مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

أكثر من رسالة

نحو الانعتاق من سلطة النص الفلسفي


د. أمل عبدالرحمن الغامدي

يزخر التاريخ الفلسفي بالعديد من الأفكار التي أدّت دورًا كبيرًا في حضارات مختلفة، والتي كانت تأخذ في كل بزوغ لها إعلانًا عن قداستها وقداسة نقدها، وانقلابًا على كل ما يسبقها من أفكار. وذلك لما كان، ولم يزل، للنص الفلسفي سلطته وسحره على القارئ حتى لو لم يكن مفهومًا، بل قد يكون عدم الفهم هو سبب هذه العلاقة الأزلية مع الفلسفة.

حينما ننظر إلى أفق التاريخ الفلسفي، نجده يبدأ بالسؤال عن المعنى والمغزى من الوجود، وسؤال الهوية الإنسانية في علاقتها بتناقضات الواقع والمثال واللغة. ويذهب أغلب المؤرخين إلى اعتبار الفلسفة اليونانية بدايةً لتاريخ الفلسفة. ولعل النظريات المادية نسبيًا، في تلك التأملات، أعطتها قيمة في التأريخ الوضعي على حساب فلسفات أقدم.

لقد نشأت الفلسفة اليونانية على ساحل المتوسط في المناطق الأيونية والأجزاء السفلى من إيطاليا، حيث كانت الموانئ التجارية فرصة للتبادل المعرفي بين الشعوب. وتجلت أبرز معالم الفلسفة القديمة في أسئلة الوجود والحقيقة وطبيعة النفس والأحكام الأخلاقية، وقد كانت الفلسفة آنذاك غارقة في اللغة الأسطورية والوثنية الدينية. تلا هذه المرحلة العديد من الفلسفات، مثل: الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية والأفلاطونية المحدثة، التي ساهمت لاحقًا في مسار الفكر الفلسفي للحضارة العربية والإسلامية، التي بلغت ذروتها في الأندلس مع ابن رشد، فعبرت إلى فلسفات القرون الوسطى وصولًا إلى فلسفات عصر النهضة. ثم ظهرت فلسفة التنوير التي برز فيها الفكر الفرنسي، تلته الفلسفة النقدية الألمانية التي انطلقت من لحظة التاريخ القومي للألمان.

استمر هذا السياق الفلسفي في خط تقدمي، حتى ظهرت فلسفات القرن التاسع عشر، التي برز فيها نيتشه (1844م ـــ 1900م) على مستوى الذروة النقدية للعقلانية الغربية. عندئذٍ توقفت النظرية التقدمية مع نيتشه، الذي أعلن عن موت السياق الفلسفي الغربي بجميع مكتسباته، ولا سيما أن قراءاته تركزت في نقد العقلانية عند اليونان وفق ثنائية الأبولونية والديونيزية. ثم أعلن بعدها عن موت التراجيديا، وبداية المأساة بفقدان الإنسان لجانبه اللاعقلاني مع السقراطية، وهو ما أدى إلى صبّ جام غضبه عليها باعتبار سقراط جذرًا للعقلانية الغربية؛ إذ يُعد سقراط من مقدسات الفكر التنويري. ومن تهكمه على سقراط أنه رأى في جدله شكلًا من أشكال الانتقام؛ لأن الجدل هو سلاحه الوحيد، ولأنه من طبقة العبيد. كما أن الفلسفة اليونانية عنده، منطلقة من دوافع مرضية؛ لأن المنطقيين، بحسب تعبيره، هم “فاقدو الإرادة وحيلتهم التفلسف”.

لقد تلا الإعلان عن موت التراجيديا، سلسلة من الإعلانات عند مفكري الغرب، مثل: موت المؤلف عند رولان بارت، وموت الإنسان عند ميشال فوكو، ونهاية التاريخ لفوكوياما، وأدبيات المابعديات التي تنطلق من نقد العقل النقدي، ونقد المركزية الأوروبية، وأدبيات ما بعد الكولونية؛ وبذلك تكون النيتشوية علامة فارقة في السياق الفلسفي الغربي.

ومع كل هذا التحول، فإنه كثيرًا ما تكون القراءة الفلسفية سطحية خاضعة لسلطة النص الفلسفي، الذي لا يملك فيه القارئ إلا محدودية النظرية أو المقولة، بعيدًا عن مساءلة النموذج، ما يخلُق تقليدًا فلسفيًا بعيدًا كل البعد عن الإبداع والواقع.

إن ما يفتح أفق القراءة الفلسفية الإبداعية والقادرة على الفهم واستثمار مكتسبات الفكر الإنساني، هو أن يكون للقارئ أفق أبعد من النصوص الفلسفية من خلال النماذج الإرشادية “براديغم”، وهو المصطلح الذي استخدمه توماس كون في كتابه: “بنية الثورات العلمية”، موظِفًا إياه في دراسة النظريات العلمية في العلوم الطبيعية، فيما يمكننا استخدامه مع الفلسفة باعتبارها “براديغمات فلسفية”.

وبطبيعتها تتكون النماذج على شكل متوالية متدفقة وفق أسئلة السياق الثقافي، ولا يمكن استمرار النموذج، على الإطلاق، من دون تغيير؛ لأن غاية الفلسفة هي استحضار تناقضات السياق بين الفكر والواقع عبر أسئلة الهوية. الفلسفات ليست مقولات شاردة، بل سياق يبدأ بمساءلة نموذج قديم عن إشكاليات واقعية، ثم يظهر من إجابات السؤال تراث من النصوص الأدبية، ثم المناهج التي تحدد أبعاد النموذج، وبعدها تتحول إلى نموذج عمل (براكسيس)، تظهر بعده الانغلاقات والإشكاليات؛ لتتولد مدرسة تجديدية في مقابل المدرسة التقليدية، تطرح حلولًا لا يقبلها النموذج القديم، فتبدأ إرهاصات النموذج الجديد، فتعود دورة انبثاق النماذج الفلسفية، وبناء نموذج ينتهي بالانغلاق مرة أخرى، ثم تفتحه أسئلة جديدة وجيل وواقع جديد. وهذا ما يضمن الاستمرارية في تجدد الفكر الإنساني. ومن هذا المنطلق، فإن فهم طبيعة النماذج الفلسفية يمكن من تجاوز سلطة النص الفلسفي، مما يجعل من القراءة الفلسفية حوارًا إبداعيًا بين الذات والآخر، وحوارًا منتجًا قادرًا على تجاوز المقولات والمناهج من خلال فهم “البراديغمات” الفلسفية في أبعادها الوجودية والمعرفية والقيمية. وعلى ذلك، فإن اللحظة الحقيقية لولادة نموذج فلسفي، هي الـ “هنا والآن”، بحيث يكون الآخر حوارًا، لا أن تكون الذات ظلًا له.

وفي سياق هذا الفكر الفلسفي، تحدث عبدالسلام بن عبدالعالي في زاوية “رأي ثقافي” من باب “أدب وفنون” ضمن عدد نوفمبر-ديسمبر 2023 (701) من مجلة القافلة؛ إذ كتب حول الانتعاشة التي عرفتها الفلسفة في المملكة العربية السعودية بعد أن كانت مهمشة ومهملة شأنها عند كثير من أقطار العالم العربي. وإنها، أي الفلسفة، لم تكن تُدرس إلا في التعليم العالي وفي نطاق ضيق ومحدود. وتحدث عبدالعالي عن مكانة ووضع الفلسفة حاليًا في المملكة من خلال ثلاثة أدلة أو إثباتات على حضور الفلسفة في المنابر السعودية، وقد عيّن الكاتب تلك الشواهد بأن لفظة “فلسفة” لم تعد في حاجة إلى تستر، بالإضافة إلى أن انفتاح المملكة على الفلسفة من خلال تنظيم مؤتمرات فلسفية اتخذت طابعًا دوليًا فيما تطرح من قضايا فكرية وأخلاقية تضاهي مثيلاتها في باقي أنحاء العالم. أمَّا الأمارة الثالثة، فتتمثل في ترجمة كتب الفلسفة الغربية ونقلها إلى لغة الضاد عبر مؤسسات ثقافية سعودية. وإن الدليل الأهم، هو الحديث المتزايد حول الرغبة الجادة في إدراج الفلسفة في كتب التعليم، من منظور أنه ينبغي لنا تأصيل الفكر النقدي عبر مراحل نمو التلميذ وتفتح آفاقه.

وهنا، فإني متفائلة من بدايات منتدى الرياض الدولي للفلسفة، بأنها ستسفر عن الفلسفة السعودية التي ستكون منعطفًا فلسفيًا جديدًا ينطلق من “هنا والآن” بما تملكه نهضة المملكة من رؤية وتاريخ وثقافة، ومع ما تواجهه من تحديات جديدة محمولة في أكف الإبداع المتجه نحو المستقبل بمنعطف فلسفي يعيد تأويل العالم.


مقالات ذات صلة

تُتاح نسخة البي دي إف (PDF) من العدد 703 (مارس-أبريل 2024م) على موقع القافلة خلال بضعة أيام بعد إطلاق العدد على الموقع الإلكتروني.

في إطار واقعنا اليومي المعاش، هل يمكن أن نجد غربالًا نحجب به حقيقة تنامي النزعة الفردية، بمختلف أشكالها التي ننحاز إليها أو نخشى منها؟!

استطلاع آراء عدد من قرائنا، ومعرفة الفلسفة العميقة وراء دوافعنا في توثيق اللحظات، ومحاولاتنا للاحتفاظ بالزمن.


0 تعليقات على “نحو الانعتاق من سلطة النص الفلسفي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *