يضعنا فِلْم “آخر زيارة” للمخرج عبدالمحسن الضبعان، أمام ثلاثة أجيال، جد وابن وحفيد، ليطرح من خلال قصتهم بعض الأسئلة: ماذا عن التشابك في علاقات هذه الأجيال الثلاثة؟ وما هي أوجه الاختلاف والمسلَّمات الموروثة؟ فهذا الفلم الحائز جائزة لجنة التحكيم في “المهرجان الدولي للفلم” بمدينة مراكش في ديسمبر 2019م، يذكِّرنا إلى حدٍ ما برواية الأديب الروسي إيفان تورغينيف “الآباء والبنون”، التي أصبحت منذ صدورها وحتى الآن التوصيف الأعمق لصراعات الأجيال.
يحكي فِلْم “آخر زيارة” عن علاقة بين أب وابن وحفيد، فيبقينا طوال ساعة ونصف الساعة مع قصة تجمع الجد والأب “ناصر” (الممثل أسامة القس، صاحب الأداء البارع)، والابن “وليد” (الممثل الشاب عبدالله الفهاد). الفتى المراهق الذي يجد نفسه مرغماً على مرافقة والده الأربعيني في رحلة بالسيارة إلى المنطقة الشرقية لحضور حفل زواج أحد أصدقائه المقرَّبين. ومنذ اللحظات الأولى في الفلم يتبيَّن لنا كُنْهُ العلاقة المتوترة، بين الأب والابن.
الرحلة في مسار آخر
نرى الأب والابن منطلقين بالسيارة. ولكنَّ حدثاً طارئاً يحوّل مسار الرحلة إلى مكان آخر نتتبع فيه علاقتهما وتفاعلاتهما مع ما حولهما، وذلك حينما يتلقى ناصر اتصالاً من أخيه الأكبر منصور، يخبره فيه عن مرض أبيهما، الذي يبدو أنه يعيش آخر أيامه، وأن عليه المبادرة بالحضور. ما يدفع ناصر إلى تغيير مساره والتوجه مباشرة إلى قريته الواقعة جنوب الرياض.
يصل ناصر وابنه وليد إلى القرية، حيث المجتمع مختلف عما يعايشانه في مدينة الرياض. وهناك، يتعاملان مع مجموعة من الشخصيات المختلفة عما اعتادا عليه في المدينة، وكذلك نوعية مختلفة من طبائع الأمور التي لا يرونها عادة. كما تزامن حضورهما إلى القرية بحدث مأساوي أثّـر على أهلها، حينما أُعلن عن اختفاء أحد الفتيان في ظروف غامضة.
ولكن الأهم من ذلك، اتضاح مدى عمق الهوة الفاصلة بين ناصر وابنه وليد. إذ يحاول الأب أن يجبر ابنه على الالتزام بالصلاة وبعادات القرية المحافظة، في مسعى للمحافظة على المظاهر أمام شقيقه وأبنائه الذين عاشوا في القرية طيلة حياتهم. لكن محاولاته تلقى آذاناً صمّاء من الابن الذي يلجأ إلى الانعزال مع موسيقاه وهاتفه الجوَّال، وقد تعاظم بداخله الشعور بأن والده عاجز عن فهمه.
شخصيات هذا الفلم تبدو رموزاً للأجيال التي تنتمي إليها. فالجد هو الجيل القديم وأفكاره تذوي في ظل التحوُّلات الاجتماعية التي يشهدها الواقع الراهن، والأب هو الجيل الأوسط الذي لا يزال حائراً بين تراث أجداده والقيم المعاصرة، أما الابن المتمرد فيمثل رغبة الجيل الجديد في التحرر من القيود ورسم ملامح المستقبل بشروطه الخاصة. قد تمثل هذه التأويلات مفاتيح رمزية شخصيات الفلم، ومنها يمكن قراءته بشكل مغاير.
حبكة متماسكة
فما بين الحدث الغامض المتمثل في اختفاء الفتى، واكتشاف القرية بتقاليدها وشخصياتها، وتوتر علاقة الأب بابنه، وتأثر شخصياتهما بالمحيط الذي يعايشانه، تجري أحداث الفلم في سيناريو محدَّد وبإيقاع هادئ وبطيء. ولكنَّ ثَمَّة تشويقآَ يكتنفه، لعله طبيعية الأداء التمثيلي التي تساير السرد الفلمي. وصولاً إلى اللحظة التي تبلغ قمة التوتر في علاقتهما، بموت الجد المريض وانكشاف سبب اختفاء الفتى الصغير.
بلا مؤثر موسيقي
لا يغيب عن المشاهد أن الفلم اعتمد على المؤثرات الصوتية الطبيعية، ولم يركن إلى مؤثر موسيقي، وهذا يرجع إلى رؤية المخرج بالتأكيد. ومع أن ذلك لا يقلل من قيمة الفلم، ولكن بعض المشاهد كانت تستلزم، كما يعتقد البعض، تطعيمات موسيقية، ليس لإضفاء بُعد جمالي سمعي، ولكن لتأكيد معنى درامي بصري معيَّن. فعلى سبيل المثال، عندما خرج الولد إلى التنزه في المزرعة، ربما كان المشهد بحاجة إلى موسيقى تعكس شعور الابن من ناحية، والإحساس بالمكان من ناحية أخرى. كما قد ينطبق ذلك على المشهد الذي يصوِّر ناصراً وابنه في السيارة، فلربما كان يحتاج إلى مؤثر موسيقي يصعّد من حالة التوتر الصامت بينهما. لذا، أفقد الاستغناء كلياً عن المؤثر الموسيقي عنصراً كان من الممكن أن يضيف بُعداً درامياً مؤثراً، ولذا يشعر المشاهد بأنه شاهد فلماً قاتماً مشبعاً بالحالة النفسية السوداء المتمثلة في مزاج الحفيد. ومردُّ ذلك هو رؤية المخرج الذي يرنو إلى الإمعان في معايشة الشعور بالاختناق المشوب بالصمت عند الفتى المراهق.
الصمت الموحي
يحاول سياق السرد الفلمي أن يمتلئ بالدلالات والمفارقات بين جيل الآباء وجيل الأبناء، مما يجعله وكأنه محاكمة صامتة لجيل الآباء. وقد تناول السيناريو ذلك بشكل غير مباشر، وهذا ما يرفع من القيمة الفنية والتأثيرية للفلم. لكن أسباب عدم انسجام الأب مع ابنه وحنق الابن على أبيه تتسم بالغموض، وهذا ما يتطلب من المشاهد أن يلجأ إلى التأويل والتخمين. ففي أحد المشاهد، يصف الابن أباه بأنه غبي، فما هو الغباء الذي يقصده؟ لم يكن واضحاً هذا الغباء الذي يمقته الابن، هل لأنه لم يفهمه؟ هذا ما أفقد الصراع النفسي بين البطلين التأثير العاطفي المنطقي، وأربك بالتالي أحـد عناصر الحبكة. ولكن الفلم يبقى ذا مستوى عالٍ بصفة عامة.
مخرج ذو رؤية مستقلة
عبدالمحسن الضبعان، مخرج شغوف بالسينما، تحرِّكه ثقافته وإدراكه لما يريد أن يقوله سلفاً، وعندما قدَّم أفلامه القصيرة: “الباص” و”ثلاثة رجال وامرأة” ثم “الوقائع غير المكتملة لحكاية شعبية” و”هذا هو منزلي” و”المفتاح”، سعى من خلالها إلى تقديم سينما مستقلة لها طابعها الخاص المنطلق من بيئته التي عاشها وتشرَّب واقعها، فنقلها بصدقية فنية تقارب حلمه الأكبر الذي بدأ يتحقق مع فلمه الطويل “آخر زيارة”.
“آخر زيارة”
إخراج: عبدالمحسن الضبعان
بطولة: أسامه القس وعبدالله الفهاد
شارك في التمثيل: فهد الغريري، مساعد خالد، غازي حمد، وشجاع نشاط
كتابة: فهد الأسطاء وعبدالمحسن الضبعان
تصوير: أمين مسعدي
إنتاج وقيادة الفريق الفني: محمد الحمود
اترك تعليقاً