بين الأفلام السعودية العديدة التي عُرضت خلال الدورة الأولى من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، التي فاجأت من تابعها بتنوُّعها وثرائها ومستواها الجيّد إجمالاً، ظهرت تجربتان متشابهتان شكلاً، وهما “بلوغ” و“قوارير”، فكلا الفِلْمين أنطولوجي مكوَّن من خمس حكايات، أخرجتها خمس مخرجات، أي عشر مواهب نسائية شابة خرجت لتعلن عن نفسها، عن قدرتها على المصارحة والمكاشفة والمساءلة، على النظر للماضي وتحليله، والتطلع للمستقبل واستشرافه.
بين الفِلْمين، يمتاز “بلوغ” تحديداً بالمهارة المدهشة في اختيار عناوين حكاياته الخمس، وكأن كل عنوان منها اختيار أدبي مستقل بذاته، يمكن أن يكون مدخلاً لتناول الحكاية بالتحليل، فلا غرابة أن يكون العنوان العريض هو “بلوغ”، الذي لا يبعُد كثيراً عن “بلاغة”. فلنتعرَّف على الفصول الخمسة وصانعاتها الموهوبات.
كريمة سمية.. وجريمتها
لا تحتاج المخرجة نور الأمير أكثر من ست دقائق لتخبرنا بالكثير في حكايتها “كريمة سمية”. الحكاية التي يُعدُّ عنوانها مدخلاً رئيساً لفهمها؛ فكريمة سمية هي ابنتها بيان، العروس التي يحتفل الجميع بعُرسها لكنها تختفي خلاله تاركة والدتها في مأزق مخيف عليها أن تتعامل مع اقترابه من أن يغدو فضيحة.
وعلى الرغم من أن اسم “بيان” هو أكثر كلمة تتردَّد في حوار الفِلْم تقريباً في ظل بحث الأم الدؤوب عنها، وملاحظة البعض تأخر ظهورها في الزفاف، فإننا نعلم أن دعوة العُرس بالتأكيد لم تحمل اسمها صراحةً، وإنما اكتفت، كما جرت العادة، بوصفها “كريمة فلان”، وفلان هو الأب الغائب تماماً عن أحداث الفِلْم، تاركاً الأم سمية لتواجه مأزقاً قد يقوِّض إنجاز حياتها بأكملها، ففي دعوة الزفاف كانت الابنة كريمة الأب، لكنها لو لم تظهر فستصير فضيحة سمية التي قامت بتربيتها.
لا يُذكر هذا التعقيد صراحةً في الفِلْم الذي يكتفي بمتابعة مأزق الأم، لكننا نفهمه بسهولة، تارة لمعرفتنا بالثقافة العربية وتعاملها المسيء أحياناً للفتيات، باعتبارهن عاراً وتهديداً دائماً للشرف ينبغي حصاره حتى يُنقل من بيت الأب لبيت الزوج، وتارة لقدرة المخرجة الشابة، ومعها الممثلة ريم الحبيب، على عرض ثقل تلك اللحظة التي تصير فيها الأغنيات السعيدة معادلاً لصوت الضغط المفروض على السيدة التي نراها طيلة الوقت محاصرة داخل الكادر في لقطات كبيرة، حصاراً قد يكون الأخير في حياتها إن لم تظهر الابنة.
الضِّباح.. ثلاث إناث وأرنب
وإذا كان فِلْم نور الأمير أشبه بالقصة القصيرة، اللمحة الخاطفة التي تختزل الكثير، فالحكاية الثانية “الضباح”، من إخراج سارة مسفر، أشبه بالنوفيلا أو الرواية القصيرة التي تقتطع عدة مشاهد من حياة ثلاث إناث وذكر يتشاركون منزلاً واحداً: أم وابنتيها وأرنب!
الضِّباح هو صوت الأرنب؛ حيث يشكِّل حضور الحيوان البريء، الصامت عموماً إلا عندما يتألم أو يموت، ثقلاً خانقاً يزيد من الضغوط التي تحاصر الأم، والتي تجسدِّها لنا قمصاني بأداء يتفهم ببراعة مأزق الشخصية المعقَّد. فهي امرأة في منتصف العمر، لا تزال في حالة من النشاط الجسدي بدليل حملها، تعمل في تجميل السيدات والعناية بشعورهن وبشرتهن، بل ومناطقهن الحميمة، لكنها تعيش حياتها كالرهبان في ظل غياب كامل للزوج الذي نسمع خبراً باستمرار سفره، يبدو من الواضح أنه خبر مكرَّر ومتوقع.
الابنة الكبرى تعيش أطوار المراهقة وتريد أماً تشاركها ألاعيب عمرها، والأم لا تمتلك من الطاقة ما يسمح لها بأكثر من الشعور بالضيق والاختناق، بأن حياتها قد تم اختزالها لتصير مماثلة لأي حياة عدنة (أنثى الأرنب)، تتزاوج لتتكاثر، ثم تُترك وذريتها بلا رعاية، وراء أبواب مغلقة ورتابة محطِّمة للأعصاب، مع أفق لا يوحي بأن الأيام المقبلة ستكون أفضل كثيراً من سابقتها، بل على الأغلب ستكون أسوأ.
تبدّى هنا النضج الكبير الذي تملكه المخرجة الشابة، التي غدت بالفعل أحد الأسماء الواعدة اللامعة في العالم العربي. نضج وتفهم لطبيعة الوسيط السينمائي، يجعلنا ننتظر الكثير من سارة مسفر في المستقبل القريب.
حتى نرى النور.. نموذج
مصغر لتحدٍّ كبير
الحكايتان الأولى والثانية تنتهجان منهج التحديد الدقيق للشخصية، بصياغة كافة تفاصيلها وخلفياتها الدرامية، حتى ما لا نراه منها على الشاشة، لذا فقد شبهناهما بالأعمال الأدبية، سواء أكانت قصة أم نوفيلا. أما في الحكاية الثالثة “حتى نرى النور” فتفضل المخرجة فاطمة البنوي اتخاذ سبيل آخر، هو التعامل مع القصة في بُعدها الرمزي أكثر من الدراما الواقعية فيها.
الفِلْم لا ينغمس كثيراً في بناء شخصية بطلته، لأنه من المقصود أن تكون امرأة في المطلق: أم شابة منطلقة للحياة، سعيدة بيوم يبدأ فيه ابنها رحلة تعليمه وقد يأتي المساء وقد نالت وظيفة تحلم بها، لكن تصرفاً غير مسؤول من شخص آخر، رجل على الأغلب، يتسبَّب في تغيير شعورها، بل وقلب اليوم السعيد رأساً على عقب.
هنا ينشط الفِلْم على الجانب الرمزي للتصرفات البسيطة، فموقف عابر كقيام شخص أخرق بسد مخرج المرآب أمام سيارة امرأة وطفلها، يغدو “ميكروكوزم” أو نموذجاً مصغراً لتحديات كل امرأة شابة تحاول أن تنجح أسرياً ومهنياً في عالم مليء بالعوائق.
وفي كل مرَّة تحاول البطلة التعامل مع المأزق، تستعين فاطمة البنوي بفوتومونتاج حماسي يوحي بانتصار ما، لكنه ينتهي إلى إحباط جديد، في تلخيص يسعى الفِلْم من خلاله، ببعض النجاح وبعض الإيجاز المُخلّ، أن يوضِّح جوانب المعركة العبثية، التي يظل الجانب المشرق منها هو أن البطلة استطاعت، وبسلاح الصبر والجلد لا أكثر، أن تتماسك حتى “ترى النور”.
المرخ الأخير.. وسؤال اللحظة
يمكن قراءة حكاية “المرخ الأخير” للمخرجة هند الفهاد على أكثر من مستوى، فمن جهة يمكن التعامل معها كفِلْم لقاء عابر brief encounter بين امرأتين من خلفيتين شديدتي التباين، يجمعهما الهم نفسه: افتقاد السلسال، أو “الضنا” كما تتكرَّر الكلمة على الألسنة. الأولى (مها) صيدلانية أعيتها مطاردة حلم الأمومة، فاستسلمت لفكرة العلاج الشعبي (والمرخ: هو ما يُمرخ به البدن من دهن وغيره)، والثانية (أم إبراهيم) المعالِجة العجوز التي تعيش نكراناً دائماً لموت وحيدتها.
على هذا المستوى هو فِلْم عن التضامن، عن البحث العبثي عن اكتمال لا يقع إلا ليزول، فلا بديل لبلوغ التماسك العقلي إلا التعاضد، تعاضد النساء معاً، كخطوة أولى لتضامن البشر بشكل عام، مجسَّداً في علاقة الأمومة – البنوّة المتبادلة، فالطرفان هنا أمهات وبنات في الوقت نفسه رغم أعمارهن. تلك العلاقة التي تجسِّدها سناء بكر يونس وإلهام علي، برقّة ودفء.
انطلاقاً من هذا التصالح يأتي المستوى الثاني لقراءة الحكاية باعتبارها جدلاً خاضته الثقافة العربية منذ قرنين، وآن الأوان لأن تخوضه السعودية اليوم بعد تغييب: جدل الأصالة والمعاصرة، الذي كان عنواناً للجانب الأكبر من الحراك الثقافي العربي.
(أم إبراهيم) هنا هي الثقافة الشعبية التقليدية الآخذة في التحلل، إن لم يكن لأن العالم قد صار يميل لصف (مها) بما تحمله من علم حديث، فلأن للزمن أحكامه القاسية التي يستحيل الوقوف ضدها.
(مها) في المقابل تمثل مأزق الانسلاخ عن التراث، تزور المعالجة العجوز من باب ذرِّ الرماد في العيون بعدما أُغلقت الأبواب في وجهها، فتجد في البيت القديم ثلاث مفاجآت سارَّة: طباً شعبياً يمثل جذور ما درسته في الجامعة، حناناً ومشاعر تحرَّكت داخلها، وقدرة على التصالح والتعايش مع ما كان في البداية أشبه بالمعسكر الضد، تعايش يحتضن الماضي دون أن يجعله عائقاً أمام المستقبل، فلعلها إجابة عن سؤال اللحظة الراهنة كلها.
مجالسة الكون.. عنوان يكفي
كما يبدأ الفِلْم بحكاية قصيرة مكثفة ينتهي كذلك بقصة لا تتجاوز الست دقائق، لكن على النقيض من فِلْم البداية الذي يجسِّد الاختناق والحصار، تعرض المخرجة جواهر العامري في “مجالسة الكون” شعوراً لا يمكن إلا أن يكون مستمداً من لحظة حقيقية ملهمة، لحظة مجالسة إنسان يفتح لك الآفاق ويوسع رؤيتك ويجعلك تدرك أن للحياة أوجهاً أخرى غير ما تعرفه.
لا أبلغ من هذا العنوان البديع الذي اختارته جواهر لفِلْمها: مجالسة الكون، والذي يلخِّص القيمة النفسية لهذا اللقاء الذي يفترض أن يكون عابراً بين فتاة مراهقة وامرأة بالغة. فتاة تصادف أن تقضي مع خالتها يوم اختبارها لدورتها الشهرية الأولى، لتجد في الخالة المتمردة ليس فقط عزاءً يخفِّف اللحظة المربكة لأي أنثى، وإنما فلسفة تمنح المستقبل معاني أعمق، حتى لو حمل مزيداً من الآلام.
ليكون “مجالسة الكون” تحية بسيطة ولكن مؤثرة لكل شخص ملهم قابلناه في صغرنا فلامس قلوبنا وترك فيها أثراً باقياً. ويكون “بلوغ” بشكل عام تحية جماعية للمرأة السعودية، المرأة القوية التي عاشت تحت وصاية عسيرة فتعاملت معها بدهاء وحنكة ورغبة في الحياة، وها هي تنال حريتها فيعلو صوتها تعبيراً مخلصاً عن الذات بآلامها وآمالها.
اترك تعليقاً