لغتنا تستحق هذا الدعم
عرضت القافلة في عددها السادس من عام 2020 لشهري نوفمبر/ ديسمبر لورشة عمل بعنوان “اللغة العربية رقمياً.. تجارب معاصرة ورؤى مستقبلية”، شارك فيها من كان له دور كبير في دعم اللغة العربية من خلال البرامج الإلكترونية، كمؤسس ورئيس شركة صخر الأستاذ محمد الشارخ، الذي تحدث عن جهود الشركة في تعزيز المحتوى الرقمي العربي، وكذلك الدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبو ظبي للغة العربية، والأستاذ زياد الدريس المندوب السعودي لدى منظمة اليونيسكو سابقاً وغيرهم.
دعم المملكة للغة العربية
جميع المشاركين في الجلسة هم أصحاب إسهامات مهمة على مستوى اللغة العربية التي توليها المملكة كثيراً من الاهتمام. ولكن التركيز في هذه الرسالة هو على موضوع “إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية”. إذ إن صدور الموافقة السامية على إنشاء المجمع يشكِّل قيمة مضافة مهمة جداً وكبيرة لحماية اللغة العربية والحفاظ عليها عالمياً، وهي اللغة التي ـ حسب تقارير عالمية حديثة ـ تحتل المركز الرابع بين أكثر اللغات انتشاراً في العالم، ويقدَّر عدد المتحدثين بها بأكثر من 470 مليون نسمة من سكان العالم.
وليس غريباً على المملكة تقديم كل الدعم والإمكانات لخدمة اللغة العربية. ففي عام 1973م، وباقتراح من وفدي المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونيسكو، جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والعشرين للعام 1973م، بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في الجمعية العامة والهيئات الفرعية التابعة لها. وأصدرت قرارها رقم 3190 في ديسمبر عام 1973م، بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وتقرر الاحتفاء العالمي باللغة العربية في يوم خاص بها هو 18 ديسمبر من كل عام.
كما كان للسعودية قديماً وحديثاً مبادرات كثيرة في مجال لغتنا العربية الجميلة والحرف العربي والخط وفنونه. فقد أعلنت وزارة الثقافة في المملكة عام 2020م عام الخط العربي لما يمثله الخط في التعبير عن خصوصية وجماليات اللغة العربية، وبسبب الجائحة التي خيمت على فعاليات العام الماضي، قرَّرت الوزارة تمديد عام الخط العربي حتى العام الجاري 2021م. كذلك كانت هناك مبادرة مجتمعية أطلقها شاب سعودي من مدينة جدة، وهي بعنوان “تحدث العربية” وذلك للتشجيع على التحدث باللغة العربية وتفعيلها لدى فئة الشباب وتطوير المهارات اللغوية للمتحدثين بها من خلال الواقعين الاجتماعي والافتراضي.
ولغتنَّا تستحقه..
اللغة العربية التي تتمتع بخصائص ومزايا تفتقر لها لغات عالمية كثيرة، أدهشت الكتّاب والأدباء الغربيين كما الكتّاب والأدباء العرب. فها هو الأديب الألماني الشهير غوته، وقبل قرنين من الزمن، يتحدث عن اللغة العربية قائلاً: “لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية، إنه تناسق غريب في ظل جسد واحد”. وتعلَّم غوته اللغة العربية وتقليد الخط العربي من الكتب الشرقية، واطلع على الملاحم والأشعار العربية كشعر المتنبي، حيث يحتضن منزله في مسقط رأسه منطقة “إننشتات” في فرانكفورت بألمانيا، لوحات له وهو يتمرَّن على كتابة الحروف العربية والخط العربي.
كما تحدث عن اللغة العربية المفكِّر الفرنسي أرنست رينان في القرن التاسع عشر قائلاً: “إنها لغة سلسة وغنية بالمفردات، فضلاً عن دقة معاني مفرداتها ومنطق بنائها اللغوي الجميل”. وحسب الباحث اللغوي الفرنسي في كتابه “أجدادنا العرب”، فإن اللغة العربية تحتل المرتبة الثالثة بين اللغات التي أسهمت في إثراء قاموس اللغة الفرنسية!
ولو جلنا قليلاً على جماليات وخصوصية اللغة العربية لوجدنا أن هذه اللغة تتمتع بالمرونة وبالغنى والثراء بالمفردات والمصطلحات والمرادفات والاشتقاقات اللغوية، وبالقواعد المبنية على أسس سليمة سوية تساعدها على التصرف والاشتقاق والتركيب، وليس الإعراب إلّا الضابط المنطقي والميزان الحساس للغة.. به نميّز بين معاني الكلمة ومراميها أو به تكون الأفكار المتبناة.. وبه تسترسل اللغة بسلاسة وتعبير وجمال، ولكل قاعدة فيها أساس ثابت في تكوينها، ولكل قاعدة أصل بيّن يتجاوب تركيباً مع المعنى المقصود فيكون الوضوح.
كذلك فإن اللغة العربية بحروفها المتصلة هي ميزة كبيرة لها، فهي تعطي انسيابية وتحرُّر لمن يكتب بها في المد والضم وبالاستطالة وبتشكيل عديد من الحالات التي لا تمتلكها باقي الحروف كالحرف اللاتيني. فإحدى أهم جماليات اللغة العربية هي الكتابة بالحروف المتصلة.
هشام عدرة
مركزيــة الهامـــش
نشرت القافلة في عددها الأخير ملفاً عن الهامش في المجتمع الإنساني، أعدَّته الكاتبة ثناء عطوي، حاولت أن تغطي فيه مجالات عدَّة كانت مرتبطة بالهامش. ومع الشكر للمجلة وللكاتبة، أود أن أضيف هنا ما يمكن أن يكون تكملة للموضوع.
بالرجوع إلى الحقب التاريخية، لمعرفة بروز مفهوم الهامش، سنجد أن ارتباطه في المجتمع الإنساني كان في سياق وجود العبد والسيد وظهور العبودية التي أتت بنتائج عكسية على المجتمع والإنسان، بسبب سوء المعاملة والفهم، وكذلك الفرق بين مركزية السلطة السياسية والهامش في دولة ما، وبين مركزية الحضارة والثقافة والفن في مكان، والهامش في مكان آخر. وهذا ما جاء من دون تفصيل في الملف. فمن أوجد هذا المفهوم المقابل في ثنائيته الضدية للمركز؟ وما الدور الذي يقوم به الاثنان (المركز والهامش)، وأي تبئير تجاه الاثنين، مكانياً وظيفياً، أو نظرة الآخر، طالما لا يمكن الاستغناء عن هذا الهامش بأي شكل من الأشكال، وإن اعتبر أقل قيمة من المتن، كما هو إطار الصور واللوحات التشكيلية.
استقواء المركز على الهامش
سعت ثقافة صاحب السلطة والقوى المتعدِّدة في بناء المجتمع الإنساني على هذه المفارقة الضدية التي تُسيّد التباين في الأمكنة والناس والثقافات، بحيث يبقى المركز مركزاً يستقوى في بقائه على الهامش الذي ظل سجين مفهوم ضيق لم تستطع الثقافات القديمة ولا حضاراتها أن تغيِّره حتى وقت قريب. بمعنى آخر، ظل المركز يشحذ قوته من ضعف الهامش، وبقي الهامش يقتات بقاءه على الفتات الذي يرميه المركز على قارعة الطريق، بل أدخل في عقولنا أن الهامش لا يمكنه العيش إذا انفصل عن المركز، إذ إن العلاقة بينهما علاقة طردية، وجدلية في آنٍ واحد، وهنا تكمن المشكلة الثقافية في العالم بأجمعه. ومع مرور الزمن، وتطوُّر المجتمع بدأت تظهر هنا وهناك مطالبات من قِبل بعض المثقفين بالانفصال عن المركز، ونيل الاستقلالية، من دون معرفة المشكلة التي ستقع نتيجة هذا الانفصال، لأن كلما حاول الهامش التخلص من تبعيته للمركز، بحث عن هامش له، وهكذا تستمر العملية الطردية بينهما.
وبمعنى آخر: هل كل حاشية تابعة للمركز تسعى لانتهاز الفرصة والانقضاض على المركز والقضاء عليه؟ أعتقد أن هذا الأمر غير صحيح البتة. فنحن لسنا في عالم الغاب والوحشية، ومحاولة النيل من بعضنا بعضاً. إنما مسألة الهامش والمركز وجدت في الثقافة العالمية كلها تبعاً لسياقات كليهما. فطبقة النبلاء مثلاً لن تتمكَّن من العيش من دون الطبقات الأخرى، والأجناس التي كانت ولا تزال تعتز بنفسها وجنسها لم تستمر في الحياة لولا وجود أجناس أخرى مختلفة، وقس على ذلك في بقية المعارف والحقول والمجالات.
على المستوى العربي
اهتم الملف بذكر عديد من الأمثلة ذات الصبغة الأجنبية، في الوقت نفسه هناك كثير من الأمثلة العربية، وقبل ظهور الإسلام، حيث الرق والعبيد والأسياد، وحيث الجنود في الحرب مقابل القادة، والمشاة في الرحلات والحروب مقابل الممتطين ظهور الدواب والحيوانات. لذلك حينما جاء الإسلام حاول أن يقضي على مفاهيم هذه النزعة الدونية التي تعلي المركز وتقلل من الهامش، إذ أدَّى المسجد آنذاك عدَّة أدوار لكل المسلمين من دون النظر إلى المكانة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية، فبات مكاناً للعبادة والتعليم والسياسة ونظام الدولة والقرارات الحربية.
وفي ما يتعلق بقراءة الواقع العربي وتقصّي حالة المهمشين وأصحاب المركز بعد هزيمة 1967م، فعلى الرغم مما وصلت إليه الدكتورة هويدا صالح من نتائج، تبقى الهزيمة في حد ذاتها انكساراً حقيقياً لكل طبقات المجتمع العربي عامة، فحاول المهمشون المنتمون إلى الشرائح المثقفة تقديم أعمال تكشف زيف الشعارات المنادية بمركزية القومية العربية، أو فيها الرومانسية التي تحاول إخراج الشعب العربي من بوتقة ألم المركز إلى نكات المهمشين الذين كفروا بالأيديولوجيات الصارمة. وهو ما سبق وحدث في التاريخ العربي عند ظهور الصعاليك الذين كانوا يرفضون طبيعة حياة المركز، كما ظهر نتيجة الأساليب الاجتماعية والاقتصادية في الدولة العباسية الشطارون والعيارون الذين هم من فئات المهمشين في المجتمع.
ولكن في عصر العولمة والتكنولوجيا والثروة الاقتصادية المتنوّعة بين النفط والإنسان وغيرهما، لم تعد دول المركز ذات السطوة الكبرى، بل نجد دول الأطراف (دول منطقة الخليج ودول المغرب العربي) قد حظيت بالمكانة العالمية في الاقتصاد والثقافة والترجمة والأدب والتكنولوجيا والعالم الافتراضي وغزو الفضاء. لهذا كله، لا بدّ من إعادة النظر في المفهوم ودلالاته التي لم تعد واقعاً ملموساً ومقبولاً في حياتنا اليوم.
د. فهد حسين
ناقد وكاتب بحريني
اترك تعليقاً