يختلف مكان العمل في عصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي عما كان عليه في السابق. فقد تغيَّر مفهوم العامل وما يعمله، وكذلك موقع العمل والبيئة المبنية الحاضنة له. فكما لم تعد الحدود واضحة بين ما هو ميكانيكي ورقمي وبيولوجي، كذلك لم تعد الحدود واضحة بين العامل والمدير أو صاحب العمل، ولا بين مكان العمل ومكان السكن، أو العمل في الوطن أو في العالم الواسع، أو بين الداخل والخارج عندما بدأت الطبيعة تأخذ حيزاً في الداخل، أو اختفاء الحدود بين العالم الافتراضي والعالم الحقيقي.
على عكس مكتب القرن الماضي، يُمارس العمل الآن في أي مكان وفي كل زمان. فقد وسعت الشركات حدودها، وتعزَّزت أهمية التواصل الفعلي في المكان نفسه وعبر الشبكة. لذا أصبحت “المقصورة” قديمة وغير مقبولة.
لم يعد العامل مجرد بائع لجزء من وقته كما كان أيام كارل ماركس في القرن التاسع عشر عندما سمي أجيراً، وتوجب مراقبته على هذا الأساس. إذ بدأت التراتبية الإدارية تختفي وتأخذ شكل الهياكل المسطحة؛ لأن الإبداع أصبح هو محور العمل، وهذا لا يتطلب المراقبة، لا بل يمكن للمراقبة أن تعيقه. فقد كان ستيف جوبز مثلاً “أجيراً” بسيطاً، لكنه أسس شركة “أبل” العملاقة.
وإذ أخذت الحدود بين العامل ومدير العمل أو صاحب العمل بالاختفاء، لم يعد التصميم الداخلي المرتكز على المراقبة صالحاً. فقد تمثلت هذه التصميمات بقاعات العمل التي صممها المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت في بداية القرن العشرين، وظلت هي التقليد الرئيس حتى منتصف القرن نفسه عندما ظهرت المقصورة. كانت هذه القاعات تشبه، إلى حد ما تصميم السجون، حيث مجالات الرؤية البصرية واسعة جداً أمام المراقب. وهذا ما أوحى للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عنوان كتابه الشهير، “راقب وعاقب” (1975م) كسمة أساسية لعصر الحداثة.
يقوم تصميم مكان العمل على أساس الاتجاه القوي إلى اعتبار العمل غير منفصل عن الحياة، أو أنه أصبح نمط حياة. وقد سمى الفيلسوف الأمريكي المعاصر أندرو تاغارت هذه الظاهرة بـ “العمل الكلي” أو التماهي بين العمل والحياة. ومن هذا المنطلق بدأ التصميم الداخلي لمكان العمل يشبه تصميم المنزل.
وعلى الرغم من أن الأجهزة المتنوِّعة أصبحت مهيمنة على كافة جوانب حياتنا، فإن هندسة مكان العمل الحديثة تنحو بشدة لإعطاء البشر الأولوية عليها. ويُسمى التفاعل بين التكنولوجيا والهندسة المعمارية “تكيتشور” (techiture)، وهو المحرك الرئيس في التحوُّل التصميمي الكبير الحالي. فالحلول الرقمية لطرق العمل الأسلس موجودة بالفعل، لكن فن التصميم الحديث لأماكن العمل يقضي بأن تكون متكيفة وملائمة للبشر وليس هيمنة الأجهزة.
من هنا تأتي أهمية التصميم المعماري. ففي اللحظة التي يدخل فيها المرء المكتب أو مكان العمل، يمكنه أن يشعر بالثقافة التي ابتكرها المصممون، سواء قصدوا ذلك أو لم يقصدوا. فالمساحة المصممة جيداً تبدو مفتوحة ومفعمة بالحيوية. إنها تلهم الناس على التفكير بحرية وأن يكونوا أكثر إنتاجية وإبداعاً. وعندما ترعى ثقافة إيجابية استخدام مفاهيم التصميم المعماري الفعّال للمكتب بما ينسجم مع اتجاهات العصر الأساسية المتفاعلة مع حياة العمال اليومية، تكون هي الخطوة الأولى على طريق النجاح.
تطوُّر مكان العمل
بدأ المفهوم الحديث للمكتب مع فئة التجار. كانت المكاتب نفسها في البداية تشبه إلى حدٍّ كبير احتفالاً كما تخيله تشارلز ديكنز في قصة “كريسماس كارول”، حيث يعمل التجار والكتبة في منطقة مفتوحة إلى حدٍّ كبير في بهو الدور الأرضي من مبنى معيَّن يستقبلون فيه وفود المشترين، بينما يعيش التاجر وعائلته في الطوابق أعلاه.
كانت شركة الهند الشرقية أولى الشركات العملاقة في العالم وواحدة من أوضح الصور لما كان عليه مكان العمل في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. كانت هذه الشركة تحتوي على كميات هائلة من الأوراق، تصل عن طريق البريد نتيجة التعامل مع المصالح الإمبراطورية البريطانية الواسعة. وفي حين أن محفظتهم العقارية في بريطانيا وغيرها كانت ضخمة جداً، فإن مكان العمل كان منزلاً سمي “منزل الهند الشرقية”. وبقي على هذه الحال حتى عام 1861م، عندما أعيد تصميمه لاستيعاب أعمال الشركة المتنامية. ولم يكن التصميم الجديد يشمل المكاتب فحسب، بل شمل أيضاً غرف اجتماعات كبيرة وساحة خارجية على شكل حديقة مخصصة لحفلات الاستقبال.
مع بداية القرن العشرين أدخل فرانك لويد رايت تصميم المكتب المفتوح في الولايات المتحدة. فكان المديرون العامون والمديرون التنفيذيون يجلسون في مكاتب واسعة تتوسط قاعات ذات نوافذ كبيرة، ومفتوحة على صفوف من مكاتب الموظفين والسكرتارية في المركز لتسهل عليهم المراقبة.
أفسحت هذه الاستراتيجية الطريق في نهاية المطاف لما قد يكون أكثر ابتكارات المكاتب شهرة: المقصورة. فقد قامت مجموعة معماريين ألمان في خمسينيات القرن العشرين اسمها “كويكبورنر” بابتكار تصميم ديناميكي يتمثل في تقسيم المكاتب إلى مجموعات عضوية، بقصد إنشاء بيئة حرَّة الشكل توفر المرونة، مع الحفاظ على المكاتب حول المحيط. وهكذا أصبحت المقصورة الدعامة الأساسية للمكاتب في أنحاء مختلفة من العالم منذ ذلك الحين.
وفي توقع عبقري يعود إلى ما قبل ظهور الهواتف والأجهزة النقالة، ظهرت مقالة في مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو”، في أبريل 1985م عنوانها: “مكتبك هو حيثما تتواجد” (Your Office is Where You Are). كتبها فيليب ستون وروبرت لوتشيتي، وأصبحت شعاراً للابتكار والتفكير المستقبلي وتحدياً ثورياً لتصميم مكان العمل التقليدي. وقد تكون هذه المقالة الوثيقة الأكثر تأثيراً في الهندسة المعمارية حتى يومنا هذا.
وفي عام 2002م ظهر المكتب الذكي لأول مرة في تصميم البنك المركزي الألماني “دويتشه بنك”.
ما بعد المقصورة
على عكس مكتب القرن الماضي، يُمارس العمل الآن في أي مكان وفي كل زمان. فقد وسعت الشركات حدودها، وتعزَّزت أهمية التواصل الفعلي في المكان نفسه وعبر الشبكة. لذا أصبحت “المقصورة” قديمة وغير مقبولة. فمساحة العمل يجب أن تكون مكاناً مريحاً ومتصلة بشكل جيد، ومصممة لتسهيل التفاعل والاتصال.
لم تعد الجغرافيا عاملاً أساسياً في تصميم مكان العمل كما كانت في السابق. أصبح العامل الرئيس تحديد المواهب والاحتفاظ بها وتنميتها أينما وجدت، بغض النظر عن الجنسية أو العمر أو الجنس أو الثقافة. وخلق هذا الانفتاح والترابط المتزايد مجال تركيز حيوياً واحداً حيث يجب أن نركِّز تفكيرنا الإبداعي: التنوُّع. إن فهم عقولنا وأجسامنا هو الآن شرط أساسي لفهم وبناء بيئة حياة عمل حديثة. والتصميم الذكي لمكان العمل الذي يأخذ في الاعتبار هذه العوامل المتنوِّعة أصبح هو مفتاح النجاح والتقدُّم.
للمرة الأولى في التاريخ، لدينا الآن أربعة أجيال تعمل جنباً إلى جنب، مما يعني أنه يجب مراعاة طرق تفكيرهم وعملهم المختلفة عند تصميم بيئات العمل. كما أن دخول المرأة بقوة في الحياة المهنية سيكون دافعاً لخلق بيئة عمل شاملة حقاً.
مساحات عمل مشتركة
متعدِّدة الجنسيات
إن محو الحدود يجعل القوى العاملة الحديثة تنتقل باستمرار من مكان إلى آخر. وما يجب القيام به من أعمال متاح من خلال السحابة الافتراضية عبر القارات والبلدان. وهذا ما يقود إلى نمو العمال المستقلين والاستشاريين والمقاولين العاملين لحسابهم الخاص، تعبِّر عن ذلك الطفرة الريادية في الشركات الناشئة والملكية الفردية الباحثة عن أماكن داعمة للعمل خارج المكاتب المنزلية ومقاهي الإنترنت. وهذا ما يتيح ابتكار نوعية جديدة من مساحات العمل. وتتجلى مساحة العمل السائلة هذه في شكل المكاتب المنزلية ومجتمعات العمل المشترك.
تكتسب “المباني المختلطة” – حيث تتشابك المناطق والمكاتب العامة – أهمية خاصة. إذ يمكن أن تعزز هذه المساحات التبادل بين أنواع مختلفة من الناس من خلفيات وحقول مختلفة وتوفر مساحة محايدة لكل شخص في المبنى للتأمل والتفكير.
ويتصف الجزء الأكبر من العمل اليوم بالتعاوني، ويحدث في مكان للاجتماعات، مما يسمح للفرق الصغيرة والكبيرة بالاجتماع معاً ومناقشة إيجاد الحلول للمشكلات وابتكار سبل للفرص الناشئة. ونتيجة لذلك، يمكن مشاركة المساحة داخل المكتب؛ في الواقع، من الأفضل مشاركتها. لذا فإن كثيراً من الوظائف مثل المبيعات والتسويق والإدارة أصبحت تعمل على أساس ما يعرف بـ “المكاتب الساخنة”، أي غير المخصصة لشخص واحد بل لمجموعة كاملة.
يتصف الجزء الأكبر من العمل اليوم بالتعاوني، ويحدث في مكان للاجتماعات، مما يسمح للفرق الصغيرة والكبيرة بالاجتماع معاً ومناقشة إيجاد الحلول للمشكلات وابتكار سبل للفرص الناشئة.
المكان الملائم صحياً وإضاءته
يؤدِّي حُسن تصميم مساحة العمل التي تشمل عناصر مثل الألوان وجودة الهواء وبيئة العمل إلى تعزيز الشعور بالراحة عند العامل. ويجب أن يكون لدى فرق العمل الحق في اختيار بيئات صحية، مع ازدياد الأهمية المعلَّقة على أسلوب العمل الصحي. فجودة الهواء ذات أهمية قصوى. إذ يتسبَّب الارتفاع في ثاني أكسيد الكربون والغازات الضارة الأخرى في فقدان التركيز وانخفاض الإنتاجية على المدى القصير، وعواقب صحية خطيرة على المدى الطويل. فالموظف الذي يتمتع بصحة جيدة ويقظة هو أحد أصول الشركة الناجحة، والأمر معروف منذ زمن طويل. ولكن تطبيقه على أرض الواقع هو ما يشهد تطوراً اليوم. فقد جرى تصميم أنظمة مكاتب حديثة تسمح للموظف بالوقوف والعمل إن شاء ذلك، وهو بديل أفضل بكثير من الجلوس طوال اليوم.
والإضاءة التي تحاكي ضوء الشمس وتتكيف مع تغير الوقت والظروف الجوية المحيطة، تسمح بالحفاظ على الإيقاعات الحيوية. كما أن أنظمة التبريد والإضاءة في المباني تتفاعل أيضاً مع البيئة الخارجية بالإضافة إلى تفضيلات المستخدم، لخلق ظروف راحة داخلية تناسب أكثر من غيرها التفضيلات الفردية. كما تقوم حلول المباني الذكية بـ “التعرف” على الأشخاص، مما يتيح لهم سهولة التنقل السلس بين أقسام المبنى من دون عرقلة.
كما أن دورات إضاءة متنوِّعة لأوقاتٍ مختلفة في المكتب، تساعد العاملين في الحفاظ على إيقاعات الساعة البيولوجية الصحية. ويمكن برمجة الأضواء لتعتيم أو تغيير اللون والضوء تلقائياً. كما يمكن أيضاً تعديل ظلال النوافذ تلقائياً للسماح بدخول قدر أكبر أو أقل من الضوء الطبيعي إلى بيئة المكتب طوال اليوم ولمواسم مختلفة.
تداخل بين المكتب والمنزل
أمضى معظم الموظفين حول العالم أشهراً حتى الآن في العمل من منازلهم. وقد تمتد هذه الأشهر من التباعد الاجتماعي إلى أكثر من ذلك، وسوف يعتاد هؤلاء على نمط عمل مختلف خلال هذه الفترة الطويلة. وعند عودتهم إلى أماكن العمل يجب ألاَّ يشعروا بكثير من الغربة عن المنزل. وسيعزِّز هذا العامل اتجاهاً تصميمياً ظهر منذ فترة غير بعيدة في أماكن العمل، ويمكن أن يساعد على الشعور بالارتياح إلى المكتب؛ كوضع بعض مقاعد الصالات (الكنب) في أرجاء المكاتب، وأداء جزء من الوقت في العمل عليها. كما يمكن لسجادة ملوّنة ذات تصميم فني على أرضية المكتب أن تعطي شعوراً بالدفء والحميمية المنزلية، يبدِّد الرتابة التي تتولد عن فرش الأرضية كلها بموكيت من لون باهت واحد.
اترك تعليقاً