“كانت لأبي طريقته لتسلُّق الجبل. كانت طريقته تميل إلى التأمل، كلها صلابة وشجاعة. فهو يصعد من دون أن يعاير القوى، دائماً في سباق مع شخص أو شيء ما، وحيثما يبدو له المعبر طويلاً كان يقطعه من أكثر الخطوط انحداراً. كان ممنوعاً معه التوقف، والشكوى بسبب الجوع أو التعب أو البرد، ولكن يمكن للمرء أن يغني أغنيةً جميلة، وخصوصاً أسفل العاصفة أو الضباب الكثيف، ويمكنه أن يطلق الصيحات، وأن يلقي بنفسه في أكوام الثلج”. هكذا يفتتح الروائي الإيطالي الشاب باولو كونيتي عمله “الجبال الثمانية” الذي سيفوز بجائزة “ستريغا” لعام 2017م، ليترجم بسرعة إلى أكثر من 30 لغة.
ولد كونيتي في ميلانو عام 1978م، وكان من هواة تسلُّق الجبال، فعمل مخرجاً للأفلام الوثائقية. وهكذا وُلِد أيضاً بطله بيترو في ميلانو، مولعاً بالجبال وبإخراج الأفلام الوثائقية. وهو من سيتكفل بالكلام وحده في هذه الحكاية، إذ يقوم السرد طوال العمل على ضمير المتكلم.
بيترو ولم يبلغ الثالثة عشرة بعد في المقعد الخلفي، وفي الأمام يقود الأب سيارته وإلى جانبه تجلس الأم ممسكة بخريطة الشمال الإيطالي، حيث تنتصب جبال الألب. تغادر العائلة ميلانو لقضاء الصيف في إحدى القرى الجبلية، تبتعد شيئاً فشيئاً تاركة وراءها الضجيج والعمران والمصانع والتلوث. تصل إلى القرية، فيغدو الأب غير الأب، يطيل النظر إلى أعلى القمم كما تفعل النسور على عكس الأم التي تجد نفسها في الأماكن المنحدرة، في الوديان وفي السفوح. إذا كان بيترو ابناً للمدينة، فأبواه كانا أبناء الجبال. عقدا هناك زواجهما الذي لم يحضره أحد من أفراد العائلة. تبدو القرية شبه مهجورة. فالكنيسة مغلقة، والمدرسة أيضاً والكثير من البيوت، حتى توشك أن تغدو مكاناً للأشباح لولا الماعز والأبقار التي ترعى هنا وهناك وبعض النسوة اللاتي انتقل أزواجهن من القرية إلى المدينة، ومن الرعي والفلاحة إلى العمل في المصانع.
في صبيحة اليوم التالي ينطلق الأب وعلى ظهره أدوات التسلُّق ليشتبك مع القمم الشاهقة، تصحو الأم فتعتني بالمسكن المتواضع وتنصرف لتأمين حاجتهم من الطعام وتوفير ما يكفيهم من الأخشاب بغرض التدفئة. أما الفتى بيترو فيخرج ليتعرَّف على المكان، يجلس قليلاً إلى النهر، ثم يقطعه متجولاً في المراعي المجاورة حتى يصل إلى سفح الجبل، حيث يحدق طويلاً في القمم البيضاء. وحين تشارف جولته على الانتهاء، يتعرَّف على برونو الفتى الذي لا يحلم بأكثر من النمو سريعاً ليصبح لباناً أو بنّاءً. تنعقد الصداقة بينهما فيهب كل منهما الآخر ما ينقصه. يتعلُّم برونو من بيترو ما فاته من المدرسة والمدينة، ويعلمه في الوقت نفسه ما فات عليه من أسرار الجبل والطبيعة وطرق صيد الأسماك، حتى يغدو برونو أخاً لبيترو بل وابناً مفضلاً للأب.
تصوير فذّ لشخصيتي الأب والأم
يحتل الأب في حياته وبعد موته حيِّزاً لا يستهان به من الرواية. فهو الصموت في البيت، الثرثار مع الغرباء، وحين يتحدث إلى ابنه يبدو حديثه كالألغاز، حتى إن بيترو يطرق رأسه مفكراً قبل أن يجيب مخافة أن يخطئ، وهو الذي يعيش في المدينة ويحلم طوال الوقت بصعود الجبال التي يعلق خرائطها على الحيطان حتى إنه لا يجد حرجاً في إطالة النظر إلى سيقان الناس ليتبين صلابتها ثم يحكم عليهم من خلال ذلك.
يصعد الجبال كما لو أن ثأراً قديماً بينه وبينها. فما إن يصل إلى القمة حتى يزهد بها وينحدر مسرعاً، مثل صخرة ثم يعاود الكرة في اليوم التالي. وسنعرف لاحقاً أنه فقدَ صديق عمره تحت انهيارٍ ثلجي. صديقه ذاك يدعى بيترو أيضاً، وهو خال الفتى بيترو. يقول كونيتي إن كل رواية في الغالب بمثابة سؤال يشغل بال الكاتب، وحين سُئِل عن الجبال الثمانيــة قال: “إن السؤال الذي كان يدور في بالي طـوال الوقت: ما هي حقيقــة أبي؟ أما الجواب ففي الجبال الثمانية”.
علاقات الصداقة وعلاقته بأبويه وطريقة حديثه عن تطوّرها، بل علاقة أمه بأبيه أيضاً، وبراعته في تناوله علاقة الأشخاص بالأماكن، وجدت خلف تلك الواجهة الجليدية دفئاً يستحق أن يُنقل، علاقات جديرة بأن تُحكى.
الأم محاطة بالصديقات على عكس الأب الذي لا صديق له، ودودة ومضيافة ولطيفة المعشر. تهبُّ لنجدة المحتاجين وإن لم يطلبونها. ولعل هذا ما دفعها في الأساس إلى الزواج من هذا الرجل الذي ظل أبوها يلومه على فقدان ابنه. تكتسب الأم شعبية كبيرة في القرية وفي المدينة وفي كل مكانٍ تطأه حتى إنها لا تفقد تلك الشعبية، بل تتزايد وهي تتقدَّم في العمر كما وصفها ابنها بالضبط: “لم يكن لديها أي نية لأن تكبر في السن تعيسةً ووحيدة”.
برونو يرعى الأبقار ويقطع الأشجار ويعرف كل شبرٍ في جبال الألب إلى درجة يمكنه معها أن يتسلَّقها مغمض العينين ثم يهبط منها. يتعفف عن النزول إلى المدينة وينتابه السخط حين يتحدث أهلها عن الطبيعة بطريقة حالمة من دون معرفة حقيقية بطباعها وآلامها. سيقيم في الجبل طوال الرواية بينما يطوف بيترو الجبال الثمانية، ويتسلَّق قمم الهملايا. وعلى الرغم من اختلافاتهما الكثيرة، إلا أنهما يتفقان في الشكوى من عقدة الأب. سينهي برونو بلكمة على الوجه علاقته بأبيه كما سيفعل بيترو أيضاً، ولكن بلكمة مجازية حين يقول إنه لن يصعد الجبل بعد اليوم، فهو يشكو في حقيقة الأمر من الأكروفوبيا أو فوبيا المرتفعات.
لكن الآباء لا يتركون أبناءهم في سلام حتى بعد أن يموتوا. سيفاجئ الأب ابنه ببقعة صغيرة في الألب كان قد اشتراها ليعود إليها ويعيد من جديد التعرف إلى نفسه وإلى أبيه أيضاً.
الحوارات قليلة
ولكنها جديرة بالتأمل
تمضي الفصول بين هؤلاء الأربعة بين شدٍّ وجذب حتى لا يبقى غير برونو. النساء هنا لسن أكثر من ظلال للرجال. اعتمد الإيطالي السرد الأفقي ليحكي روايته، حتى إنها تبدو إلى حد ما كلاسيكية. الحوارات نادرة في العمل لكنها عندما تظهر تبدو غنيةً بالفلسفة وجديرة بالتأمل:
” كنت أنظر إلى المنازل المتهدِّمة، وأحاول أن أجبر نفسي على تخيل سكانها، لم أكن أفهم كيف يمكن لأحدهم أن يختار حياة بهذه القسوة. وعندما سألت عن هذا أجابني بطريقته الملغّزة. كان يبدو دائماً غير قادر على إعطائي حلاً بل إشارات مجردة. وعلي أنا أن أجتهد في الوصول إلى الحقيقة وحدي. قال لم يختاروها بالتأكيد، إذا ذهب أحدهم للبقاء في الأعلى، سيكون ذلك لأنهم في الأسفل لم يتركوه في سلام”. (ص 48)
“في المساء كانت أمي تسألني أين كنت. أرد عليها وأنا أهز كتفي: هناك نتجوَّل. ولا أرضيها كثيراً، ونحن نجلس أمام المدفأة.
هل رأيت شيئاً جميلاً؟
بالتأكيد يا أمي، الغابة.
تنظر إلي بحزن كأنها تفقدني. فهي تؤمن بالفعل بأن الصمت بين شخصين هو أصل كل المصائب”. (ص 77)
ثلاثة أجزاء لثلاث مراحل عمرية
حول العلاقات وتفككها
قسّم باولو كونيتي روايته إلى ثلاثة أجزاء: “جبل الطفولة” و”منزل المصالحة” و”صديق في الشتاء”. وكل جزء منها يتألف من أربعة فصول. ففي جبل الطفولة يتحدث عن الأصياف التي قضاها في القرية بصحبة برونو، وفي الجزء الثاني يبنيان بيتاً صغيراً في أعالي الألب، وفي الجزء الثالث يقضيان الشتاء معاً، وقد اقترب الاثنان من الأربعين وبات لكل منهما كثير مما يود أن يحكيه للآخر. قد تبدو الرواية في ظاهرها عن الجبال والطبيعة، ولكنها في حقيقة الأمر تدور حول العلاقات وترابطها وتفككها. تبدأ الحكاية من رابطة العائلة، علاقة الابن بأبيه، ثم الصديق بصديقه، وتنتهي بعلاقة الفرد بالمكان.
كان كونيتي قبل أكثر من عشر سنوات مفلساً بلا عمل في الوقت الذي يشكو العالم فيه من أزمة اقتصادية خانقة. قصد صالة السينما وحيداً لمشاهدة الفلم الشهير “في البرية”، وما إن خرج حتى أدرك أنه لا بد أن يعود إلى الجبل، حيث بدأ كل شيء. تراءت له القصة هناك، لم يختلق شيئاً على حد قوله، لا الأحداث ولا الشخصيات. فبرونو على سبيل المثال ليس إلا صديقه المقرب ريجيمو، وأم برونو في حقيقة الأمر ليست إلا أم ريجيمو، بل إن أم كونيتي تكاد أن تكون هي أم بيترو، حتى إنها عندما انتهت من قراءة الرواية رأت أنها هي تلك الأم. لقد كان كلامها أكبر جائزة ينالها على حد قوله. ويضيف كونيتي أنه لا يستطيع تأليف قصة خارج عالمه. فهو يكتب دائماً عن حياته وحياة أصدقائه. كل الأماكن حقيقية والشخصيات كذلك. يجد الأمر شديد الشبه بالحُلم. فالناس في الحُلم حقيقيون لكن الحلم نفسه غير حقيقي، والأمر نفسه ينطبق على الرواية.
كان كونيتي قد بدأ حياته الأدبية في عام 2004م، بكتابة مجموعة قصصية “كتيب الفتيات الناجحات”، ثم أتبعها بمجموعة ثانية هي “شيء صغير على وشك الانفجار”، وثالثة “الفتى البري”. وألَّف بعد الجبال الثمانية كتابين يتفرعان منها. الأول عن رحلته في جبال الهملايا “دون الوصول قط إلى القمة” والثاني “فتى البرية” أو “دفتر الجبل” وهو ذكريات قصيرة.
ترجمتها إلى العربية
صدرت الطبعة الأولى من الجبال الثمانية عن دار الخيال اللبنانية في قرابة الثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط، بترجمة للدكتورة أماني فوزي حبشي الحاصلة على الدكتوراة في الأدب الإيطالي. وقد فازت بالجائزة الوطنية للترجمة من إيطاليا نظير ترجماتها التي قدَّمت للأدب العربي كثيراً من الكُتَّاب الكبار مثل ايتالو كالفينو في ثلاثيته الشهيرة “أسلافنا”، وامبرتو ايكو في “بندول فوكو”، ونتاليا جينزبورغ في “أصوات المساء” واليساندرو باريكو وغيرهم.
تقول الدكتورة أماني إنها ابتاعت الجبال الثمانية حال فوزها بجائزة “ستريغا” لقراءتها وربما ترجمتها. وما إن بدأت في القراءة حتى ساورها التردد والخوف بمجرد أن عرفت أن الرواية تدور في أجواء جليدية قارسة، أجواء لا تحبها ولا تحب التواجد فيها. تسببت أسماء الجبال الكثيرة الغريبة في إثارة قلقها. تُرى ماذا سيكون وقع كل تلك الأسماء الأجنبية على القارئ العربي. قررت أن تؤجل مشروع ترجمتها لانشغالاتها المتعدِّدة حتى عرضت عليهـا دار الخيـال ترجمة العمل.
وتضيف حبشي: “لم أتردَّد في الواقع. فأنا أعرف طالما أن كتاباً ما شغلني لفترة ووجد الآن طريقه إلي، فهذه علامة على أنني لا بد أن أترجمه، فهو كتابي. لذلك وافقت على الفور وقرَّرت أن أقبل التحدي. ولعلها تكون فرصة لي أنا أيضاً لأغيِّر مفهومي عن الأجواء الباردة. ومع التعمق أكثر في الرواية، والتوغل أكثر في تلك القرى الجبلية وفي الكيفية التي تناول بها كونيتي العلاقات: علاقات الصداقة وعلاقته بأبويه وطريقة حديثه عن تطورها، بل علاقة أمه بأبيه أيضاً، وبراعته في تناوله علاقة الأشخاص بالأماكن، وجدت خلف تلك الواجهة الجليدية دفئاً يستحـق أن يُنقـل، وعلاقات جديرة بأن تُحكى. وانتقل خوفي من الأسماء وغرابتها إلى خوف على تلك المشاعر”.
اترك تعليقاً