الشرفة جارة القمر
إن العمارة منهج حياة، وفن من الفنون الإنسانية، ومساحة الإبداع فيها لا حدود لها، وحين نرى طرزاً معمارية أصيلة تصيبنا الدهشة، تليها شهقة، وبعدها نقول: يا الله ما أجمل هذا المعمار!
هنا لا بد من الوقوف قليلاً مع ملمح معماري جميل اتسم باللطف والحميمية مع الناس، مع المارة، مع الشارع الذي يطل عليه البيت، البيوت التي تُعدُّ أوطاناً صغيرة لأصحابها، هذا الملمح المدهش هو الشرفة. ولعل قراءتي لملف الشرفة في العدد الماضي من مجلة القافلة هو ما حرَّضني على البوح بهذه السطور. فما زالت القافلة الحبيبة تفتح شرفات البوح لدي، وهي التي تلهمني من وقت لآخر قصصاً وحكاياتٍ مرَّت بالبال.. ولم تزل!
الشرفة هي العُزلة المحبَّبة للبيت، أو ربما تكون بمثابة غرفة معلقة في الهواء، هي جارة القمر، وصديقة الشمس.
لطالما ارتبطت بذاكرتي شرفة جدِّي بفلسطين. كانت شرفة حانية تسكن بها شجرة ياسمين تظلل زوايا الشرفة برائحتها الخلابة وبياسمينات الصباح التي تسقط مع النسيم كأنها تتمشى بفرح. وكان يتصل بالشرفة درج يقود إلى حديقة البيت. هذا المشهد أذكره الآن كأنه حُلم، كما أذكر غرفة أمي التي كانت تحضن شرفة عالية تطل على شجرة زيتون مضيئة. وفي بيتنا هنا تطل على شرفة أبي نخلة حانية، ربما هناك علاقة بين الشجر والشرفات أيضاً تمنيت لو ذكرت هذه المقاربات في ملف الشرفة.
وأيضاً، من أشهر الشرفات شرفة لوركا، فقد كتب الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا قصيدة وكأنها وصية له بعد مماته، وكأنه كان على علم بحتفه القريب ليسجل وصيته بقصيدة تحت عنوان اتركوا الشرفة مفتوحة يقول فيها:
عندما أموت
اتركوا الشرفة مفتوحة
الفتى الصغير يأكل البرتقال
(أستطيع رؤيته عبر شرفتي)
المزارع يحصدُ القمح
(أستطيع سماعه عبر شرفتي)
عندما أموت
اتركوا الشرفة مفتوحة!
وقد قادت شرفة لوركا المخرج الفرنسي ريمون هوغ إلى تقديم عمل مسرحي بعنوان “إذا متّ فاتركوا الشرفة مفتوحة”، جمع بها بعض نصوص لوركا الشعرية، ونصوصاً لكتَّاب آخرين وهم غوته، وهنريك هاين.
وليس ببعيد عن إلهام الشرفات فهناك سلسلة روايات “شرفات” للكاتب إبراهيم نصر الله التي تضم خمس روايات وهي: رواية “شرفة الهذيان”، ورواية “شرفة رجل الثلج”، ورواية “شرفة العار”، ورواية “شرفة الهاوية”، ورواية “شرفة الفردوس”.
الشرفة المكان الأكثر ألفة لتجمع أهل البيت مع جيرانهم أو أصدقائهم ليلاً. وفي بعض البلدان العربية والأوروبية كانت الشرفة نهاراً لنشر الثياب بحبال ممتدة من يمينها إلى شمالها، أو بتدلي سجادة ثمينة لنفض الغبار عنها، أو استخدامها بيتاً للمونة في بعض الدول العربية.
أي إن الشرفات كانت وما زالت بيتَ أسرارِ ساكنيها، وصندوقاً أسود لجرائم خدشت كينونتها!
كما كانت الشرفة ولم تزل مطلاً على مواكب الحكام في بعض الدول، أو شاهدة على مواكب الفرح كموكبٍ للزفاف تارة، وللحزن كموكبٍ لجنازة تارة أخرى، أو ربما لرفع علمٍ في المناسبات الوطنية.
والشرفات نوافذ القلب والروح، فقد كانت ملاذاً لفنانين كثر رسموا شرفاتهم، وتخيلوا شرفات أخر، كما كانت صومعة لشعراء كتبوا أشعارهم في زواياها، وبيتاً لأفكارهم مثل الشاعر سعدي يوسف الذي ضمّن ديوانه “شرفة المنزل الفقير” 34 قصيدة، وقصائد أخرى مرتبطة بالشرفة مثل قصيدة “شرفة هاملت”، وقصيدة “شرفة فؤاد الطائي”، وقصيدته “الشاي في الشرفة”.
لقد كانت الشرفات المتنفس الأول لسكان العالم في زمن الكورونا، وتحديداً في وقت الحظر منعاً لتفشي المرض، إذ تحوَّلت أغلب الشرفات إلى مسارح تحتضن عازفي الموسيقى في بعض البلدان العربية والأوروبية. كما أطلقت بعض المتاحف العالمية مبادرة “الفن من الشرفة”، حيث تكون الشرفة مسرحاً للغناء، ومكاناً يألفه الناس بكل بساطة وجمال، كي يتعايشوا مع الحظر، ويخفِّفوا عن أنفسهم عبر الموسيقى، وقد نجحت المبادرة وكانت متنفساً للكثير.
من جانب آخر كانت الشرفة حديث الجيران، وضيافة لتبادل صحون الحلوى والقهوة لمن كانت شرفاتهم لصيقة بعضها ببعض، وكي لا نذهب بعيداً فقد كانت منبراً جميلاً لغناء النشيد الوطني عبر صوت واحد يردد “سارعي للمجد والعلياء مجدي لخالق السماء” من شرفات أبناء هذا الوطن الجميل.
لقد كان جُل ما كتبته هنا بوحاً شفيفاً حرضتني على كتابته شرفة القافلة.
دينا أديب الشهوان
من حفرة النسّاج إلى
فكرة المنسوج
في العام 2014م، كنت أعمل على كتاب “تمر البحر، من سيرة القرية في البحرين” ضمن مشروع “ذاكرة البحرين البصرية” مع المصوِّر القدير عبدالله الخان. ولأنّ كلّ مشروع يجمع أرشيفه ومدوناته عن موضوعه ويراكمها حتى لحظة الانتهاء منه، فقد لاحظت أن مهن تسع قرى – من أصل ثلاث وسبعين قرية شملهما الكتاب بالصورة والكتابة – قد خرجت عن المألوف والسائد آنذاك مثل الفلاحة وصيد السمك والغوص لجمع اللؤلؤ، إلى تلك المهن التي تحتاج إلى إمعان فكر وملاحظة واهتمام للشكل الذي ستظهر عليه، وللوظيفة التي ستقوم بها، ويعتمد عليها. وأقصد بها: “صناعة النسيج”، و”نسج الأردية”، و”الخياطة”، و”نسج وخياطة الأشرعة” وأخيراً “صناعة القيطان”، وهو مجموعة من خيوط الحرير تثبت في ذيل نوع من سراويل النساء وللشكل الذي تظهر عليه تعريف بالشخص وبمكانته ومشيته!
تسع قرى بحرينية كانت قديماً تعمل في صناعة النسيج: أبو صيبع، وباربار، والبلاد القديم، وبني جمرة، والجسرة، ودار كليب، وشهركان، والقرية، والمرخ، ولم تكن محصورة في قرية واحدة كما هو الحال اليوم، هي بني جمرة، ومقصورة على ثلاثة أشخاص منهكين، ولا يبدو أنّ أحداً سيأتي بعدهم؛ لعظم الجهد المبذول فيها، وصغر العائد المادي، وغياب الدعم المستمر. فقد توقَّفت صناعة النسيج في ثمانٍ من تلك القرى وغادرتها إلى غير رجعة. والخوف أن يأتي اليوم الذي تتلاشى فيه من هذه القرية أيضاً، وأن يتوقّف الثلاثة عن العمل وينتهي كلّ شيء!
النسَّاجون الثلاثة، الذين التقيناهم في العام 2006م في قرية بني جمرة، التفتوا إلى محنة تلاشي صناعة النسيج بأنواعه في البحرين، وأنّه لم يبق من 130 مكاناً يسمونه “بارقة” لصناعة النسيج غير مكانين فقط. واحد يعمل في ورشة في بيته، والثاني في صندقة في وسطها آلة النول، وقد غاص النسّاج في حفرة في الأرض حتى وسطه ليستوي جبينه أعلى “السدا”.
في العام 2004م تحدثت وزارة الإعلام عن مشروع “بيت النسيج” في قرية بني جمرة من أجل تطوير هذه الصناعة. وفي ديسمبر 2020م، افتتحت هيئة البحرين للثقافة والآثار مصنع النسيج على أرض أخرى مكاناً للنسيج في القرية، ويتسع لأربعة نساجين.
مقومات إنقاذ صناعة النسيج
إن مشروع الحفاظ على صناعة النسيج، مهنةً وتراثاً، يبدأ أولاً بتأثيث مكان مناسب له، يتجاوز بها حفرة النسّاج إلى فكرة الحفاظ على كل مكوّنات هذه المهنة.
وثانياً، بالأخذ جدياً بالفكرة التي طرحتها ليلى الحمد في مطلع موضوعها الرائع والمهم “السدو، أسلوب تفكير، وهندسة، وعمارة” المنشور في عدد مارس/ أبريل من القافلة، تأتي ثانياً، وهي “وبالنظر إلى أن نمط العيش البدوي قد صار الآن من بقايا الماضي، وأن عدد نسّاجي السدو الناشطين قد تضاءل بسرعة، فإن تسجيل السدو هو أمر حيوي للالتفات إلى أهمية هذه الحِرفة وحماية مكانتها ضمن التراث”. ولأن السدو والنسيج في كلّ من المملكة العربية السعودية، والكويت، والبحرين، يجمعهما الخيط، والتاريخ، والأهميّة، ومحنة البقاء، فإنّ فكرة تسجيلهما على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي أمرّ سوف يساعد في فكرة الحفاظ عليهما.
والأمر الثالث هو التدريب على صناعة النسيج وفق خطّة على الأرض، مكفولة من قبل الجهات الرسميّة ومسندة باحتياجاتها، تغري الشباب على الدخول في دورات تدريبية على هذه الصناعة بهمّة ممن بقي من صنّاع النسيج. وقد لاحظنا في العام 2006م، أن واحداً منهم قد فعل ذلك بمبادرة منه، وراح يدرِّب مجموعة من تلاميذ وزارة التربية والتعليم، وعرض منتجهم في قاعة عرض. يومها تمَّت الموافقة على تدريب مؤقت في مدرستين: الدراز الإعدادية للبنين، والسنابس الإعدادية للبنات. لكن ذلك لم ينجح؛ لغياب الدعم، واعتماده على النسّاج نفسه، الذي قضى عاماً دراسياً ونصف العام بلا دعم، ولو كان صغيراً، كما حال غياب الإعداد الأكاديمي للنسّاج عن تعينيه معلماً للنسيج!
والأمر الرابع هو إدخال صناعة النسيج ضمن مناهج التعليم في مقررات الفنون والتراث والعمل اليدوي، بدلاً من التحدّث عن أهمية التراث نظرياً، ووصف هذه المهنة بأنها مهنة من الماضي!
بهذا الشكل، نبدأ خطوات جيدة في الحفاظ على صناعة النسيج، نتجاوز بها حفرة النسّاج بمساعدة النسّاج نفسه إلى فكرة المنسوج.
حسين المحروس
اترك تعليقاً