مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

الخوارزميات والإدمان

كيف تستخدمها منصات التواصل الاجتماعي؟

د. محمد سناجلة

لم يسبق أن انتشر اسم على مُسمَّى كما انتشر اسم أبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي على الطريقة السهلة التي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي، بهدف أن يصبح أي شخص قادرًا على الحساب، وسُمِّيت بالخوارزمية. هذا الاسم توسع في مضمونه اليوم ليشمل كذلك الإشارة إلى طرق سهلة يستخدمها نحو 5 مليارات شخص يوميًا للاتصال وتبادل المعلومات والمعارف والوصول إلى اللغات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها. ولكن، مع هذه الفوائد الكبيرة التي جاءت بها الخوارزميات، ثمة ضرر كبير أيضًا؛ إذ أصبحت وسيلة فعَّالة للسيطرة الناعمة ومادة للإدمان بات يعانيها قسم كبير من الشباب والمراهقين.

يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم في وقتنا الحاضر نحو 5.44 مليارات مستخدم، وفق ما ذكرت منصة “ستاتيستا” في أبريل 2024م، وهو ما يمثِّل 67.1% من سكان العالم.

ومن المتوقع أن يصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى 7.9 مليارات بحلول عام 2029م، وفق ما ذكرت مجلة “فوربس” في مارس 2024م.

وبينما يقضي المستخدمون على الإنترنت في المتوسط، 6.5 ساعات يوميًا، وفقًا لمؤشر الويب العالمي 2017م، يقضي الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا 2.5 ساعة إضافية على الإنترنت أكثر من غيرهم.

وتُعدُّ وسائل التواصل الاجتماعي المكان المُفضَّل لمستخدمي الإنترنت في العالم. فقد شهد عدد مستخدمي هذه الوسائل نموًا هائلًا؛ إذ ارتفع من 1.43 مليار مستخدم عام 2012م إلى 4.76 مليارات مستخدم حول العالم في شهر أبريل من عام 2023م.

ما الخوارزمية؟

الخوارزمية عبارة عن مجموعة من الخطوات المحددة المُصمّمة لتنفيذ هدف معين. ويمكن أن تكون هذه عملية بسيطة، مثل وصفة لخبز كعكة، أو سلسلة معقدة من العمليات المستخدمة في التعلُّم الآلي لتحليل مجموعات البيانات الكبيرة وإطلاق التوقعات. وفي سياق التعـلُّم الآلي، تُعـدُّ الخوارزميات أمرًا حيويًا؛ لأنها تُسهّل عملية التعلُّم للآلات، وتساعدها على تحديد الأنماط واتخاذ القرارات بناءً على البيانات، وفقًا لما ذكرته منصة “داتا كامب” في سبتمبر 2023م.

النخاع الشوكي لوسائل التواصل

تُعدُّ الخوارزميات النخاع الشوكي لوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فمن دونها تفقد هذه الوسائل قدرتها على جذبنا وربطنا بها، فهي مصممة لإبقائنا متصلين ومنخرطين بشكل فعلي ومستمر للحصول على المزيد. وهي تفعل ذلك عن طريق تحفيز إطلاق الدوبامين، وهي مادة كيميائية في أدمغتنا تجعلنا نشعر بالسعادة.

 يجري إطلاق الدوبامين عندما نتلقى الإعجاب والتعليقات التي تشعرنا بالرضا. ويمكن أن يؤدي هذا إلى الإدمان، بحيث تعتاد أدمغتنا هذا الفيض من الدوبامين، ونشعر بأعراض الانسحاب عندما نتوقف عنه.

ويمكن أن يكون لوسائل التواصل الاجتماعي تأثير ضار على الطريقة التي نرى بها العالم والآخرين وأنفسنا. فهي تميل إلى تصنيفنا في “غرف الصدى”، حيث تجري تغذيتنا باستمرار بالمحتوى والمعلومات التي تؤكد آراءنا الموجودة مسبقًـا، ولا تتحدى أبدًا طريقة تفكيرنا. وهذا يخلق إطارًا مرجعيًا زائفًا نحكم على أنفسنا والآخرين من خلاله، وفق ما ذكرت منصة “سن لايت ريكفري” في أغسطس 2023.

كيف تعمل خوارزميات وسائل التواصل؟

تعمل هذه الخوارزميات بناءً على مبدأ استدراج مستخدم بما يُثير اهتمامه ويتفاعل معه، وذلك بمنحه تجربة شخصية من خلال تزويده بالمحتوى الذي يريده. وفي الواقع، يمكن أن تعمل على تأكيد التحيزات القائمة وخلق رؤية عالمية متكلسة وقصيرة النظر، وفقًا لما ما ذكرت منصة “سبراوت سوشال”.

ظاهريًا، تعمل هذه الخوارزميات على جعل المنصات أمتع وأكثر فائدة من خلال منح المستخدمين المحتوى الذي يريدونه وتجنيبهم عناء البحث عنه.

فما تريده ستجده أمامك في هذه المنصات. ولكن يمكن أن تؤدي أيضًا إلى كثير من المشكلات، سواء بالنسبة إلى المسوقين الذين يحاولون عرض المحتوى الخاص بهم، أو المستخدمين الذين يستهلكون المحتوى. وغالبًا ما يُجمع المستخدمون في “غرف الصدى” بناءً على تفاعلاتهم ومشاركاتهم السابقة، بحسب ما ذكره المصدر السابق.

قد تساعد خوارزميات وسائل التواصل على تأكيد التحيزات
القائمة لدى الفرد، وخلق رؤية متكلسة وقصيرة النظر.
إدمان وسائل التواصل الاجتماعي!

الإدمان هو حالة مزمنة تؤثر في الدماغ وقدرته على التعامل مع ما حوله. عندما يُصاب شخص ما بإدمان مادة ما أو إدمان سلوكي، فإنه يشعر برغبة عارمة في المشاركة فيه وإعادته مرارًا وتكرارًا، حتى لو كان يعلم أن ذلك يسبب له الأذى. وهذه الرغبة ليست رغبة بسيطة، مثل الرغبة في تناول الشوكولاتة أو طلب الوجبات السريعة؛ إذ يمكن أن يجعل الإدمان أولئك الذين يعانون غير قادرين على العمل من دون اللجوء إلى هذا السلوك.

وبالطريقة نفسها تقريبًا، تتمتع وسائل التواصل الاجتماعي بالقدرة على ترك المستخدمين يعتمدون بشكل كامل على المنصات التفاعلية، ويشعرون بالحاجة القهرية للتفاعل معها، حتى لو كان ذلك يسبب ضررًا ملحوظًا لصحتهم ورفاهيتهم. وهذا يجعله مثل أي إدمان آخر.

في الواقع، هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى أعراض مرتبطة عادةً باضطراب تعاطي المخدرات، مع احتمال إحداث عواقب سلبية، مثل: ضعف الصحة العقلية، وعدم ضبط النفس، والعلاقات المتأثرة سلبًا.

وذلك لأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ينشِّط مسارات المكافأة نفسها، التي تُحفَّز عند استخدام مادة مسببة للإدمان، مثل المخدرات أو الكحول، وفق ما ذكر “مركز معالجة الإدمان في المملكة المتحدة”.

إن القدرة “الإدمانية” لوسائل التواصل الاجتماعي تأتي من سهولة الوصول إليها، وهو ما يتيح للأفراد فرصة الوصول إلى مجموعة كبيرة من المعلومات؛ كل ذلك من خلال جهاز صغير في راحة اليد. وسواء أكان ذلك للتواصل مع الأصدقاء، أم تخفيف التوتر، أم مجرد الاسترخاء بعد يوم صعب، فإن وسائل التواصل الاجتماعي لديها كثير لتقدِّمه للمستخدمين باستمرار. وبذلك، سيعتمد المُدمن على أجهزته بشكل قهري لتلبية حاجة معينة، وسيعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي ليشعر بالتوازن.

آثار مدمرة للصحة العقلية

إن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي له آثار ضارة، وخصوصًا على الأطفال والشباب، وقد تكون مدمرة للصحة العقلية. ويمكن أن يؤدي إدمان هذه الوسائل إلى القلق والاكتئاب وانخفاض الرضا عن الحياة. وبالنسبة إلى المستخدمين الذين يعانون مشكلات صحية عقلية حالية، يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي إلى تفاقمها من خلال إنتاج مشاعر الوحدة والعزلة. كما يمكن أن تؤدي إلى تعطيل أنماط النوم وفقدان الذاكرة والتدهور المعرفي، وفق ما ذكرت منصة “مستشفى ماكلين”.

التنُُّمر هو أحد الجوانب المظلمة الستخدام وسائل التواصل، وحالة الإدمان في الاستخدام قد تفاقم المشكلة.

وتتفاقم هذه المشكلات، خاصة بين المستخدمين الشباب، عندما يحدث التنمُّر وغيره من السلوكيات المعادية للمجتمع عبر الإنترنت. وعلى عكس التنمُّر في ساحة المدرسة، لا يحصل الشباب على مهلة عندما يُقرع الجرس في نهاية اليوم، ولا سيَّما عندما تُنشر معلومات أو صور مهينة على وسائل التواصل الاجتماعي، فلا يستطيع الشخص الهرب منها ولو بالانتقال إلى مدينة أو دولة جديدة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى مشاعر اليأس الذي قد يقود إلى الانتحار.

وبينما تستمر التكنولوجيا في التطور، يواجه شباب العالم أزمة صحية عقلية متفاقمة؛ إذ ارتفع معدل انتحار الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال لا الحصر، بنسبة 62% في الفترة من 2007م إلى 2021م.

ويقول الأطباء إنهم في أمس الحاجة إلى المساعدة في علاج الأطفال الذين يعانون مشكلات صحية عقلية، وإنهم غير مجهزين للتعامل مع أزمات الصحة العقلية المتزايدة لدى الأطفال. ويقول المدير الطبي لقسم الطوارئ والاستشارات النفسية في مستشفى رادي للأطفال في سان دييغو، الدكتور ويلو جينكينز: “إن عدد الأطفال الذين يبحثون عن رعاية طوارئ نفسية قد ازداد في السنوات القليلة الماضية من نحو 30 شهريًا إلى 30 يوميًا”، وفق ما ذكرت منصة “فيرست فوكس” في 15 أبريل 2024م.

ويرتبط تدهور الصحة العقلية لدى الشباب ارتباطًا وثيقًا بوسائل التواصل، فقد وجدت دراسة علمية بعنوان “وسائل التواصل وصحة الشباب النفسية 2023″، أن الأطفال الذين يقضون أكثر من 3 ساعات يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي، هم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق بمقدار الضعف مقارنة بأقرانهم. ويُذكر أن نحو 95% من الشباب يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، وقال أكثر من ثلثهم إنهم يستخدمونها “بشكل مستمر تقريبًا”.

البحث عن حل

يمكن مساعدة المدمنين على وسائل التواصل الاجتماعي عبر اتباع الخطوات التالية، وفق ما ذكرت منصة “العلاج النموذجي”:

1- استخدام آليات التكيف الفعالة

عندما يستخدم الشباب والمراهقون وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها وسيلة للتعامل مع الحزن أو الوحدة، فإن ذلك يمكن أن يؤثر بسرعة وبشكل سلبي في حالتهم العقلية، ويتركهم يشعرون بمزيد من الفراغ أو الحسد أو الإحباط. وهنا يجب أن تساعد آليات التكيف الفعالة المراهق في التغلب على مشكلاته أو التكيف معها بدلًا من الهرب من الواقع.

ومن أبرز وسائل التكيف تنمية الهوايات التي تساعد الطفل على التحسُّن عقليًا وجسديًا، مثل ممارسة الرسم أو الألعاب الرياضية المختلفة، وكذلك ممارسة التأمل والأنشطة الروحية، أو المشي لمسافات طويلة كل يوم، وغيرها من الأنشطة الفعالة بعيدًا عن الشاشات.

2- الحد من وقت الشاشة

إحدى أبرز طرق معالجة إدمان وسائل التواصل الاجتماعي هي الحد من وقت الشاشات، وتنظيم الوقت الذي يقضيه المرء أو ابنه على هذه الوسائل؛ لذلك يجب أن يكون حازمًا وألَّا يتردد في إدارة وقت الشاشة بشكل كامل.

تُعدُّ وسائل التواصل الاجتماعي أكثر فائدة عند استخدامها أداةً أو مصدرًا للترفيه أو المعلومات. ولكن عندما ينشغل المراهقون المدمنون لوسائل التواصل الاجتماعي باستهلاك الشاشات كل ساعة تقريبًا من اليوم، فإنهم يصبحون غير قادرين على التفكير أو التركيز على أي شيء آخر.

قد يكون الأمر صعبًا في البداية، ولكن مع المثابرة والصبر وتشجيع الأهل، أو حتى الاستعانة بخبير علاج سلوكي، سيكون الأمر سهلًا وممكنًا مع الأيام.

3- العلاج بعد التعافي

قد تساعد خيارات علاج إدمان وسائل التواصل الاجتماعي المراهقين على المدى القصير. ومع ذلك، من الضروري متابعتهم وتشجيعهم على الاستمرار في طلب المساعدة لحل مشكلاتهم، أو تشجيعهم على طلب المساعدة في المرة القادمة التي يشعرون فيها بأنهم ينزلقون من جديد نحو عوالم الشاشات المغرية.

اقرأ القافلة: القضية.. الاتزان الرقمي، من العدد 704 (مايو-يونيو 2024م).


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “الخوارزميات والإدمان”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *