بيوت الذكريات
اجتاحتني ذكريات البيوت المتعاقبة التي سكنتها وأنا أقلِّب صفحات مجلة القافلة لشهر مايو/يوليو 2020م من خلال ملفها المنشور تحت عنوان “البيت بناءً وقيمة”، مشاهد ظننت أنها سقطت سهواً من ذاكرتي، إلا أنها عادت وهي محمَّلة بتفاصيل دقيقة من بيت الطفولة ذي الأبواب الخشبية والنوافذ البيضاء، أشجار الليمون ورائحة الجدَّات، ومشاهد كثيرة متأصلة في أعماق الروح لم تتلاشَ من ذاكرة الطفولة عن تلك الصناديق المرتبة بعناية في بيت لم يَعُد موجوداً، لكنه كان هناك قرب الساحل منذ سنوات، هذا البيت الذي كان عامراً في أيام الغوص، نعود لتلك الذكريات والمشاعر عن تلك البيوت التي سكناها يوماً، فهي الموطن الحقيقي للذاكرة، فهناك كانت بدايات الأحلام ومساحات الفرح ولحظات اكتشاف الذات الإنسانية.
بيت الذاكرة
يشير الفيلسوف باشلار في كتاب (جماليات المكان) إلى أننا حينما نسكن بيتاً جديداً تتوارد لنا ذكريات البيوت التي عشنا فيها سابقاً، فالبيت الذي شهد ولادتنا محفور بشكل مادي في داخلنا، فقد كتب: “هو كوننا الأول في العالم، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى”، هناك بدأنا اكتشاف ما حولنا لنكوِّن مفاهيمنا الخاصة، وكم أتعجب لبقاء كل تلك التفاصيل من ذكريات الطفولة التي تشبه حلم يقظة عابر، أعادتني لها تلك الصفحات من ملحق القافلة، فتجلَّت مشاهد من بيتنا الأول الذي أدركناه في مرحلة الطفولة، نقفز بخفة على درجاته التي نحفظ ارتفاعها بدقة، رائحة قهوة الصباح الباكر بعبق الهيل وتلاوة عطرة من مذياع في زاوية الغرفة مثبَّت على إذاعة القرآن الكريم بصوت محمد صديق المنشاوي، وفي الظهيرة اجتماع أفراد العائلة على وجبة الغداء يعقبها تبخير البيت بالبخور واللبان، كم هي كثيرة التفاصيل التي تربطنا عاطفياً بهذا المكان الذي نسكنه، فنجده يسكننا، وكم أجاد الوصف الشاعر أبو تمام عن ارتباطنا ببيت الطفولة في بيت الشعر الشهير “كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبداً لأول منزل”.
لكلٍّ منا بيت ذاكرة يشبه الحلم التائه بصمت في ظل ما تبقَّى من الماضي، وقد نندهش حينما نعود إلى البيت القديم، بعد تجوال سنين، فإن أدق الإيماءات تعود للحياة، وحين تطرَّق الكاتب في الملحق بشرح وافٍ عن باب البيت الذي يُعدُّ أداة لفصل الخارج عن الداخل، عادت لي ذكريات بيت جدي القديم وباب بيته الضخم الذي يسمَّى باب “أبو خوخة”، وهو أحد الأبواب التي تميَّزت بها العمارة البحرينية، فهو باب كبير في أحد مصراعيه باب صغير يغري تلك الطفلة الصغيرة التي كنتها بالقفز بفرح احتفالي من خلاله لولوج بيت جدِّي الكبير، فيحتفي جدِّي بزيارتي الميمونة ليأخذني إلى مجلسه الواسع فأتأمَّل لوحة تشبهه رسمها الفنان البحريني القدير عبدالله المحرقي، وما زلت أحتفظ بنسخة منها، وأذكر فضولي الشديد نحو تلك الصناديق الغريبة ذات الأواني التي لم أفهم وجودها في المجلس حينها، وعرفت فيما بعد أنها صناديق اللؤلؤ وطاسات متعدِّدة بثقوب مختلفة الأحجام لفرز اللؤلؤ بأحجامه المختلفة.
البيت وتكوين الهوية
أتفق مع مقولة شانينج بولوك، حين كتب: “هذا البيت أفضل الأماكن على كوكب الأرض”، فالبيت يمثِّل كياناً فريداً بتفاصيله الخاصة التي تشبهنا، إنه مفهوم البيت العاطفي الذي يعكس جزءاً من هويتنا وجذورنا وشخصياتنا، فنحن نميل إلى تزيين منازلنا بما يتناسب مع أذواقنا وأطباعنا الشخصية، لأننا نَعُدُّ هذا المحيط جزءاً من تعريفنا لذاتنا وامتداداً لأنفسنا، إنه عالم خاص بكل ما فيه من أثاث وتفاصيل اخترناه بعناية، مثل لوحة معلَّقة وقعنا في غرامها فاقتنيناها، وتذكاراً قد لا يعني لأحدهم شيئاً إلا أنه يحمل لنا كثيراً من الذكريات بقدر ما تعنيه لنا فخصَّصنا له مكاناً في إحدى الزوايا لنبتسم بعمق كلما وقعت عليه أعيننا، فنصبح في حالة من التماهي مع هذا المكان الذي يشبهنا ونتآخى مع جسد البيت، نألف تفاصيله ونميِّز رائحته، وعلى الرغم من خروجنا للعمل والدراسة والسفر وقضاء الليالي في أجمل الفنادق والأماكن إلا أنه دائماً يبقى بانتظارنا، فنصاب بالشوق والحنين حين تطول مدَّة الغياب عنه، وتكون العودة إليه حاجة مُلِحَّة بداخلنا، عودتنا إليه تشبه العودة إلى حضن دافئ حنون يستقبلنا بكل حُب، فهو المكان الذي نشعر بالانتماء إليه والراحة به، وهو المكان الذي يجمعنا بمن نحب من عائلتنا وبحياتنا الحقيقية.
وفي البحوث العلمية والأكاديمية تتم دراسة رسومات الأطفال المتعلِّقة بالبيت لمحاولة فهم طريقة تفكيرهم ونوعية مشاعرهم. فهناك كثير من التفاصيل التي يمكن ملاحظتها حين يرسم الطفل بيته ومن خلالها يمكن استنباط أحاسيسه الخاصة وحالته النفسية، فمثلاً عدد النوافذ قد يشير إلى رغبته بمعرفة الآخرين ما يحدث في الداخل، وإبقاء باب البيت مفتوحاً يشير إلى حياة صحية للطفل، فإن كان الطفل سعيداً فسيرسم بيتاً مريحاً يتوفر فيه الحماية والأمن، وإن كان الطفل تعيساً فإن رسومات الطفل عن هذا البيت ستحمل آثار تلك التعاسة.
البيت واستثمار العُزلة
ومؤخراً مع تبعات جائحة كرونا ومع التوصيات الرسمية بالالتزام بالتباعد الاجتماعي أصبح البقاء في البيت إجراءً احترازياً ضد انتشار المرض، وأعادنا الوباء إلى بيوتنا، حيث المأمن من أي خطر محتمل لنقضي بها وقتاً أكثر من المعتاد، وتداول الناس أفكاراً عملية لاستثمار عزلتنا الاجتماعية داخل المنزل، فلم يعد المنزل مكاناً للاسترخاء بعد يوم عمل شاق بل أصبح مكاناً للعمل والدراسة عن بُعد، واستدعى الوضع إعادة تهيئة لغرف البيت وتخصيص زاوية للعمل وأخرى خاصة لدراسة الأبناء وحضور الصفوف “أونلاين” بشرط توفر اتصال قوي بالإنترنت، لندرك أن هذا المكان هو مَعلم مهم من معالم حياتنا الخاصة، وبعيداً عن التزامات الحياة وزحمة العمل دائماً يكون الوقت مثالياً للعودة للمنازل وتجديد علاقتنا بهذا الحيِّز الخاص.
د. مياسة سلطان السويدي
أكاديمية في جامعة البحرين
عن اللاشيءِ وأضْعَافِه
القافلة سفرٌ بالنسبة لي، رفيقة عمر. فمنذ الطفولة وأنا أسكن صفحاتها وفي زواياها، أسجِّل تفاصيل صغيرة. وحتى بعدما كبرت، ما زالت دهشتي بها كما الطفولة وأكثر.
ما كان يلفت نظري في القافلة هو نوع المعلومات وليس الكم. الفرادة في دهشة القارئ، وهذا ما كان يحدث لي في كل مرَّة أثري معرفتي بصفحاتها.
فاللافت في القافلة أنها تلتقط تفاصيل من حياتنا اليومية نمرُّ بها كل يوم، ولا ندرك قصة وجودها، وهذا ما يفعله ملف القافلة باب الأسرار، ومفتاح الدهشة، كما أحب أن أسمِّيه. فأول ما تصلني القافلة تقع عيناي على موضوع الملف، فأبتسم بدهشة!
وفي ملف الصفر كانت دهشتي بموضوع اللاشيء وأضعافه، السيد البطل الصفر هذه النقطة أو الدائرة التي تهز العالم بيمينها، وتبكيه بيسارها!
ومن عنوان اللاشيء تذكرتُ فوراً، قصيدة “عن اللاشيء” للشاعر الجميل محمود درويش، حيث يقول:
“هو اللا شيءُ يأخذنا إلى لا شيءْ
حدَّقنا إلى اللاشيءِ بحثاً عن معانيهِ..
فجرَّدَنا من اللاشيءِ شيءٌ يشبهُ اللاشيء
فاشتقنا إلى عبثية اللاشيء
فهو أخفُّ من شيءٍ يُشَيِّئُنا”
وإن كان درويش قد فسَّر الصفر باللاشيء ضمن رمزيته الساحرة، فإن صديقه الشاعر سميح القاسم كان أوضح في وصف الصفر بقوله:
دعِ الرقم حراً طليقاً يفيض وينمو علي خانةِ الصِّفْرِ
لا تمتحن دورة الأرض من بادئ البدءِ
من خانة الصفرِ
للكون أرقامه، والمدار
يفضل حسن الجوار
ولربما تمنيت أن تكون أبيات درويش أو القاسم فاتحة لملف الصفر بكامل دهشتها!
الصفر الحاضر في كل مكان
الصفر يدوِّن البدء في حياتنا. فنحن غالباً ما نقول “بدأت من الصفر”، أو “سأبدأ مشروعي من الصفر”.. وهذا كناية عن أن الصفر هو النواة والبداية لأي خطوة أو ميل أو حتى ربما كلمة!
كما كان الصفر وما زال صديقاً للمعماريين. فالمعماري لا يبدأ البناء إلا بهذه النقطة الصغيرة، هي التي ترسم مشروعه، وينطلق منها، وهي التي تحدِّد أبعاد البناء ومساقطه، وارتفاعاته ومناظيره، هي نواة المعمار، وبدء أول حجر يسكن فوق النقطة المرسومة، والمعنونة بصفر!
غير أن الصفر ارتبط أيضاً بدرجة الحرارة تحت الصفر حد التجمد، وقد وصفها العالم مصطفى محمود بقوله: “درجة الصفر المطلق (273 درجة تحت الصقيع) هي الدرجة القصوى التي تتوقف عندها حركة الذرة، وهي في الوقت نفسه أبرد درجة معروفة في فضاء الكون”.
والصفر كان حدثاً وحدساً لدى كثير من أدباء العالم، وهو ما دعا إلى اقتران الصفر بأعمالهم الأدبية، مثل “الكتابة في درجة الصفر” لرولان بارت، أو بيبلوغرافيا “عظماء من تحت الصفر” لمجدي كامل، و”غربة تحت الصفر” لغادة السمان، و”نجران تحت الصفر” ليحيى يخلف!
وكثير من الروايات والقصص عنونت بالصفر كناية عن أهميته، هذا الرقم الصغير الكبير، أو ربما الشيء واللاشيء!
بيد أن الصفر على الرغم من مكنونه ودلالته، إلا أنه كان ملازماً حتى للأدباء والشعراء، فلطالما تغنوا به كناية عن الوله والعشق والعود صفر اليدين، أو عن حال بعضهم وخواء جيوبهم، بوصف الحالة بكلمة واحدة صفر!
فالمتنبي العظيم ذكر بطلنا بقوله:
وابنَ ابنِهِ الباقي عَليَّ بنَ أحْمَدٍ
يَجُودُ بهِ لوْ لم أجُزْ ويدي صِفْرُ
وإنّ سَحاباً جَوْدُهُ مِثْلُ جُودِهِ
سَحابٌ على كلّ السّحابِ له فَخرُ
وأودُّ لو أذكر قليلاً، أو ربما أكثر عن فِلْم الرسوم المتحركة “الأنيميشن” “الصفر” (Zero)، الذي حاز 15 جائزة دولية، منها جائزة أفضل فِلْم متحرك في مهرجان لوس أنجلوس للأفلام القصيرة، وعرض في أكثر من 50 مهرجاناً دولياً كما ترجم إلى 40 لغة. يبيّن الفِلْم قصة الصفر بقالب عميق ومحبَّب في عالَم يحكم الناس فيه على الآخرين بأرقامهم، وكيف نُبذ هذا الصفر أولاً، ثم كيف أصبح محبوباً..
يقول “روبرت كابلان”، أستاذ الرياضيات في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب عن الصفر: “الصفر موجود في العقل، وليس في العالم الحسي”. فحتى في الفضاء، لو رأيت نجوماً، فهذا يعني أنك تتعرَّض لأشعتها الإلكترومغناطيسية. ففي ذلك الفراغ الداكن يوجد دائماً شيء ما، ولربما كان الصفر الحقيقي موجوداً قبل نشأة الكون”.
ختاماً هل علينا أن نشكر الخوارزمي على اكتشافه للجبر وللصفر، تلك الخوارزميات التي علّمت العالم منظومة الحسابات، وبداية القيمة الحقيقة لمغزى الأرقام، ما جعل الصفر بمكنوناته يأخذنا إلى ذرة صغيرة تخرج منها أعظم الاكتشافات والبراءات؟
دينا أديب الشهوان
إعلامية وشاعرة
اترك تعليقاً