يمتد ميدان البحث عن حضور الهجرة في الشعر العربي من الشعر المعاصر، الذي يتضمن مئات القصائد التي تتحدث عن الهجرة والنزوح، وبشكل خاص عند الشعراء الفلسطينيين، وعودة إلى الوراء حتى الأبيات الأولى من الشعر الجاهلي. أوليس الوقوف على الأطلال وليد هجرة لم تترك أمام الشاعر غير ديار غادرها أهلها وآلت إلى الخراب؟ ولضيق المجال، سنتوقف هنا أمام ما اصطلح على تسميته “أدب المهجر” أو “شعر المهجر”، لا لأن اسمه يحاكي عنوان هذا الملف، بل لأنه خير تعبير عن التلاقح الثقافي الإيجابي الذي يمكن أن يتولّد عن الهجرة.
عندما يدور الحديث عن شعراء المهجر أو أدب المهجر، تتجه الأنظار نحو “الرابطة القلمية” و “العُصبة الأندلسية”، اللتين ضمتا عددًا كبيرًا من أبرز الأدباء والشعراء العرب في القرن العشرين.
فمن بين جموع المهاجرين الذين غادروا بلاد الشام، وخاصة لبنان، في أواخر القرن التاسع عشر، كان هناك عدد من الأدباء الذين نالوا قسطًا وافيًا من التعليم في وطنهم الأم، أو تابعوا دراساتهم في المهاجر والتفوا على بعضهم؛ ليشكلوا مجموعات قادت نهضة شعرية وأدبية قد تكون الأكبر بعد زمن الشعر الأندلسي، وهي بلا شك الأكبر من دون منافس قريب في العصر الحديث.
التفاصيل معروفة، فقد تأسست “الرابطة القلمية” في نيويورك عام 1920م، وضمَّت جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة ورشيد أيوب، وغيرهم. وتأسست “العُصبة الأندلسية” في ساو باولو بالبرازيل عام 1933م، برئاسة ميشال معلوف، وضمَّت رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وإلياس فرحات وفوزي المعلوف وغيرهم. وعلى مدى نصف قرن تقريبًا أنتج هؤلاء أدبًا وشعرًا عربيًا اتسم بموضوعات وخصائص جديدة، وذلك بفعل الاطلاع على الأدب الغربي المعاصر، وتأثرهم به إلى الحد اللازم للتطوير من دون التضحية بأصالة الانتماء المتجذّر فيهم.
خصائص شعرهم
ثمة دراسات كثيرة على شبكة الإنترنت تستعرض خصائص شعر المهجر، وتتوسع في ضرب الأمثلة. ومن أهم هذه الخصائص التحرر من قيود العروض التقليدية، فنظم هؤلاء شعر التفعيلة، والشعر النثري، وكثيرًا من الأناشيد وكلمات الأغاني القومية والعاطفية، إضافة إلى الشعر الموزون المُقفَّى.
وتعزّز هذا التحرر من التقاليد الصارمة باستخدام لغة فصحى، لأنهم كانوا يعدُّون أنفسهم مؤتمنين عليها، ولكنها بقيت سهلة على فهم العامة؛ وهو ما مكّن شعرهم من الرواج على أوسع نطاق في البلدان العربية كافة.
وإضافة إلى الإكثار من استخدام الرموز، حتى غدت الرمزية صفة طاغية عند بعضهم مثل جبران خليل جبران، تميّز شعراء المهجر بالحرص الشديد على وحدة القصيدة، وحصرها ضمن موضوع واحد. ثم إن دواوينهم اتسمت أيضًا بوحدة الموضوع، كما هو حال “الزمازم” و “الأعاصير” عند رشيد الخوري في “العُصبة الأندلسية”.
ولعلَّ خير من عبّر عن آراء “الرابطة القلمية” في الشعر، هو الأديب ميخائيل نعيمة في كتابه “الغربال”؛ إذ كتب في مقدمة دستور الرابطة: “ليس كلّ ما سُطر بمداد على قرطاس أدبًا، ولا كلّ من حرّر مقالًا أو نظم قصيدة موزونة بالأديب. فالأديب الذي نعتبره هو الأديب الذي يُستمدّ غذاؤه من تُربة الحياة ونورها وهوائها… والأديب الذي نُكرمه هو الأديب الذي خُصّ بِرقّة الحسّ ودقّة الفكر وبُعد النّظر في تموّجات الحياة وتقلّباتها، وبمقدرة البيان عمّا تُحدثه الحياة في نفسه من التأثير”.
.. وموضوعاته
في الحنين إلى الوطن، لم تختلف عواطف شعراء المهجر عن تلك التي هي عند أي مهاجر. فرؤية الثلج في مدينة نيويورك ذات صباح، قد دفعت رشيد أيوب إلى نظم قصيدته الشهيرة:
يا ثلج قد هيّجت أشجــاني ذكّـرتني أهلي بلُبــنانِ بالله عنـي قُــل لإخـــوانـي ما زال يرعى حُرمة العهدِ
ولكن عندما نضيف إلى الحنين التقليدي العواطف الوطنية التي كانت متأججة بفعل مقاومة الاستعمار في بلاد الشام، يمكننا أن نتخيل التلوّن الكبير في أشكال التعبير عن هذا الحنين، الذي يتراوح ما بين الخطاب الوطني والانكسار النفسي العميق. فعند الطرف الأول نجد الشاعر القروي يقول في “تحية للأندلس”:
فإذا بيروت أم النــور ولّى عن سمــاها أثقل الرايــات ظلّا وإذا لبنــان بالأمـــر استـــقلَّا فلبسـنا العـزّ أو متنـــا كرامـا عند هذا سوف نهديك السلامَا
وعند الطرف الآخر، نسمع نسيب عريضة يتمنى العودة إلى مسقط رأسه في حِمص ولو في كفن:
يا دهر قد طال البعاد عن الوطنْ هل عودة تُرجى وقد فـات الظعن عُد بي إلى حمص ولو حشو الكفن واهتـــف أتيــتُ بعـــــاثرٍ مـردودِ واجعل ضريحي من حجــارٍ ســودِ
وحفل شعر المهجر بكثير من الوجدانيات والنقد الاجتماعي والترويج للقيم الأخلاقية، مثل قصيدة إيليا أبو ماضي التي دخلت المناهج المدرسية:
نسي الطين ســـاعة أنه طين حقيــر فصــال تيهًا وعربد
ومن جديد هذا الشعر النزعة التأملية في الطبيعة ومحاورتها، ومن أبرز المعبّرين عنها جبران خليل جبران، في قصيدته المغناة “أعطني الناي وغنِّ”، أو في قوله:
ليس في الغابـات مـوتٌ لا ولا فيـــــها القبـــورْ فــإذا نيســـــــان ولّــى لم يمت معه الســـرور
غيض من فيض التفاعل الثقافي
ما تقدّم هو غيض من فيض “الرابطة القلمية” و “العُصبة الأندلسية” فقط. ولكن لتوضيح سعة ميدان أدب المهجر في العصر الحديث، تجدُر الإشارة إلى أنه كان هناك بعض الكبار الذين لم ينضووا في أي من هاتين المجموعتين، مثل أمين الريحاني وعبدالله الحاج. كما أن الولادة الحقيقية كانت قبل ولادة جبران بسبع سنوات، وعلى ساحات أوسع، خاصة إذا ما كان المقصود بالتتبع هو التفاعل الثقافي في المهجر.
فقبل تعاظم الهجرة إلى الأمريكتين كانت هناك موجة هجرة من لبنان باتجاه مصر. ففي عام 1875م، هاجر إلى مصر الأخوان سليم وبشارة تقلا، حيث أسسا جريدة “الأهرام” الشهيرة في الإسكندرية قبل نقلها إلى القاهرة. ثم هاجر جرجي زيدان المولود عام 1861م، إلى مصر لدراسة الطب، ولكنه أصبح واحدًا من أغزر الأدباء إنتاجًا، وأصدر عام 1892م مجلة “الهلال” التي لا تزال قائمة حتى اليوم. وألّف لاحقًا مجموعة “روايات تاريخ الإسلام” الشهيرة. وإليه يُضاف يعقوب صروف وفارس نمر، اللذان كانا ضمن أول دفعة خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت، وأسسا مجلة “المقتطف” عام 1876م، ثم نقلا المجلة إلى القاهرة عام 1885م، ولاحقًا شارك صروف في تأسيس جريدة “المقطم”.
كما أن الشعر العربي في المهجر الأمريكي سبق تأسيس “الرابطة القلمية”. ومن روّاد هجرة الأدباء إلى أمريكا، هناك ميخائيل أسعد رستم، الذي أصدر في فيلادلفيا “جريدة المهاجر”، وله ديوان شعري من ثلاثة أجزاء بعنوان “الغريب في الغرب” صدر جزؤه الأول عام 1895م، فكان بذلك أول كتاب عربي يُطبع في أمريكا.
اترك تعليقاً