مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

سينما سعودية

الأفلام السعودية.. هل كانت مرايا صادقة لمجتمعها؟


هدى جعفر

منذ فتح الباب واسعًا أمام الحركة الثقافية والفنية، دخلت السينما السعودية في سباق مع الزمن. وأدَّى كل فِلم سعودي دوره، صغيرًا كان أم كبيرًا، في إبراز الهوية الثقافية السعودية لكل منطقة، والتأكيد على فسيفساء النسيج الاجتماعي والثقافي الذي يكمن جماله في تنوّعه، وهو الموضوع الذي سيرعى مشاريع السينما السعودية على الأرجح لعشرات السنوات إلى الأمام.


اقتحم السعوديون بوابة صناعة الأفلام، سالكين طريق ذهاب بلا عودة؛ إذ لم يكن تدشين دُور السينما في المملكة، مؤخرًا، حتى تكون مرافق ترفيهية فحسب، بل لتمثّل استهلالًا لعهد فني جديد يحفّز الحركة السينمائية السعودية على الارتقاء إلى أعلى المستويات، بإنتاج لافت كمًا ونوعًا، يتميز بخصوصية اجتماعية وثقافية شديدة الفرادة والتعقيد.

إنّ تقديم فِلم سينمائي سعودي يشبه المشي على سجادة من إبر، أو في حقل ألغام، ليس بسبب وطأة تأثير المرحلة السابقة على ذائقة الجمهور وحساسيته تجاه ما يُعرض في الأفلام ومدى تقبّله لها، بل أيضًا بسبب التوقعات المرسومة حول ما يُمكن أن تتحدث عنه هذه الأفلام التي تُنتج في بلاد غابت عنها دُور السينما على مدى أربعة عقود تقريبًا.

فيصل الدوخي، في دور “دايل”، من ِفلم “حد الطار”.

تحتّم على صانع الأفلام السعودية الخروج باحترافية وذكاء من الصورة النمطية المصممة عنه، حاملًا من الأفكار ما خفّ وزنه وتعمّق أثره، مُحاربًا كل نظرة سلبية ونمطية عن هذا البلد وأهله. ولمَّا كان الفن ينتج بمزيج من الاتحاد مع الذات ومن التملّص منها في الوقت نفسه، فإن من الملحّ جدًا تفحّص الإنتاج السينمائي السعودي، وتأمل الكيفية التي عرض السعوديون والسعوديات بها أنفسهم أمام العالم.

جسم الرجل.. وجه المرأة

انتعشت السينما السعودية في لحظة تحوّلات اجتماعية في غاية الأهمية. وبقدر أهمية هذه اللحظة وإمكانات ثرائها الدرامي، كان من السهل الانزلاق إلى فخ “الكليشيهات”، واجترار المظالم، والمتاجرة بالنساء وقضاياهن، وهي جريمة فنية وحقوقية على حدٍ سواء، وقع فيها كثير من الأسماء في المنطقة العربية، وقدموا صورة تُشبع نظرة “الآخر” إلى العربي وإلى الخليجي بشكل خاص. وكانت المرأة هي القربان الناجز دومًا لتغذية هذه النظرة، المرأة المحجبة القابعة في الظلال، قد تكون مختونة، أو زوجة رابعة، أو حتى ثرية تتنافس مع أخرى حول رجل جزّأ جسده وماله على كثيرات. وكان هناك من يتوقع أن تقع السينما السعودية في ذات المستنقع، وأن يتلوث ثوبها بذات المياه الآسنة، لكن ما حدث كان مفاجأة حقيقية.

خيّبت السينما السعودية الظنون السيئة، ولم تكتفِ فقط بعدم امتهان قضايا النساء، بل يمّمت وجهها نحو الرجل، فـ”أنسنته”، وأشارت بأصابع واثقة إلى جروحه، ودسّت أنفها في شؤونه بلا لحظة فتور أو اكتفاء، فجاءت الأفلام حارة وحقيقية، يُصبح الرجل فيها مُحاصرًا بالعادات والتقاليد، عاشقًا أو فنانًا أو مجرد ابن لعائلة تريد لتماسكها أن يدوس على أي شيء آخر. فرأينا الرجل السعودي في ضعف وهشاشة إنسانية أضفت عليه سحرًا ووهجًا. شخصيات سينمائية فذّة، لم تلعب على وتر الفحولة الكرتونية، وبكائيات الرجل الشاهر سيفه، والمرأة الخانعة تحت طبقات الحجاب، لأنّ هذا ما يتوقعه المشاهد الخارجي؛ إذ يرضي ذلك الصورة المُقتطعة من سياق عام لا يُعرف عنه الكثير. أفلام أضحت فيها العضلات وسائد، والتستوستيرون قطعة عود تُحرق على مهل، فنجد لدينا ناصر (عاصم العوّاد) في “أغنية الغراب”، وحامد (يعقوب الفرحان) في “رقم هاتف قديم”، ودايل (فيصل الدوخي) في “حد الطار”، وكثيرون غيرهم.

عاصم العواد، في دور “ناصر” من ِفلم “أغنية الغراب”.

يسوقنا هذا إلى النظر في أحوال المرأة السعودية، البطلة الموضوعة تحت كل الأضواء منذ زمن طويل، فكيف ظهرت؟ لقد جاءت طبيعية تمامًا، ظالمة ومظلومة، تتبادل مع شقيقها الرجل أدوار الضحية والجلاد. فلو نظرنا إلى شخصية أبرار (إلهام علي) في “المسافة صفر”، وهي البطلة الوحيدة بين مجموعة من الرجال، لوجدنا دورًا مرسومًا باقتصاد على قدر القصة، لا تلميع، ولا دفاع، ولا تبرّؤ، ولا ترويج؛ دور متسق مع الملامح الاجتماعية لمدينة الرياض بداية الألفيّة الثانية، معلمة بين بيتها وعملها، وفي الوقت المُتاح تتحدث مع الحبيب سرًا، هكذا ببساطة شديدة.

في فِلم “ناقة” لمشعل الجاسر، لدينا سارة (أضواء بدر) التي رغبت في قضاء وقت مع الحبيب سعد (يزيد المجيول) في رحلة إلى البر. فعشنا معها رحلة نفسية غريبة، في قلب المخاوف المحلية، وعلاقة الإنسان السعودي بالنياق وصبرها وجلدها وقلبها الحقود الذي يتذكّر كل شيء. لكن سارة تخرج من جوفِ الظلمة وتلتهمها، مما يدفعنا للتساؤل: من هي تلك الناقة بالضبط؟!

وحتى الطفلة ليان في فِلم مشعل الجاسر الجميل والمؤثر “سومياتي بتدخل النار؟” التي حاكمت أسرتها بسُلطة الطفولة وذكائها، واستعرضت تجارب عاملات المنازل، مع كاميرا مدهشة ولسان سليط وعين مقتحمة لكل التفاصيل.

إنّ تقديم صورة المرأة في السينما عمومًا كان سلاحًا ذا حدٍّ واحد فقط، متوالية درامية اُستهلِكت واُبتذِلت حتى فقدت أثرها. وبالرغم من ذلك، يروق للكثيرين تمحيص صورة النساء في السينما دون الرجال، حتى السينما الأوروبية والأمريكية لم تنجُ من ذلك. بينما لا يُمكن معرفة أحوال النساء سينمائيًا، من دون البحث والمقارنة والتحليل لأدوار الرجال. وصورة الرجل السعودي في السينما حتى الآن، مُنتصرة للفن، لا قضايا ولا أجندات، وانعكس ذلك على أدوار النساء، فمنحتها صدقًا وقُربًا من القلوب، ومن الجوائز السينمائية أيضًا.

انطلاقة من الذات.. وعودة إليها

يقول كثيرون إنّ خلطة النجاح لا يمكن أن تتحقق من دون الانطلاق من المحلية؛ أي لا يُمكن للفنان أن يفصح لسانه وتصفى عينه، إلا إذا انطلق من بيئته ومحيطه. لكن المحلية قد تكون فخًا أيضًا، فيجب التعامل معها بحذر حتى لا يختنق الفنان بها، ولا يُحبس في قعر الأصالة بحجة الهويّة والعادات والتقاليد. وهنا كانت لعبة الأفلام السعودية الأكثر “فهلوة”، سيمفونية متكاملة بلا نغمات نشاز. لم تحبس التجارب السينمائية السعودية نفسها في قصة واحدة، ولم تقدّم لونًا واحدًا لهذه “المحلية”، وفي الوقت نفسه لم تجافِها. فحضرت كثير من الإشارات إلى المشاكل الاقتصادية، وزمن الصحوة الدينية، والفروق الاجتماعية، وعقبات الماضي وأزمات الحاضر، ممتزجة ببعضها أحيانًا بمختلف المذاقات الدرامية.

من جهة أخرى، رفضت الأفلام السعودية الانصياع للفكرة المتجنّية والمغلوطة عن المجتمع السعودي، وهي الفكرة التي أسهمت فيها عوامل كثيرة، منها أعمال خليجية سابقة. إذ تؤكد هذه الفكرة أنّ مشاكل الفرد السعودي، تدور دومًا في القصور والمتنزّهات البحرية والسيارات الباذخة، وأنّ جلّ اهتمام الأسرة يصبُّ في الزوج المعدّد وخلافات الضرائر. وذهبت هذه الصورة جُفاء، إلا بما اقتضته الضرورة الدرامية. فقد أظهرت الأفلام السعودية كافة الطبقات الاجتماعية، من “كريمة المجتمع”، إلى عائلات الحواشي والهوامش، ومن الأزقة الضيقة التي تكشف خفايا السكان وهمسات العشاق واللصوص، مثل “بركة يُقابل بركة” لمحمود صبّاغ، إلى الشوارع العريضة التي سمحت لسيارة مريم (فاطمة البنوي) وناصر (براء عالم) بالانطلاق سريعًا في فِلم “سكة طويلة” للوصول إلى والدهم (عبدالمحسن النمر) في أحد أجمل أفلام الطريق، والقائمة هنا طويلة بالفعل.

أظهرت الأفلام السعودية كافة الطبقات الاجتماعية، من “كريمة المجتمع”، إلى عائلات الحواشي والهوامش، ومن الأزقة الضيقة إلى الشوارع العريضة.

لقد خرجت الأفلام السعودية من قوالب التنميط والتصنيف والإجابات المحفوظة سلفًا، إلى رحابة السؤال والاكتشاف والتنقيب عن الغنى والفقر، والعلو والهبوط، والأبيض والأسود وما بينهما. وقدّمت الوجوه الحقيقية والدماء الفائرة والدموع والقهر والفرح، والحياة كما يعيشها كل الناس. فهناك أفلام الحركة والجريمة، مثل: “المسافة صفر” لعبدالعزيز الشلاحي، والدراما الاجتماعية “وجدة” لهيفاء المنصور، و”شريط فيديو تبدّل” لمها الساعاتي؛ والرعب مثل “واحد طش” لمحمد غازي هلال؛ والتشويق مثل “الخطابة” لعبدالمحسن الضبعان؛ والكوميديا كـ”سطّار” لعبدالله العرّاك؛ والكوميديا السوداء مثل “الخلّاط+” لفهد العمّاري؛ والرسوم المتحركة مثل “سليق” للمُخرجة أفنان باويّان. وكذلك التجريب والسريالية، مثل: “في داخلي خريف أبدي” لحسين عبد الرسول السميّن، و”مدينة الملاهي” لوائل أبو منصور، إضافة إلى التنويع في أشكال الأفلام ما بين القصيرة والطويلة والوثائقية والتسجيلية وغيرها.

فِلم “سكة طويلة”.

هوية المكان والزمان

ويقفز إلى الذهن فِلم “شمس المعارف”، الذي صدر في أواخر عام الوباء. لم تكمن أهميّة الفِلم في أنّه كان الأكثر رواجًا، آنذاك، فحسب، بل لأنه يجسد تمامًا دور الأفلام في استعراض الثقافات المحلية. وكعادة أعمال الأخوين قدس، بشكل عام، جاء “شمس المعارف” محمّلًا بكثير من الإشارات المُنتزعة من صميم الثقافة الجداوية الفريدة. ومن المؤكد أن بعض تلك الإشارات قد مرّ من دون أن يستحوذ على كامل انتباه المشاهد. ففي إحدى اللقطات، تظهر بركة سلاحف داخل إحدى الأسواق التجارية، ثوانٍ طارت في الهواء، لكنّها محملة بالكثير من الحميمية. لقد كانت هذه البركة في أوائل الثمانينيات أعجوبة صغيرة بالنسبة إلى سكان جدة من الطبقة المتوسطة وما فوقها، وكانت ظاهرة لم تتكرر في أي من الأسواق بعد ذلك، وكان لا بدَّ للزائر أن يمرّ على تلك البركة الصغيرة، في مركز تجاري كان الأحدث آنذاك، خصوصًا في ظل عدم وجود حديقة عامة للحيوانات.

وعلى طريقة “شمس المعارف” نفسها، جاءت كل الأفلام السعودية صادحة بتفاصيل ملتصقة بذاكرة السعوديين، ومعبّرة عن حميميتها. فنجد على سبيل المثال، في الفِلم نفسه “الحجة” التي تبيع الحلويات والألعاب بجانب كل مدرسة. وهناك أيضًا صوت موضي الشمراني وهي تغني تحديدًا “جيبولي دكتور نفسية” في “سومياتي بتدخل النار؟”، وشطّة شركة رنا فوق مكاتب الموظفين في “الجُرذي”، ولقاء العشاق المحموم قُبيل دخول رمضان في “27 شعبان”، وجراك باعشن في “ومن كآبة المنظر”، وسباق الهجن في “هجّان”، وجثث القوارب الخشبية بعد اختفاء مسابقة “الجَكَر”.

يعقوب الفرحان، في دور “حامد” من ِفلم “رقم هاتف قديم”.

مرايا الأصل والأصل

إن الحديث عن السينما مطوّل دائمًا، طريق لا تكفُّ الأفكار فيه عن الركض والدوران، صفحات نهمة على الدوام للحبر الطازج بكافة ألوانه. ويزداد ذلك عند الكتابة حول الأفلام التي ما زالت في البدايات، تكتشف نفسها وتُلاعب خطوط السرد والفن والقضية بارتباك وتردد ربَّما، لكن بثقة وصدق وشهية مفتوحة على التجريب والابتكار، والتعبير الأصيل عن الذات، بعيدًا عن “نخاسة” القضايا واستنساخ الفكر واستسهال العمل الفني.

قبل 15 عامًا كان الحديث عن مشاهدة أفلام في دور سينما داخل المملكة ضربًا من الخيال الجامح. وقبل 5 سنوات كانت فكرة عرض فِلم سعودي تُطرح بحرج ما، مصحوبة بكم كبير من التعجّب، خصوصًا لدى مواليد التسعينيات وما قبلها. لكن الآن، وأثناء كتابة هذا المقال، تُعرض في الوقت نفسه أربعة أفلام سعودية في دور السينما، بقضايا واتجاهات فنية متنوّعة، وقد تصدّر بعضها شباك التذاكر ضمن المراكز الخمسة الأولى، جنبًا إلى جنب مع أفلام آتية من صناعات سينمائية عريقة بخبرة عشرات السنين.

وعند مشاهدة هذه الأفلام السعودية، نجد أنّ الحديث عنها، بنقائصها وجمالياتها، ضروري وممتع في آنٍ، ونجد أنّ الشخصيات السينمائية مخلوقة لتنطق بالصدق وإن كان مؤلمًا، وبالحقيقة وإن كانت لا تروق للجميع، لا توسّل لتحسين صورة الإنسان السعودي، ولا تبرؤ من الذنوب والتشوّهات، بل تعاطٍ واعٍ مع الفن وفُرَصه، ومرايا مصقولة لم تكفَّ عن عكس صورة الحيوات في المملكة بشفافية وجرأة، حتى غدت هي الأصل وليس الانعكاس.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


0 تعليقات على “الأفلام السعودية.. مرايا للمجتمع؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *