“المُركَّبات الباقية إلى الأبد” هي عنوان واحدة من أخطر المشكلات الصحية التي يعانيها العالم المعاصر. والمصادر الرئيسة لهذه المركّبات هي مبيدات الآفات الزراعية التي تدخل إلى السلسلة الغذائية. وفي وقت فتح لنا الذكاء الاصطناعي إمكانات غير محدودة لمعالجة هذه الأخطار، خاصة لجهة التواصل بين الأنواع، يأتي دور الخيال العلمي وعلاقته التبادلية المثيرة للاهتمام تاريخيًا مع التقدم العلمي والتكنولوجي ليحفز على التنفيذ.
دفعت رواية “حرب العوالم” للكاتب هـ. ج. ويلز، التي نُشرت عام 1897م، روبرت جودارد إلى التفكير في إمكانية السفر إلى الفضاء واختراع الصاروخ الذي يعمل بالوقود السائل، وهو أمر مهَّد الطريق لبرنامج “أبولو” التابع لوكالة ناسا، وفقًا لمجلة “نيتشر”، التي نُشرت في سبتمبر 2016م. على المنوال نفسه، يمكننا أن نتخيل كيف يمكن للتطورات الحديثة في مجال الروبوتات الصغيرة والنانوية أن تخلِّف تأثيرًا عميقًا على كثير من مجالات النشاط البشري، بما في ذلك الزراعة. إذ لدينا مجموعة كبيرة من الكائنات الحية الدقيقة، مثل: الحشرات والعث والميكروبات والبكتيريا والفطريات والفيروسات ومشتقاتها، التي يمكنها قتل معظم الآفات. لكن التواصل بين هذه وتلك محفوف بصعوبات عديدة، أهمها عدم تمكُّن النبات من الحركة. ويكمن مفتاح الحل في فهم كيفية تواصل النبات بعضه مع بعض، ومع الكائنات الدقيقة المفيدة.
اللغة الكهروكيميائية
جرى توثيق أول حالة على الإطلاق للتواصل بين النباتات باستخدام المواد الكيميائية في عام 1983م، ولكن لم تُوثَّق بالفيديو حتى عام 2023م في دراسة رائدة، وفقًا لما ذكره تقرير رقمي (Earth.com)، نُشر في 28 يناير 2024م. إذ من المعروف منذ فترة أن النباتات يُمكن أن تحذِّر بعضها بعضًا من أنواع معينة من المخاطر القادمة، مثل هجمات الآفات أو الجفاف، عن طريق إطلاق نوع معين من المُركَّبات العضوية المتطايرة في الهواء، التي تعمل كإشارات تحذير للنباتات المجاورة لإعداد الدفاعات المناسبة.
وتشير دراسة يابانية إلى أن فريقًا بحثيًّا من جامعة سايتاما باليابان، بقيادة عالم الأحياء الجزيئية ماساتسوجو تويوتا، قام بهندسة عشبة شائعة تُسمَّى “أرابيدوبسيس ثاليانا” وراثيًا؛ لتتوهج عند ملامستها لمثل هذه المركبات العضوية المتطايرة. وبذلك، تمكَّنوا من تصوير تفاعل نبات سليم مع رسالة تحذير من جاره الذي تعرض للهجوم. فكان هذا أول دليل توضيحي على الإطلاق على التواصل في مملكة النبات.
وأظهرت الدراسة اليابانية المذهلة، أن الطريقة الأكثر شيوعًا للتواصل بين النباتات هي الوسائل الكيميائية. فالنباتات تنتج الهرمونات والسكريات والمركبات العضوية المتطايرة والمواد الكيميائية الأخرى، ولكل نوع مخاليط فريدة يستخدمها لأغراض مختلفة مثل: تنظيم الوظائف المختلفة، وتحذير النباتات المجاورة من الظروف المعاكسة، وكذلك التواصل مع الميكروبات والحيوانات. وتحت التربة، تشارك النباتات، في شكل معقد من أشكال التواصل، شبكة من الفطريات التي تربط بين جذور النباتات المختلفة. ومن خلال هذه الاتصالات، يمكن للنباتات مشاركة العناصر الغذائية والمياه والمعلومات ومكافحة الآفات، كما جاء في مجلة “نيتشر” في 12 أغسطس 2020م.
لا تختلف كثيرًا عن الحيوانات
على الرغم من عدم امتلاك النباتات دماغًا أو جهازًا عصبيًا، فإنها تمتلك شيئًا مشابهًا، وهو شبكة وعائية تنتقل من خلالها المواد الكيميائية والإشارات الكهربائية، وتنقل الرسائل من جزء من النبات إلى جزء آخر، وفقًا لتقرير “ناشيونال جيوغرافيك” في أبريل 2023م. فعلى سبيل المثال، يمكن للنباتات اكتشاف علامات الجفاف بجذورها والحد من استهلاك الماء في الأوراق، وذلك عن طريق الأوكسين الذي هو هرمون يوجِّه البراعم إلى الاتجاهات التي يجب أن تنمو فيها لتخرج من تحت الأرض. وهناك أيضًا حمض الجاسمونيك، وهو هرمون دفاعي ينتشر في جميع أنحاء جسم النبات لإخباره بالبدء في إنتاج السموم.
تمتلك النباتات أيضًا حاسة اللمس التي تسهل لها عملية نقل الإشارات الكهربائية، وهو ما يسمح بالاستجابة للمحفزات الخارجية. ويمكن لنباتات آكلة اللحوم، مثل مصيدة الذباب، أن تغلق فمها فور شعورها بحركة فريستها داخلها. ويمكن لنبتة الميموزا بوديكا، المعروفة باسم “النبتة الحساسة” أن تستشعر زحف الحشرات على أوراقها، فتحركها لإبعاد هذه الحشرات وفقًا للمصدر السابق.
وباستخدام المركبات العضوية المتطايرة، يمكن للنباتات التعرُّف على أقاربها ومساعدتها على الكفاح بدلًا من التنافس معها. ومثل الحيوانات والبشر، تعتني النباتات بصغارها. إذ تشارك الشجرة الناضجة الموارد الحيوية مع ذريتها لمساعدتها على النمو خارج ظل النباتات القريبة حتى تصبح طويلة بما يكفي بحيث يمكن لأوراقها الوصول إلى ضوء الشمس والتمثيل الضوئي.
كما تدرك النباتات محيطها، ويمكنها توصيل هذه المعلومات إلى أقاربها عبر الجذور. فقد أظهر عالم البيئة فيليمير نينكوفيتش وفريقه، من جامعة الزراعة السويدية، أنه عندما تفرك أوراق نبات الذرة شيئًا ما في بيئتها، مثل أجسام النباتات الأخرى على سبيل المثال، فإنها تُغيِّر طريقة نموها، وفقًا لتقرير صحيفة “الغارديان” في مايو 2018م. فهي تُعيد توجيه مواردها لتنمية سيقان أطول وأوراق أكثر بدلًا من نشر جذورها حتى لا ينتهي بها الأمر في الظل. كما وجد العلماء في تجربة مخبرية، أن شتلات الذرة التي جرى لمسها تفرز مواد كيميائية في التربة، وهو ما يخبر الشتلات المجاورة بالنمو بشكل أكثر عدوانية فوق الأرض.
النانوروبوت
بينما لا تزال تقنية الروبوتات النانوية في الحيز النظري والاختباري، شهدت تقنية الروبوتات الصغيرة تقدُّمًا كبيرًا. فعلى سبيل المثال، توصَّل أستاذ الذكاء الاصطناعي تيم لاندغراف، من جامعة برلين وفريقه، إلى صناعة روبوت صغير أطلق عليه اسم (RoboBee)، يبلغ حجمه حجم نحل العسل، واستطاع تعليمه لغة هذا النحل. وتمكَّن هذا الروبوت، كما جاء في مجلة القافلة في العدد 705 (يوليو – أغسطس 2024م)، “من دخول الخلية، وأصدر أوامر لنحل العسل بلغته، واستطاع أن يطلب من النحل الآخر أن يتوقف، ففعل ذلك. ويمكن أيضًا جعله يفعل شيئًا أكثر تعقيدًا، وهو رقصة الاهتزاز الشهيرة جدًا، وهو نمط الاتصال الذي يستخدمه النحل لنقل موقع مصدر الرحيق إلى نحل العسل الآخر. ذلك أنه عندما يتحدث نحل العسل بعضه إلى بعض، فإنما يفعل ذلك من خلال حركات أجساده إضافة إلى الأصوات. والآن، أصبحت أجهزة الكمبيوتر، وخاصة خوارزميات التعلم العميق، قادرة على متابعة ذلك لأنه يمكن استخدام رؤية الكمبيوتر جنبًا إلى جنب مع معالجة اللغة الطبيعية”.
مكافحة الآفات
بناء على ما تقدَّم، نستطيع في المستقبل استخدام أسراب من الروبوتات الصغيرة وأخرى نانوية، بحيث يُمكن لكل سرب متخصص التواصل والتعامل مع نوع معين من الكائنات الحية الدقيقة. وتشمل هذه الكائنات الحشرات والعث والديدان الخيطية والبكتيريا والميكروبات والفطريات والفيروسات، ومشتقاتها المفيدة التي تتغذَّى على الآفات. ويُمكن لهذه الكائنات قتل الآفات عن طريق العدوى المباشرة، أو التفوق عليها، أو عن طريق تقديم حاجز مادي بينها وبين النبات وما إلى ذلك. كل هذه المعلومات يجري تعليمها لهذه الأسراب، كما يجري تعليمها “لغة” النباتات والكائنات الدقيقة للتتواصل معها والقيام بوظائفها على أكمل وجه.
يختلف حجم الروبوتات بحسب وظيفة كل منها؛ لأن كثيرًا من الآفات مجهرية. لكن الكائنات التي تعاديها أو تتغذَّى عليها كبيرة الحجم نسبيًا. لذلك، يُراوح هذا الحجم بين الروبوتات الصغيرة مثل روبوت جامعة برلين، وأحجام متناهية في الصغر تماثل الفيروسات. ويقف على رأس هذه الأسراب النانوروبوتية سرب رئيس يوزع المهام ويدير العمل بين الأسراب التي تجمع المعلومات مباشرة من الحقل، وتُعطي الأوامر التنفيذية للأسراب المختلفة.
على سبيل المثال، تتعرض المحاصيل المغطاة في البيوت البلاستيكية وهياكل الزراعة العمودية وغيرها، إلى آفات مثل التربس (نوع من البراغيث) والذباب الأبيض والعث العاشب. وفي هذه الحالة، يُعطى سرب من الروبوتات، متخصص في هذا النوع من الآفات، أمرًا باستدعاء نوع من الكائنات الدقيقة الحميدة مثل العث المفترس (Amblyseius swirskii)، وهو أحد ألدّ الأعداء الطبيعيين لآفات المحاصيل المغطاة، ويوجد على بعض أنواع التفاح والمشمش والحمضيات والخضراوات والقطن.
ويستطيع سرب متخصص بالسيطرة على أعداد الفراشات والعث من فصيلة حرشفيات الأجنحة، المنتشرة في أماكن واسعة من الكرة الأرضية وعلى مروحة واسعة من النباتات والأشجار المثمرة، أن يستقدم الدبابير الطفيلية الموجودة أيضًا في أماكن كثيرة، ويُمكنها أن تصيب الآفات في مراحل مختلفة من الحياة من البيض إلى اليرقات إلى أن تصبح حشرات بالغة وتقضي عليها.
أمَّا على صعيد الآفات البكتيرية المتنوعة وواسعة الانتشار، مثل الفيوزاريوم، فيُمكن لسرب من الروبوتات استقدام مجموعة من الفطريات تُسمَّى “تريكوديرما”، لتعمل ضد مجموعة واسعة من مسببات الأمراض النباتية، مثل الفيوزاريوم.
ويُمكن لكثير من الفيروسات أن تُعدي مجموعة واسعة من الديدان الضارة التي تقتات على ثمار التفاح والكمثرى وتقضي عليها. ومن بينها الفيروسات الحبيبية، وهي نوع معين من الفيروسات العصوية التي يمكن استقدامها بواسطة سرب متخصص لمكافحة هذه المجموعة من الحشرات الضارة التي تتغذى يرقاتها على المحاصيل.
اترك تعليقاً