لأنَّ كلَّ ما كان ملحوظاً في العالَم السيبراني من حسنات وسيئات، ازداد وضوحاً خلال أشهر الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، حين بقي هذا الفضاء مفتوحاً أمام الجميع بطبيعته الخاصة والمختلفة عن كل فضاءات التواصل التقليدية الأخرى.
فما هو تأثير الفضاء السيبراني على السلوك والذكاء العاطفي؟
هذا ما سعت القافلة إلى استطلاعه في جلسة نقاش عقدتها لهذه الغاية عبر منصة “زوم”، شارك فيها أربعة من الاختصاصيين، وتابعها عن بُعد عدد من المهتمين بالموضوع، وأدارها الزميل وليد الحارثي.
الحضارة الرقمية مدهشة ومفرحة.. ولكنها ذات جانب مظلم أيضاً
استهل الجلسةَ مديرُها بكلمة قال فيها إنه على الرغم مما قدَّمته التطوُّرات التقنية التي سهّلت الخدمات، واختصرت أوقات الانتظار، ووفَّرت أنماط عمل أفضل، إلا أنها تسبَّبت للبشرية بقلق خاص. فالمواجهات تتم من خلف الشاشات، أشباح تقابل أناساً حقيقيين، وتقابل أشباحاً مرَّة أخرى، معرَّفات بلا وجوه ولا أدلة. لا أحد يعلم من سيكون الضيف أو الخصم التالي. وصار المسؤول يلقى طفلاً يشاجره صباحاً، والفتى الغرّ يُسكت الشيخ الكبير.
ثم طرح سؤالاً عاماً، كان بمثابة العنوان العريض للقضية المطروحة للبحث: “كيف أثَّر كل هذا على أفكار الناس، على تواصلهم، وعلى معنوياتهم ونفسياتهم، في عالم تحاصرنا فيه الأخبار والمستجدات من كل مكان؟”.
كان الدكتور مصطفى حجازي أول المتحدثين، وبدأ كلمته منوِّهاً بأهمية طرح هذه المسألة للبحث، قائلاً: “إن هذا اللقاء يأتي في وقته المناسب. فنحن بحاجة إلى مثل هذه الندوات واللقاءات التي تُناقش قضية التأثير السيبراني؛ لأننا منخرطون في هذا المجال، ونتنافس في استخدامه بفرح، ولكننا لا نعرف وجهه المظلم”.
وتابع يقول: “إن الحضارة الرقمية نشأت منذ خمسين سنة، وهي تتطوَّر بسرعة فائقة، وتحتاج بالضرورة إلى إنسان رقمي ومواطن رقمي. فالتقنيات الرقمية أسهمت في تغيير طرق حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا، وأحاطت بكل تفاصيل يومياتنا، إذ عملت على إلغاء حدود الزمان والمكان”.
واعتبر حجازي أن “جيل الكبار” هامشيون في الحضارة الرقمية، فهي تخصّ “جيل الشباب” الذين يحملون لواءها، ويُعدُّون أبطال الحضارة الرقمية وقادة المستقبل. وشدَّد على أهمية الاعتناء بهذا الجيل وتقديم الرعاية والدعم له حتى يتمكَّن من السيطرة على هذه الحضارة ويأخذ مكانته الخاصة فيها.
وأضاف حجازي أن الحضارة الرقمية باتت تقوم اليوم على الثورة الصناعية الرابعة التي غيَّرت الإنسان وطرق تفكيره وحياته، وكذلك على ثورة الاتصالات الحديثة التي مرَّت بأربع مراحل (الكلام، والكتابة، والطباعة، والتواصل الرقمي). وبعد إشارته إلى أن للتقنيات الرقمية خمسة عمالقة، هم: مايكروسوفت وبيل غيتس، وأبل وستيف جوبز، وغوغل ولاري بايج، وفيسبوك وزوكربرج، وأمازون وبيزوس، قال إن هؤلاء الخمسة ابتكروا لنا هذا العالم المدهش والساحر، وجعلوا كل شيء طوع بناننا، وذلك بأجواء من الفرح والنشوة والدهشة، إنه إنسان اللحظة وجيل الثواني التسع.
لكن ماذا عن الوجه الخفي لتقنيات التواصل أو وجهها المظلم؟
يقول الدكتور حجازي إن الهدف من التوصل إلى هذه التقنيات كان في البداية طوباوياً أي خلق عالم تواصلي وتشاركي، يجعل البشرية تتعاضد وتتآزر مع بعضها بعضاً في الكوارث والمصائب والمشكلات، لكن سرعان ما تحوَّل هذا الهدف إلى ربحي أو رأسمالي ربحي. وهنا بدأت الطامة الكبرى، إذ دخلنا في الاقتصاد الجديد، وهو اقتصاد المعلومة، ومنجم المعلومة، وأصبحت المعلومة توازي النفط.
وذكر أنّ هناك 972 ألف عملية تواصل وتبادل بالدقيقة الواحدة على فيسبوك بحسب الإحصاءات. وهذا يُعدُّ غنىً وثراءً في التواصل، ولكن هذه المعلومات أصبحت تُباع إلى التجار والسياسيين والمهتمين، وصارت مئات المليارات من الدولارات تُنفق في شراء المعلومات. لكن الأخطر من ذلك هو أن هذه المعلومات باتت توضع بتصرف أجهزة ووكالات أمنية واستخباراتية عالمية.
وأكَّد حجازي أنّ المعلومات الخطرة والحسَّاسة هي التي تحمل بيانات الأشخاص، والتي تتيح وضع مخطط شخصي لكل مستخدم، فقد أصبحنا مكشوفين، ونحن سعداء بذلك، سواء عن علم أو غير علم. وكلما جُمِع مزيد من البيانات عنا، أصبحنا أكثر انكشافاً. من هنا أتت مقولة “الإنسان العاري”.
وأوضح أنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في الأدوات مثل فيسبوك وتويتر، ولكن في كيفية برمجة الخوارزميات من قبل المهندسين والمختصين، التي من شأنها أن تستقطب الانتباه وتمارس علينا نوعاً من العبودية التي تتحوَّل فيما بعد إلى قلق وتوتر وخوف.
واعتبر أنّ الحماس المفرط في العالم السيبراني هو كالمخدِّر الذي يحوِّلنا إلى مدمنين، فتنتج عنه عبودية واضطرابات اجتماعية تجعل الإنسان يعيش وحيداً ومنعزلاً عن جماعته. وحذَّر من ارتفاع وتيرة المخاوف جرَّاء الاستخدام المفرط للتقنيات الحديثة، ما يسبب حالات اكتئاب عميقة واضطرابات شديدة في عملية التفكير نتيجة ضياع الهوية الشخصية واختلاط الواقع بالزائف والجدي بالهزلي. فيما تحوَّلت اللقاءات الإنسانية والمناسبات المختلفة إلى رسائل عبر المحمول، حيث اضمحل التفاعل العاطفي والتعبير الوجداني.
وأوصى حجازي في ختام مداخلته بأن تقدِّم المحاضرات والندوات واللقاءات خطة توعوية لترشيد استخدام هذه التقنيات وكيفية الاستفادة منها، فضلاً عن خطط لتنشيط العلاقات الاجتماعية والطبيعية والرياضية وجهاً لوجه وليس افتراضياً، إضافة إلى سن قوانين تمنع هؤلاء العملاقة ومهندسيهم من التلاعب بعقول الناس واستغلال البشرية.
الحداثة السائلة..
ميزة العصر الرقمي والسيبراني
وفي ثاني أطروحات الجلسة، أشار الدكتور عبدالسلام الوايل إلى أن تناول تأثير التقنيات السيبرانية أصبح مجال اهتمام تخصصات أكاديمية مختلفة. وبما أننا نعيش في عصر تهدُّم الجدران بين التخصّصات كافة، فيمكن مقاربة الموضوع من منطلق علم الاجتماع وعلم النفس.
وقال: “جرت العادة عند علماء الاجتماع على دراسة السلوك الاجتماعي باعتباره ميَّالاً إلى الثبات عبر الأجيال والأزمان، وهو يحوي القيم الاجتماعية التي تعبِّر عن المشاعر، فيما ينتج عن هذه القيم معايير اجتماعية تؤثر على السلوك بشكل مباشر. وعادة، يدرس علماء الاجتماع المعايير الاجتماعية الأكثر ثباتاً من أجل فهم السلوك، وكيفية انتقاله من جيل إلى جيل، وكيف تُسهم الثقافة في صياغة هذه السلوكيات أو كيف تُسهم هذه السلوكيات في تعزيز الثقافة”.
ولفت الدكتور الوايل إلى أنّ المصطلحات التي كانت سائدة قبل العالم السيبراني تتمحور حول الحداثة وما بعد الحداثة. أما الآن فالجهد يصبّ في صياغة مفاهيم مختلفة، حيث صاغ المفكِّر وعالم الاجتماع باومان مفهوم الحداثة الصلبة والسائلة، لفهم عالم ما بعد الحداثة ورصد زمن العولمة.
والحداثة السائلة هي ميزة العصر الرقمي والسيبراني، والتحوُّل من مجتمع الاستقرار والثبات إلى مجتمع متغيّر ومتقدّم. إذ إنّ نماذج السلوكيات وقيم الأخلاق تتعرَّض إلى الميعان كما في لوحات سلفادور دالي. وبالتالي، هي بحاجة إلى التحديث المستمر وليس الثبات. فالسلوكيات يجب أن تتغيّر بسرعة، وإن لم تتغيّر فهي عُرضة للنقد، واعتبارها من القديم. فمن التأثيرات السيبرانية على السلوك هو تحوّل الإنسان إلى إنسان تسع ثوانٍ، أي الإنسان المتنقل السريع الميَّال إلى التحديث المستمر للسلوك.
أصبح مفهوم “تأثير عدم التحفُّظ على الهواء” شائعاً على نطاق واسع في أوساط الأكاديميين المتخصِّصين بهذا المجال. فعلى سبيل المثال إذا كنت في الحافلة لا تستطيع أن تخبر أي غريب تقابله وجهاً لوجه بخصوصياتك وآرائك وهواياتك، ولكن بمجرد أن تجلس في غرفتك وتدخل إلى فيسبوك أو تويتر أو سنابشات تُخبر ملايين الغرباء عنها بسبب تأثيرات عدم الإحساس بالتحفُّظ على الهواء.
وأضاف الوايل أن عالِم النفس جون سويلر، وهو أحد كبار دارسي تأثير السيبرانية على السلوك، طرح مفهوماً جديداً، هو “تأثير عدم التحفظ على الهواء”. وقد أصبح هذا المفهوم شائعاً على نطاق واسع في أوساط الأكاديميين المختصين بهذا المجال. فعلى سبيل المثال إذا كنت في الحافلة لا تستطيع أن تُخبر أي غريب تقابله وجهاً لوجه بخصوصياتك وآرائك وهواياتك. ولكن بمجرد أن تجلس في غرفتك وتدخل إلى فيسبوك أو تويتر أو سنابشات تُخبر ملايين الغرباء عن خصوصياتك ومشاعرك وسلوكياتك بسبب تأثيرات عدم الإحساس بالتحفظ على الهواء. فهذا العالم السيبراني يغري بتكسير الحواجز وإتاحة الفرصة للتعبير عن المشاعر والقصص واليوميات.
ولفت إلى أنّ “الاستراحة” التقليدية – وهي مكان خاص يكون مظلة للقاءات الأصدقاء بشكل يومي أو أسبوعي – أصبحت في العصر السيبراني خالية من النقاشات والأحاديث لأن هؤلاء الأصدقاء أصبحوا وحيدين معاً. ولكن عندما يعودون إلى منازلهم وغرفهم، يتحدثون بشكل أكبر عبر “القروبات” و”المسنجرات”.
وذكر الوايل أن الدكتورة ماري آيكن، الباحثة في مجال السيكولوجيا السيبرانية، ترى أن السلوك يتضخم على الهواء، ويمكن لأي شخص أن يندفع بتهور إلى سلوك آخر ومعايير جديدة. وتسرد آيكن قصة جوردون هاسكنز، وهو شاب في الثالثة والعشرين من العمر قرَّر أن يسعى إلى الحصول على منصب سياسي على أمل أن يخدم كممثِّل للمقاطعة 95 في ولاية ميشيغان الأمريكية. وقبل أن تبدأ حملته وجد نفسه مضطراً للكشف عن سجله الإجرامي، وسرعان ما تبيَّن أنه اتهم سابقاً وأدين بارتكاب أربعة اعتداءات وتجاوزات على الملكية الشخصية والعامة، والاستخدام غير المشروع لسيارات حكومية خلال مدة عشرة أشهر. وحين استجوبته الشرطة بعد اعتقاله، اعترف هاسكنز أنه كان في حالة ذهنية وعاطفية مزرية حين فعل ذلك. فالأمر يتعلق فقط بالرغبة في المرح وحُب المجازفة والإثارة، وقد اكتشف هذا السلوك في الإنترنت.
وخلص الوايل إلى التنبيه على أن العالم السيبراني يحرِّض النفس على إطلاق نوازع كامنة في الذات العميقة وتحويلها إلى سلوكيات، وأن الفضاء السيبراني بإمكاناته غير المحدودة قد يحوِّل العُقَد الاجتماعية والتجارب السلبية إلى عُقَد حقيقية، ويمكن تحويل الشخص العادي إلى مجرم في أي لحظة.
كيف يرسم العالم السيبراني
سلوك الإنسان؟
ثم تحدثت الدكتورة فوزية البكر التي استهلت كلمتها بالإشارة إلى بعض ما شهده العالم السيبراني من إشكالات في الآونة الأخيرة. ومنها فضيحة شركة “أناليتيكا” التي حصلت على بيانات نحو 50 مليون مستخدم لفيسبوك من دون علمهم، وذلك من أجل التأثير على آرائهم قبيل انتخابات الرئاسة الأمريكية. كما أشارت إلى صراع الرئيس الأمريكي ترامب مع تويتر وفيسبوك بعد قيامهما بحذف وإزالة تغريدات ومنشورات له. وأيضاً التقرير الذي أعدته مؤسسة “غلوبال ويب إندكس” للأبحاث المتعلِّقة ببيانات مستخدمي الإنترنت في 34 دولة، حول أهم التوجُّهات في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وجاء فيه أن مستخدمي الإنترنت يقضون ست ساعات على الشبكة يومياً، وثلث هذا الوقت مكرّس لوسائل التواصل الاجتماعي.
ترى الدكتورة البكر أن وسائل التواصل الاجتماعي تدفع معظم المستخدمين إلى إبراز الملامح الإيجابية في شخصياتهم، وإلى تقديم نسخ ربما تكون مثالية وغير واقعية إلى الآخرين. فأحياناً لا تكون هناك حدود واضحة لدى بعض المستخدمين في ما يتعلق بمشاركاتهم. كما أن وسائل التواصل تتيح للإنسان قراءة وسماع كثير من وجهات النظر المتعارضة وذات العلاقة بصراعات ثقافية أو سياسية قائمة. فيما لوحظ من الدراسات أن مستخدمي وسائل التواصل شعروا براحة أكبر في التعبير عن رأي مخالف للرأي السائد.
استخدام المراهقين لوسائل التواصل
والدور المطلوب من الأسرة
ثم توقفت البكر عند دراسة حول استخدام المراهقين لوسائل التواصل الاجتماعي التي قامت بها الباحثة إميلي وينستين، ووجدت هذه الدراسة أن لدى المراهقين أربع طرق رئيسة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من اعترافهم بالمشاعر السلبية في كل منها، وصف معظمهم تجاربهم بأنها إيجابية بشكل عام: التعبير عن الذات (مشاركة المنشورات التي تصوِّر من أنت وماذا يهمك)، والتفاعل في العلاقات (المراسلة والتواصل مع العائلة والأصدقاء والاهتمامات الرومانسية)، والاستكشاف (البحث عن مجالات الاهتمام)، والتصفح (المرور العام على الخلاصات والتطبيقات).
وبيّنت أنه لم ينتج عن أيٍّ من هذه الأساليب لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي عواطف سلبية بحتة، حسبما أفاد المراهقون.
وأشارت البكر إلى أنه في وضع التعبير عن الذات – بحسب الدراسة – شعر المراهقون بالمتعة والإثارة عندما شاركوا جوانب مهمة من هوياتهم مع الآخرين، واستمتعوا بالنظر إلى أخبارهم الشخصية على إنستغرام للتأمل في كيفية تطوُّرهم مع مرور الوقت. وبالنسبة للتفاعل في العلاقات، شعر المراهقون بالسعادة للبقاء على اتصال مع أقرانهم، وعزَّز عديد منهم بالفعل العلاقات غير الافتراضية مع الأصدقاء وغيرهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. أما بخصوص الاستكشاف فاستمتع المراهقون بمعرفة مزيد عن اهتماماتهم مثل الطهي أو الرياضة أو استكشاف الرغبات الجديدة، مثل الحركات الناشطة أو السيطرة على السلاح، لكنهم أيضاً أفادوا بمشاهدة الصور والقصص المؤلمة والمحبطة. وعند التصفح، غالباً ما شعر المراهقون بالبهجة والإلهام من الصور ومقاطع الفيديو المختلفة التي صادفوها.
ضحايا التنمُّر الإلكتروني المعرَّضون للإساءة والأذى من المتنمِّرين، يشعرون بالخوف والقلق دائماً، ويتغيبون عن المدارس، ويبدأون في التعرُّض لمشكلات صحية أكثر من غيرهم.
ولفتت البكر إلى دور الأسرة في كيفية مساعدة المراهقين على التكيُّف مع التقلبات العاطفية. وقالت إنه في الوقت الذي تعاني فيه الأسرة من القلق إزاء استخدام أبنائها المراهقين للهواتف الذكية، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أن عديداً من المراهقين لديهم تجارب إيجابية بشكل روتيني على وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن على الأسرة أيضاً أن تتذكَّر أن عديداً من هذه المشاعر السلبية طبيعية نسبياً. وأن الإفصاح عن الذات والمصداقية والمخاوف المتعلِّقة بالقبول والانتماء – كما جاء في الدراسة – هي مكوّنات أساسية لنمو المراهقين وصداقتهم التي تسبق تفاعلات الشباب الرقمية وتوجد فيها.
ودعت الأسرة إلى أن تأخذ تجارب أبنائها السلبية على محمل الجد، خاصة إذا تغيَّر مزاجهم أو سلوكهم، أو إذا كانت هذه المشاعر السلبية تؤثِّر على أوجه النشاط اليومية. ولكن قد لا يكون عزلهم عن وسائل التواصل الاجتماعي بالكامل هو الحل الأمثل. كما دعت الأسرة إلى أن تتحدث مع أبنائها حول تجاربهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يكتشفوا معاً ما الذي يستمتعون به بالضبط، وما هي التحديات التي يواجهونها. وتطرَّقت إلى قول شيمي كانغ، وهي طبيبة نفس كندية متخصِّصة في تأثير الإدمان على الصحة النفسية للأطفال والمراهقين “ربط كثير من الأطباء في الآونة الأخيرة بين الاكتئاب والقلق وعدم الرضا عن شكل الجسم وبين الإفراط في استخدام الأجهزة والتقنيات الرقمية، وباتوا يشخِّصون الإدمان الرقمي كأحد الاضطرابات النفسية”.
وخلصت شيمي بالقول “إن الأجهزة والتقنيات الرقمية، كشأن الأطعمة، بعضها أشد ضرراً أو أكثر نفعاً من البعض الآخر. وإذا أردنا أن نتجنب أضرارها ونجني فوائدها، فعلينا أن نفهم أولاً كيف تؤثِّر هذه الأجهزة على أدمغتنا”.
ظاهرة التنمّر الإلكتروني وإمكانية مواجهته بتعزيز الثقة بالذات
ولأن التنمُّر الإلكتروني هو واحد من أسوأ سلبيات الفضاء السيبراني وأكثرها فجاجةً، كان لا بد للجلسة من أن تعرج على هذا الشأن مع الدكتورة مروة عبدالباري، التي وصفت في مداخلتها مفهوم التنمُّر الإلكتروني بأنه عبارة عن سلوك عدواني يحدث على وسائل التواصل الاجتماعي، من فرد إلى فرد أو من مجموعة أفراد إلى فرد واحد سواء أكان طفلاً أو مراهقاً، حيث يقوم هذا السلوك بإلحاق الأذى بالآخرين والإساءة إليهم؛ من خلال نشر أو مشاركة محتوى سلبي وضارّ عن شخص ما، ويتضمَّن مشاركة وتبادل المعلومات والصور الشخصية لشخص مما يُعرِّضه للسوء والإهانة والإحراج.
ورأت أنّ ضحايا التنمّر الإلكتروني المعرَّضين للإساءة والأذى من المتنمِّرين، يشعرون بالخوف والقلق دائماً، ويلجأون إلى الكحول والمخدَّرات، ويتغيَّبون عن المدارس، ويبدأون في التعرض لمشكلات صحية أكثر من غيرهم. ويصل الأمر ببعضهم إلى التفكير بالانتحار.
وحدَّدت مجموعة من أشكال التنمُّر الإلكتروني كالسخرية والتشهير ونشر الشائعات والمعلومات المغلوطة والصور المزعجة، إضافة إلى التحرُّش والإهانات وإفشاء الأسرار، والمضايقات الإلكترونية، وتشويه السمعة وانتحال الشخصية.
وروت الدكتورة مروة أنها التقت من خلال عملها بإحدى الأمهات برفقة ابنتها الصغيرة التي كانت تعاني مشكلة نفسية، وأخبرتها أن ابنتها كانت تلعب مع أختها وصديقاتها بشكل طبيعي، وفجأة صارت تنزوي وحدها في الغرفة وترفض الاندماج مع صديقاتها أو المشاركة في أي شيء، ولا تفارق الهاتف الجوَّال دقيقة واحدة. وفي الآونة الأخيرة كثُر حديثها عن الموت، وزادت أسئلتها حول هذا الموضوع. بدورها أخذت الدكتورة البنت وتحدثت معها، واكتشفت أنها تعرَّضت للتنمُّر الإلكتروني من إحدى صديقاتها في المدرسة، التي راحت تشوِّه سمعتها وتوجه لها الإهانات، فأصيبت بحالة نفسية بسبب هذا السلوك، ما جعلها ترفض الحياة وتخاف من الذهاب إلى المدرسة. وقالت: “هنا يأتي الدور التوعوي في التصدي للمشكلات التي تسببها وسائل التواصل الاجتماعي من خلال العمل على وقف التنمّر الإلكتروني والتخلّص منه، وتثقيف المستخدمين بأخلاقيات الشبكة الإلكترونية وقوانينها”.
وشدَّدت مروة على أهمية الدور الثقافي للأسرة في تجنيب أولادهم التعرُّض للتنمُّر الإلكتروني من خلال الحوار الدائم معهم، والتحقق من سلوكهم، ومراقبتهم في كيفية استخدامهم للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وضرورة تقنين استخدام الإنترنت وتخصيص أوقات محدَّدة لها، لحمايتهم من الإدمان والمخاطر. بعض الأمهات يتسببن في تعرض أولادهن للخطر والتنمُّر الإلكتروني إما لنقص حقيقي في المعرفة بهذه المشكلة، أو لانشغالهن في العمل.
ونبَّهت مروة إلى ضرورة أن تلعب الأسرة دوراً كبيراً في تعزيز ثقة أولادها بأنفسهم وتنمية إحساسهم بالمسؤولية، وتقوية مناعتهم أمام أضرار سوء استعمال وسائل التواصل الاجتماعي. كما دعتها إلى توجيه الأولاد إلى ما هو مفيد ونافع لهم وتنمية مواهبهم وتشجيعهم على الانخراط في أوجه النشاط الاجتماعية.
زيادة الوعي بالذات
وفي ختام الجلسة، شارك عدد من متابعيها على الشبكة ببعض المداخلات والأسئلة. فقدَّمت حزوا العجمي مداخلة أشارت فيها إلى أن الأشخاص قد يعانون من متاعب في العالم الافتراضي بسبب عدم الحصول على الإعجاب والتفاعل. وهو الأمر نفسه الذي يحصل في الواقع حين يكون الأشخاص وحيدين معاً بسبب عدم حصولهم على الاهتمام المناسب والمحبة الكافية في محيطهم الاجتماعي، فالشعور بالاهتمام هو حاجة من حاجات الإنسان الأساسية، وعلينا أن نساعد الأشخاص من خلال التأهيل والبرامج على أن يكتسبوا صلابة أو مرونة نفسية للتعامل مع هذا الواقع الجديد.
وتساءلت لطيفة السبيعي حول ما إذا كان العالَم السيبراني ساعد الإنسان على التعبير عن رغباته المكبوتة وزيادة الوعي بالذات؟
كما استفسر الدكتور عطية الويشي، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية القانون الكويتية، حول الأبعاد القيمية ومدى قدرة الدول على مراعاة قواعد ومعايير الأخلاق في ترتيبات الأمن السيبراني، ومدى قدرة المؤسسات الحكومية وغيرها على صياغة اتجاه علمي وتقني في سياق ما يمكن تسميته حوكمة الأمن السيبراني.
وشارك الدكتور جبران يحيى من جامعة الملك خالد بمداخلة سأل فيها إن كانت السمات الشخصية والسلوكية لإنسان ما داخل المجتمع الافتراضي تختلف سماته عما هو في المجتمع الواقعي.
كما تحدث الدكتور علي الدوسري عن أهمية علاقة الفرد بالمؤسسات، لافتاً إلى أن الشيوع الهائل للمجتمع السيبراني مكّن كثيراً من الأفراد من إيصال أصواتهم وتحصيل حقوقهم، بناءً على الظواهر السيبرانية التي تجعل من الفرد الواحد قضية في المجتمع. بالتالي أصبح هناك تغيير وتعديل على مستوى المؤسسات وليس الأفراد.
ورداً على هذه الأسئلة والمداخلات اتفق المشاركون على أنّ العالم السيبراني أسهم كثيراً في دفع الإنسان نحو التعبير عن رغباته ومشاعره وأفكاره بلا حدود، وأن النظام الاجتماعي الذي كان سائداً ويقمع النزوعات المكبوتة تعرَّض لانتكاسة في العالَم السيبراني الذي حرَّر هذه المشاعر وحوَّلها إلى سلوكيات إيجابية وسلبية.
ولاحظوا أن وسائل التواصل الاجتماعي كسرت القوالب الفوقية، وغيَّرت السلطة الاجتماعية، وأتاحت المجال لإفلات الجيل الجديد من سيطرة جيل الكبار والتحرُّر من المرجعية الماضوية. “إلا أننا يجب أن نعي الجوانب الخفية حتى نحسن استخدام هذه التقنيات والتحكم بها بكل مناعة وقدرة ولا نكون أدوات لها”.
واعتبر المشاركون أن من غايات نشأة الرقميات، التشارك والتواصل والتبادلية والذكاء الاجتماعي، ولفتوا إلى أن المجتمع السيبراني سمح أيضاً بإتاحة المشاركة لأشخاص كانوا لا يستطيعون المشاركة في حياتهم العادية.
ودعا المشاركون إلى التفاعل مع العالَم السيبراني بمشروعات وطنية حتى لا نظل أتباعاً، وكي ننتمي إلى قسم الروَّاد والنخبة وليس إلى قسم الأتباع. كما دعوا إلى ترشيد وقت استخدام الإنترنت وتقنين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لحماية المجتمع، ومنعاً لهدر الوقت، فضلاً عن التركيز على العلاقات الاجتماعية والأنشطة المختلفة.
إبداع .. من أجمل المقالات التي أتمنى أن يكون لها رواجًا أوسع.