قراءة حول الموت في الأدب الشعبي للأطفال
(الحدوتة أنموذجاً)
قرأت في مجلتنا الموقَّرة (القافلة العدد “2” مجلد “67” مارس/أبريل 2018م) مقالاً بعنوان “الموت في أدب الأطفال” للدكتورة فاطمة اللواتي، تناولت فيه ثلاثة نماذج من القصص المؤلفة هي: “الخفي” لأمل فرح، و”أنا وماه” لابتهاج الحارثي، و”أشتاق.. أشتاق” لناهد الشوا. وأشارت الكاتبة في أكثر من موضع إلى وجود نقص كبير في قصص الأطفال التي تعالج مسألة الموت قياساً إلى أدب الأطفال في الغرب.
أعجبني المقال، وأتفق مع ما ذهبت إليه الكاتبة من حيث النقص الكبير في أدب الأطفال المكتوب الذي يتناول ظاهرة الموت. واستكمالاً لما أوردته الكاتبة، أود أن أضيف قراءة حول “فكرة الموت في الأدب الشعبي للأطفال / الحدوتة أنموذجاً”.
فقد تناولتُ فكرة الموت في حكايات الجدَّات الشعبية للأطفال، لما تحظى به الحكاية الشعبية من انتشار واسع في العالم العربي والغربي على حد سواء، ولما يميزها من عالمية وشعبية ومجهولية المؤلِّف، وارتباطها بالوجدان، واتفاق الذات الجمعي حول ذيوعها وانتشارها وتأثيرها التربوي في مرحلة الطفولة، ولا سيما في ما يتعلـق بفكرتها الرئيسـة وهو ما نركِّز عليه هنا استكمالاً لما ورد في مقال الدكتورة اللواتي.
فنحن نلاحظ مثلاً في حكايتين شعبيتين هما: حكاية “ست الحُسن والجمال”، وحكاية (حدوتة) “الشاطر حسن” وأخته “تمنطر”، أن الموت /الفقد /الرحيل قد ورد واضحاً بقوة وبشكل مباشر في بداية السرد واستهلال الحكاية. فهو يقودك مباشرة إلى معمعة الأحداث بعد تأكيد الرحيل والفقد: في الأولى موت ورحيل الأم، وفي الثانية موت ورحيل الأبوين معاً، ولتبنى بقية الأحداث على هذه الفكرة (الموت) وكيف يتصرَّف الآخرون حياله، لا سيما إذا كان الموت هنا هو موت العزيز الغالي وأقرب المقرَّبين للأطفال، وهما الأم أو الأب أو كلاهما معاً.
ويعود الموت ليظهر مرة أخرى داخل الحدوتة، أو في منتصفها تقريباً ليجدّد فكرة الموت والفقد مرة أخرى، ولو كان لحيوان مثل بقرة ست الحُسن. لكنه حيوان يلعب دوراً كبيراً داخل السرد. فهذه البقرة ليست مجرد حيوان وإنما هي أداة مساعدة تَنضجُ الأحداث بها، حتى بعد موتها حين تترك وصية نافعة، فورود ذلك في قالب خيالي فانتازي هو من سمات الحكاية الشعبية نفسها.
أما الموت في منتصف حدوتة الشاطر حسن فيأتي انعكاساً لصورة الشر، حيث تريد زوجة الشاطر حسن التخلص من شقيقته، وتتأكد من أنها قُتلت. ولكن الشقيق يترك شقيقته ويرحل، ويذبح غزالة. وتستمر الأحداث والتصعيد الدرامي داخل الحدوتة الطويلة، لنرى كيف تنقذها الأقدار، وتتعقَّد الأحداث لتنفرج عن انتصار الخير في النهاية على الشر. فبعد فرقة الأخوين بالحيلة والخداع، يسهّل القدر أمور الاجتماع وتبرئة ساحة تمنطر من التهمة التي ألصقتها بها زوجة أخيها، وتتزوج تمنطر من حاكم المدينة البعيدة الذي يبحث من أجلها عن الشاطر حسن حتى يجده، وتتكشف الأسرار ويترك الشاطر حسن زوجته، ويعيش الجميع معاً في محبة وسلام ووئام.
هكذا يكون الختام مثل حدوتة ست الحُسن والجمال بانتصار الخير دوماً على الشر.
وهنا نلحظ بعض الاستلهام الشعبي من قصة يوسف -عليه السلام- وأخوته الشهيرة، منذ عقد النية على التخلص منه بقتله وانتهاءً بإلقائه في الجُب. ففي الحدوتة يترك حسن أخته في الصحراء لتلقى مصيرها على يد الذئاب والضباع، لكن عناية الله تنقذها على يد أحد المارة مثل يوسف أيضاً. وهنا نجد أن الموت في الحالة الثانية لم يكن حتمياً، حيث لا يشاء الله، فيحوِّله عز وجل من موت محتمل إلى حياة سعيدة، فها هو الرجل الذي ينقذ تمنطر يكون هو نفسه حاكم المدينة وأميرها فيتزوجها، كما اعتلى يوسف خزائن مصر.
د. أميمة جادو
باعترافــه شخصياً
الرحلة الحجازية هي الأهم في حياة طه حسين
في عدد يناير/ فبراير 2019م، طالعت إهداء عميد الأدب العربي طه حسين إلى أهالي المنطقة الشرقية الذي خص به القافلة ونشرته في عددها السادس (أبريل 1955م).
والحقيقـة أن طه حسين قام برحـلات عديدة وزيارات خارجية كثيرة. وكانت رحلته الأهم والأشهر وذات التأثير العميق في تطوره الفكري إلى الحجاز عام 1955م.
ففي جمادى الأولى 1374هـ يناير1955م قام طه حسين برحلته الحجازية، حيث كان يهفو إلى زيارة الأراضي المقدسة. وقد جاءته الفرصة حينما صار رئيساً للجنة الثقافية في جامعة الدول العربية، بل إنه لم يكن ليقبل اختياره لهذا المنصب لولا أنه علم أن دورة هذه اللجنة ستعقد في المملكة العربية السعودية. وقد عبَّر عن ذلك في حفل افتتاح دورة اللجنة الثقافية التاسعة التي عقدت في جدة. وحينما تهيأ طه حسين للقيام بالعمرة، عُهد إلى الشيخ عبدالله المنيعي مدير إدارة الثقافة بوزارة المعارف السعودية ليرافقه في رحلته الروحية لأداء العمرة.
كانت الرحلة الحجازية لطه حسين على النحو التالي:
• وصل طه حسين إلى جدة وألقى بها خطابه التاريخي في الدورة التاسعة للمؤتمر الثقافي لجامعة الدول العربية.
• وفي جدة احتفل الأساتذة المصريون العاملون في المملكة بطه حسين، وتباروا في الترحيب به -شعراً ونثراً- وكان الشيخ محمد متولي الشعراوي أحد الذين حيّوا طه حسين بقصيدة عصماء.
• أحرم طه حسين في جدة وركب السيارة قاصداً مكة لأداء العمرة. ودخل الحرم من باب السلام. وتوجَّه إلى الكعبة، فتسلَّم الحجر وقبَّله، واستمر يطوف في خشوع ضارع وبكاء خفي حتى أتم عمرته، وقد أخذ منه الإرهاق النفسي أكثر من البدني كل مأخذ.
• وبعد أداء العمرة طلب طه حسين ترتيب السفر إلى المدينة. ولكن الطريق البري كان مغلقاً بسبب السيول التي حدثت في ذلك العام، وطه حسين لا يركب الطائرات أبداً! لكنه صمم على السفر إلى المدينة وإن بالطائرة. ووصل إلى المدينة على متن طائرة خاصة مع الوفد المرافق له يوم الأربعاء 2 جمادى الآخرة 1374هـ 26 يناير 1955م.
بعد العودة من الرحلة الحجازية، أجرى الشاعر والكاتب كامل الشناوي مع طه حسين حديثاً نشرته مجلة آخر ساعة في 16 فبراير سنة 1955م. وسأله كامل الشناوي: علمت أنكم سافرتم إلى المدينة المنورة في طائرة صغيرة خطرة، مع أنكم لا تركبون الطائرات أبداً، وسبق أن رفضتم دعوات مهمة جداً لأمريكا وروسيا والهند لأن تلبيتها كانت تستلزم ركوب الطائرة، ولم تلبُّوا حتى دعوات ابنتكم وصهركم لزيارتهما وهما في أي منصب في السلك الدبلوماسي في أي بلد لهذا السبب؟
فقال الدكتور طه حسين: لم يكن من الممكن أن أتخلَّف عن هذه الزيارة، ولم تكن هناك طريقة أخرى غير الطائرة، كنت أحس أنه لا بد لي من زيارتها، لولا خوف الغرور لقلت إنها كانت دعوة من خارج نفسي. دعوة آمرة.
ويستفهم كامل الشناوي: دعوة آمرة؟
ويقول طه حسين: دعوة آمرة لا بد أن تلبّى. لقد قال لي الأستاذ أمين الخولى: “إن الطريق البرِّي إلى المدينة مقطوع بسبب السيول الغزيرة التي هطلت هذا العام. ألا تؤجل زيارة المدينة هذه المرَّة؟ فقلت له: “لن أغفر لنفسي أبداً. شوقي إلى هذه الزيارة يتزايد منذ أكثر من سنتين”.
وتحدِّثنا سوزان زوجة طه حسين في كتابها (معك) عن أثر هذه الرحلة على طه حسين، فتقول: “وما كان يواسيه شيء لو لم يتمكَّن من رؤية المدينة المنورة، وأعرف كم كان متأثراً عندما يقول لي: حقاً إن الإسلام دين الصفاء والتسامح”.
صلاح الشهاوي
مصر
اترك تعليقاً