عندما تضيق بنا الأرض، نرتقي إلى أعلى. قانون اكتشفته النباتات منذ ملايين السنين، وكان مصدر إلهام الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني قبل 2600 عام، عندما قام بتشييد حدائقه المعلَّقة في مدينة بابل بالعراق. وتقول الأساطير إن حدائق بابل المعلَّقة سميت بهذا الاسم لأنها كانت تمتد على شكل شرفات متدرِّجة مزروعة بالنباتات والأشجار العالية، تُسقى على مدار العام من نهر الفرات، عن طريق شبكة من أنابيب الري الممتدة إلى أعلى نقطة في البرج. ولم تكن حدائق بابل إحدى عجائب العالم القديم السبع فحسب، بل يمكن القول إنها كانت كذلك أول تجربة للزراعة العمودية في التاريخ.
قد يكون تشييد حدائق بابل ضرباً من الترف آنذاك، لكنه قد يصبح اليوم وسيلة لضمان بقاء البشرية. إذ من المتوقِّع أن يرتفع عدد سكان الأرض في السنوات القليلة المقبلة إلى مستوى يحتم علينا زيادة إنتاج الغذاء لتلبية الطلب المتزايد عليه. لكننا في الوقت نفسه سنواجه ندرة في المساحات الزراعية وشُحَّاً في المياه العذبة؛ الأمر الذي دفع مجموعة من الباحثين إلى تبني فكرة حدائق بابــل المعلَّقـة، تحت اسم “المزارع العمودية”.
تمَّت صياغة مصطلح “الزراعة العمودية” لأول مرة من المؤلِّف جلبرت بيلي في بداية القرن العشرين في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، بينما كانت فكرة الزراعة العمودية متداولة على نطاق ضيق قبل ذلك ولفترة طويلة. لكن لم يحظَ هذا المفهوم بصيته الواسع الذي هو عليه اليوم حتى بداية الألفية الحالية، إذ قام بتطويره الأب الروحي للمزرعة العمودية ديكسون ديسبومير، عالم الأحياء وأستاذ علم البيئة وعلوم الصحة البيئية في جامعة كولومبيا بالتعاون مع طلابه في الجامعة.
بحلول عام 2050 يُتوقع أن يصل عدد سكان الأرض إلى 9 مليارات نسمة. الأمر الذي يتطلَّب زيادة إنتاج المواد الغذائية بنسبة %70 على أقل تقدير، من أجل تلبية متوسط الاستهلاك العالمي حينها
طلب ديكسون من تلاميذه أن يأتوا بطريقة مبتكرة تمكِّنهم من إطعام المليوني نسمة القاطنين بمنطقة مانهاتن في مدينة نيويورك، باستخدام 50 ألف متر مربع فقط من أسطح المنازل المخصصة للزراعة، ولكن عندما قام الطلاب بحساب مقدار الطعام الذي يمكن إنتاجه في هذه المساحة الصغيرة وجدوا أن المساحة -في أحسن حالاتها- لن تكفي إلا لإطعام %2 من السكان، أي ما يقارب 40 ألف شخص فقط.
كان هذا التكليف البذرة التي انطلق منها مفهوم المزارع العمودية، إذ قام ديكسون بتقديم تصوُّر كامل لماهية مزرعته العمودية تلك، التي كانت عبارة عن ناطحة سحاب متعدِّدة الطوابق مصممة بشكل لولبي، يحوي كل طابق من طوابقها مساحات زراعية مختلفة تمكِّنها من احتواء أنواع كثيرة من المحاصيل. ليس هذا فحسب، إذ كان ديكسون يطمح إلى خلق نظام بيئي متكامل عن طريق إدخال مجموعة من الحيوانات التي توفِّر بدورها السماد والوقود، وبذلك يصل ديكسون إلى مزرعة ذات نظام مغلق يمكنه الاستفادة من الموارد الأساسية بكفاءة عالية غير مسبوقة تكفي لإطعام جميع سكان المدينة.
ضرورة لا غنى عنها مستقبلاً
يعتقد ديكسون أن الزراعة العمودية ضرورة يحتِّمها علينا المستقبل، ويعُدَّها حلاً لأزمة النمو السكاني في السنوات المقبلة إذ إنه بحلول عام 2050م، يُتوقع أن يصل عدد سكان العالم إلى 9 مليارات نسمة. الأمر الذي يتطلَّب زيادة إنتاج المواد الغذائية بنسبة %70 على أقل تقدير، من أجل تلبية متوسط الاستهلاك العالمي حينها.
ويرى ديكسون أن ما يميِّز المزارع العمودية هي قدرتها على إنتاج كم كبير من المحاصيل الزراعية على مساحة صغيرة ومن دون عناء نقل المنتجات مسافات بعيدة لتصل إلى المستهلك. فالقدم المربعة الواحدة في المزارع العمودية قادرة على إنتاج 41 كيلوغراماً من الخس سنوياً، مقارنةً بالمزارع التقليدية التي تنتج 4 كيلوغرامات فقط. وبالتالي بإمكانها مضاعفة إنتاج الخس إلى 11 ضعفاً. كما أن الزراعة العمودية داخل ناطحات السحاب هي صديقة للبيئة، إذ تتطلَّب طاقة أقل بكثير مقارنة بنظيرتها التقليدية، بينما تقلل من التلوث المصاحب للعملية الزراعية في الوقت نفسه. ويرى ديكسون أن 150 ناطحة سحاب زراعية قادرة على إطعام سكان مدينة نيويورك بالكامل.
تقنيات الزراعة العمودية
الزراعة دون تربة
تعتمد الزراعة العمودية على مجموعة من الأساليب والتقنيات المبتكرة. ويُعد تكاملها مع بعضها أمراً ضرورياً من أجل جعل الزراعة العمودية واقعاً ملموساً. تماماً كالزراعة المحمية التي تعتمد على خيم أو منشآت معزولة مصنوعة من مواد شفَّافة تقوم بتمرير أشعة الشمس، كما توفِّر بيئة مغلقة نظيفة يمكن التحكم بها، فضلاً عن الزراعة الهوائية التي تعتمد على بخار الماء والرطوبة بدلاً من عمليات الري التقليدية، وتقنيات الإضاءة الإلكترونية الـ (LED) المصممة خصيصاً لتحفيز نمو النبات عن طريق توفير درجات أطياف ضوء مثالية لعملية التمثيل الضوئي عند النبات. أو ربما نظم الإدارة والمراقبة المتطورة والذكية التي باستطاعتها ربط جميع هذ التقنيات وغيرها معاً من أجل تعظيم المنافع والوصول إلى الاستفادة القصوى من الموارد.
لكن أشهر تلك التقنيات وأكثرها فاعلية في المزارع العمودية هي الزراعة المائية، وهي نظام مائي تتم عن طريقه زراعة النباتات بواسطة محاليل مغذِّية ممتزجة بالماء يتم تمريرها من خلال جذور النباتات من دون الحاجة إلى التربة أو الطين. وظهرت هذه التقنية كمحاولة لتجنب المشكلات المتعلِّقة بالزراعة التقليدية كالآفات والحشرات والأعشاب الضارة. كما توفِّر الزراعة المائية ميزات عدة تجعل منها الطريقة الأمثل للمزارع العمودية في ناطحات السحاب. فهي تُكسب العملية الزراعية مرونة عالية في اختيار الأماكن التي يمكن الزراعة فيها، بدون الحاجة إلى ربطها بأماكن وجود التربة وغيرها من المعوقات. كما يمكن لها تقليص استخدام المبيدات الكيميائية نظراً لعدم وجود التربة التي قد تستوطنها الحشرات والفطريات. أما الميزة الأهم فهي الميزة الاقتصادية، إذ إن الزراعة المائية ذات كفاءة عالية في استهلاك المياه والأسمدة، ففقدها للمياه قد يكون شبه معدوم، إذ يعاد استخدام تلك المياه في كل مرة. وعند مقارنة الزراعة المائية بالتقليدية من ناحية استهلاك الماء نجد أن الزراعة المائية أقل بـ 13 مرة. فبينما يتم استهلاك 250 لتراً من الماء لكل كليو غرام من الخس في المزارع التقليدية، تستهلك المزارع المائية لإنتاج الكميـة نفسها من الخس نحو 20 لتراً من المياه فقط.
كيف تعمل هذه الزراعة؟
لكي نفهم كيفية عمل الزراعة المائية يجب علينا أولاً أن نتعرَّف إلى الطريقة التي يمتص بها النبات غذاءه، ودور التربة في ذلك. فالتربة هي المستودع الطبيعي للمغذيات المعدنية المختلفة كالنيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، لكن تلك المواد غالباً ما تكون صعبة الامتصاص، إذ يحتاج النبات إلى الماء لكي يذيب هذه العناصر فيسهل امتصاصها على شكل أيونات لا عضوية. إذ نستطيع القول هنا إن التربة نفسها ليست ضرورية لنمو النباتات، بل يمكن الاستغناء عنها بالكامل واستبدالها بمحلول مائي يحتوي على المغذيات نفسها.
تستخدم غالبية المزارع المائية نظاماً مائياً يسمى تقنية الغشاء المغذي (NFT)، وهو عبارة عن نظام تتم فيه إعادة تدوير تيار محلول المياه على الجذور المكشوفة للنباتات في قنوات مانعة للتسرب. ويحتوي هذا النظام أيضاً على خزان ماء ومضخة أوتوماتيكية تقوم بتوصيل الماء إلى النباتات بشكل دوري وفق جدول زمني محدَّد. كما يتم تحليل المياه بشكل دائم من قِبل العاملين على هذه المزرعة، من أجل تحديد مستويات العناصر والمعادن المتوفرة فيه، ومن ثم إضافة ما نقص منها إن لزم الأمر.
تجارب فريدة وناجحة
الريادة لسنغافورة
تُعد سنغافورة من أكثر الدول التي تعاني شُحَّاً في المساحات والأراضي الزراعية نظراً لصغر مساحتها وكثافة سكانها، وترتيبها هو الثالث عالمياً من ناحية الكثافة السكانية. إذ يقطن 5 ملايين نسمة في أرض مساحتها أقل من مساحة مملكة البحرين (710 كم مربع فقط). مما يجعل سنغافورة أكثر الدول استيراداً للأطعمة والمنتجات الغذائية، بنسبة استيراد تصل إلى %90 من احتياج سكانها. الأمر الذي دعا رجل الأعمال جاك إن جي إلى إيجاد حل يوفِّر الطعام للسكان عن طريق مزرعته العمودية (سكاي جرينز) التي كانت أول مزرعة عمودية تجارية في العالم.
وهذه المزرعة هي عبارة عن دفيئة عملاقة يصل ارتفاعها إلى 9 أمتار، تحوي داخلها 120 برجاً، يضم كل منها أحواضاً للنباتات المختلفة مثبتة على سكك متحركة، ويتحرك كل واحد من هذه الأحواض بشكل دائري من أجل أن يُكسب كل نبتة أكبر قدر ممكن من ضوء الشمس. بهذه الطريقة نجح جاك في إنتاج خمسة أضعاف ما تنتجه المزارع التقليدية باستخدام المساحة نفسها، أي حوالي نصف طن من الخضراوات الطازجة يومياً، يتم توزيعها على المحال والأسواق القريبة.
اليابان، من الرقائق الحاسوبية إلى الخس
عندما واجهت عملاق صناعة الرقائق الحاسوبية شركة فوجيتسو في اليابان تراجع الطلب على الرقائق، قامت بالاستغناء عن جزء من مصنعه وتخصيصه لزراعة الخس، مستفيد بذلك من البيئات النظيفة والمعقَّمة المستخدمة في معامل تصنيع المعالجات الحاسوبية الصغيرة. كان مشروع “كيري أساي”، الذي يعني “الخضراوات النظيفة”، تزاوجاً لعالمي الأحياء والتكنولوجيا معاً. حيث تم بناء ما مساحته ألفي متر مربع من المساحات الزراعية لإنتاج خس منخفض البوتاسيوم والنترات، وأقل مرارة وخالياً من أي معقمات كيميائية. بينما يتم الحفاظ على بيئة زراعة نظيفة خالية من الطفيليات عن طريق تقنيات العزل والتحكم المصممة خصيصاً لمعامل تصنيع الرقائق الإلكترونية.
أثار مشروع فوجيتسو للخضراوات النظيفة شهية المستثمرين والتجَّار في اليابان. وشرعت أكثر من شركة إلى إنشاء مصانع شبيهة تنتج الخضراوات باستخدام أساليب الزراعة العمودية. ولعل شركة ميراي اليابانية هي أبرز هذه الشركات. فمزرعتها العمودية التي شيّدت في عام 2014م تُعد أكبر مصنع لزراعة الخضراوات في اليابان. وهي عبارة عن مرافق إنتاجية متعدِّدة الطوابق عالية الإنتاجية، قادرة على توفير إنتاج مستقر الكمية والجودة من المحاصيل الزراعية على مدار العام. نجحت شركة ميراي في تقليل الدورة الزراعية للنباتات (وهو الوقت الذي تستغرقه النبتة من مرحلة البَذر حتى مرحلة الحصاد) بنسبة %60، لتصل من 90 يوماً في المزارع التقليدية إلى 35 يوماً فقط. كما تنتج هذه المزرعة نحو 10 آلاف نبتـة يوميــاً، أي ما يساوي 8 أطنان من الخضراوات الصحية المختلفة.
لكن أكثر تجارب الزراعة داخل المباني إثارة للاهتمام كانت مبنى “باسونا” الياباني طوكيو. حيث أنشأت شركة التوظيف “باسونا” بالتعاون مع “كونو ديزاين” المزرعة داخل مكاتبها الرئيسة عام 2010م. ويحوي مبنى الشركة المؤلف من تسعة طوابق مساحات زراعية مختلفة تنتج أنواعاً كثيرة من المحاصيل، ابتداءً بالخضراوات الورقية مروراً بالفواكه ووصولاً إلى الأرز. وكان الغرض الجوهري من المزرعة هو توفير الغذاء بشكل دائم للموظفين داخل المبنى، بحيث يمكنهم أثناء أوقات العمل، قطف المحاصيل التي يريدونها وتناولها مباشرة أو تقديمها للمطعـم المختص داخل المبنى من أجل طهوها.
ربما لا تكون مزرعة “باسونا” مثالاً جيداً للزراعة العمودية، لكنها تعطي تصوراً مستقبليأً لكيفيـة عمل هذا النـوع من المزارع، بالإضافة إلى تعزيز تفاعلنا البشري مع الطبيعة. إذ تعاني المجتمعات المتمدنة الحديثة من انفصال بينها وبين مصدر غذائها. وبذلك ننظر بعين التقدير إلى العملية التي ينتج من خلالها الغذاء النباتي، ونُكون علاقة وثيقة معها، بدلاً من أن نكون مستهلكين بشكل محض.
مشكلات الزراعة العمودية
لا بدّ للمزارع العمودية مهما ارتفعت أن تصطدم بسقف الواقع. إذ تواجه الجهود المستمرة من قِبل منظري فكرة المزارع العمودية والرامية إلى تطوير نظام يوفِّر إمدادات مستدامة من الغذاء للمدن، تحديات كثيرة لا يمكن التغلب عليها في وقت قريب. وتتلخَّص هذه التحديات في الجدوى الاقتصادية لهذا النوع من المزارع. ففي الوقت الذي تحتاج فيه معظم المزارع العمودية، بتقنياتها العديدة، إلى الطاقة الكهربائية من أجل التحكم بدرجة حرارة الهواء وتدفق الماء وبمقدار أشعة المصابيح الـكهربائية، لا تحتاج المزارع التقليدية إلاَّ لأشعة الشمس فقط. فلو أردت أن تزرع القمح في الولايات المتحدة عن طريق التقنيات المتوفرة حالياً وأسعار الطاقة اليوم، فستستهلك ما قدره 10 دولار من أجل إنتاج رغيف واحد. الأمر الذي يصنع تحدياً كبيراً أمام المزارعين. لكن يعتقد أرباب هذه التكنولوجيا أنها في تطور مستمر، وأن تقنيات الزراعة العمودية ستصبح أكفأ في استهلاك الطاقة في السنوات المقبلة.
يكمن التحدي الحقيقي في قدرة المزارع العمودية على توفير جميع أنواع المحاصيل اللازمة. فمن الناحية العملية، تُعد خيارات المزارعين محدودة في ما يتعلق بالخضراوات والأعشاب الورقية كالخس والنعناع وغيرها. ويكمن السبب في استهلاكها المنخفض للطاقة ووزنها الخفيف نسبياً مقارنة بأنواع المحاصيل الأخرى كالبطاطس والطماطم والفاصوليا الخضراء، التي من المستحيل أن تُزرع بكميات كبيرة في ظل التقنيات المتوفرة حالياً.
وربما لا تكون المزارع العمودية الحل الأمثل لأزمة الغذاء العالمية المقبلة، لكنها محاولة متواضعة للارتقاء بعملية إنتاج الغذاء في المستقبل. ومن يدري، لعلنا نرى حدائق بابل العمودية تنبت في عواصمنا العربية في يوم ما.
اترك تعليقاً