أولى الماراثونات الحديثة في الألعاب الأولمبية 40 كيلومترًا أيضًا، ولكن هذه المسافة تغيَّرت في أولمبياد لندن الذي أقيم عام 1908م، وحُدّدت مسافة أخرى بقيت معتمدة حتى اليوم. ففي ذلك الأولمبياد، وفي البداية، حُدِّد طول الماراثون من قلعة وندسور في لندن إلى ملعب وايت سيتي، بـ 25 ميلًا تقريبًا، أو 40 كيلومترًا كما هو متعارف عليه، ولكن، الطلب المتأخر من الملكة لإعادة نقطة البداية إلى الحديقة الشرقية لقلعة وندسور، حيث يمكن لأطفال العائلة المالكة رؤية السباق من الحضانة الخاصة بهم، أضاف حوالي كيلومترين لمسافة الماراثون، وبالتالي باتت مسافته الرسمية 26.2 ميلًا أو 42.195 كيلومترًا.
وفي حين عزَّز سباق الماراثون في أولمبياد لندن عام 1908م، مكانة هذا الحدث الرياضي المهم ضمن نسيج المهرجان الأولمبي متعدد الرياضات الذي يُقام كل أربع سنوات، بات يُنظَّم أيضًا بوصفه نشاطًا مستقلًا في عدة مدن في جميع أنحاء العالم، وذلك بسبب جاذبيته الشعبية الواسعة.
وقد أسهمت الطفرة، التي حصلت في ممارسة رياضة الركض في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، في انتشار سريع لسباق الماراثونات. ففي عام 1970م، شهد العالم ميلاد ماراثون مدينة نيويورك، ومن ثمَّ سُمح للنساء للمرة الأولى بالمشاركة رسميًا في سباقات الماراثون خلال السبعينيات. وفي أوائل الثمانينيات، ظهر ماراثون برلين وماراثون لندن، واليوم، أُنشئت العشرات من الماراثونات الأخرى في جميع أنحاء العالم. إذ إنه في عام 2018م، قدِّر عدد المشاركين في سباقات الماراثون في جميع أنحاء العالم بـ1,298,725 شخصًا بعد أن كان 17 رياضيًا فقط في دورة الألعاب الأولمبية الأولى عام 1896م في أثينا.
أمَّا اليوم، فتُمثِّل “بطولة الماراثون العالمية الكبرى” قمة هذه الرياضة. وهي تتكوَّن من سلسلة من ستة سباقات ماراثون تُقام سنويًا في ست مدن رئيسة حول العالم، وهي: ماراثون بوسطن (الذي يُعدُّ أقدم وأطول ماراثون سنوي في العالم)، وماراثون طوكيو، وماراثون لندن، وماراثون برلين، وماراثون شيكاغو، وماراثون مدينة نيويورك. تستمر أحداث هذه الماراثونات الستة على مدى ستة أشهر متتالية. وتُصنَّفُ على نطاق واسع بوصفها من أرقى سباقات الماراثون في العالم. ويحصل المتسابقون الذين يُكملون جميع سباقات الماراثون الستة هذه على تكريم خاص يتمثَّل في “وسام النجوم الستة”.
اترك تعليقاً