ممَّ يتألف الكون؟ وما اللبنات الأساسية للمادة فيه؟ شغل هذا السؤال الإنسان منذ القِدم، وظهرت نظريات عديدة تُجيب عن ذلك. لكن النظرية الذرية، التي اكتشفها العالم اليوناني ديمقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد، لا تزال قائمة حتى اليوم مع تعديلات مهمة. قال ديمقريطس إذا قمنا بقطع أي مادة إلى أجزاء صغيرة، نصل إلى جزء “غير قابل للقطع” (atomos) باليونانية؛ أي الذرة. لكن عندما اكتُشف الإلكترون، بات علماء القرن العشرين مقتنعين أن الذرة يمكن تجزئتها. فهل لدينا سكين حادة بالقدر الكافي لقطعها، أو مطرقة قوية تماثل قوة الانفجار الكبير لسحقها ومعرفة ما بداخلها؟ أدى البحث عن هذه الأداة إلى ولادة تقنيات مسرِّعات الجسيمات التي قدَّمت لنا معلومات ثمينة عن عالم آخر داخل الذرة، وأسهمت في ابتكار أحدث تقنيات العصر.
من المُثير للاهتمام أن يكون معظم ما نعرفه عن النظرية الذرية، التي صاغها ديمقريطس (460 – 370 ق.م)، قد جاء من هجمات الفلاسفة الذين جاؤوا بعده عليها. إذ هاجم أريسطوطاليس (384 – 322 ق.م) أفكار ديمقريطس، في معرض دفاعه وشرحه لنظريته حول تكوُّن المادة من أربعة عناصر، وهي: الأرض والهواء والنار والماء، ولكلٍّ منها خصائصه الفريدة. بينما كان ديمقريطس يرى أن المادة تتكوَّن من ذرات متناهية في الصغر وصلبة وقوية وغير مرئية وغير قابلة للتجزئة والقطع، وأن الاختلافات في شكلها وحجمها تُحدِّد الخصائص المختلفة للمادة.
وبعد غياب ديمقريطس وحتى القرن الأول قبل الميلاد، توارت هذه النظرية في غياهب النسيان من دون أن يُعرف سبب ذلك، إلى أن اكتشفها شاعر روماني مغمور هو تيتوس لوكريتيوس بعد ثلاثة عقود (95 – 55 ق.م). إذ كان هذا الشاعر شغوفًا بالشعر الفلسفي وافتُتن بأفكار ديمقريطس، وراح يجمع تلك الانتقادات ويضعها في قصيدة طويلة بعنوان “في طبيعة الأشياء”، تألَّفت من 7400 بيت توزَّعت على ستة كتب من دون عناوين.
وجاء في الكتاب المرجعي من جامعة أكسفورد وعنوانه “في طبيعة الأشياء” (2008م)، لمؤلفه رونالد ميلفيلد وآخرين، أن قصيدة لوكريتيوس كان لها أثر كبير على الشعراء الأغسطينيين مثل فرجيل وهوراس وأوفيد. وعلى الرغم من ذلك، اختفت القصيدة مرة ثانية قرونًا عديدة، إلى أن اكتُشفت عام 1417م، في دير للرهبان في ألمانيا، كما جاء في كتاب “الافتراق: كيف أصبح العالم حديثًا” (2011م)، لستيفن غرينبلوت من جامعة هارفارد، الحاصل على جائزة بوليتزر، والذي يؤكد فيه أن هذه القصيدة أدَّت دورًا مهمًا في التطور العلمي، وأثرت أيضًا على مجمل حركة الأنوار التي أسَّست للحداثة.
النظرية الذرية وبداية العلم التجريبي الحديث
أشعل ظهور قصيدة لوكريتيوس النقاش في القرن السابع عشر بين المدرسة الأرثوذكسية الأريسطوطاليسية والعلم التجريبي الحديث البازغ؛ وذلك عندما طُبعت عام 1649م من قِبل راهب فرنسي يُدعى بيير غاسيندي. وبقي مفهوم الذرة الذي قبِله العلماء الغربيون، منذ بداية العلم الحديث ونشوء الأكاديميات الحديثة حتى مطلع القرن العشرين، هو نفسه كما فهمه ديمقريطس في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن دُعِّمت النظرية بالتجربة والاستنتاج الرياضي ببطء لتحلَّ محل المنطق الفلسفي حول وجود جسيم أوَّلي صلب غير قابل للتجزئة في الطبيعة.
مع هذا التطور، بدأت النظرية الذرية الحديثة تخضع لتنقيح مستمر، خاصة في بداية القرن التاسع عشر مع عمل الكيميائي الإنجليزي جون دالتون، بتحويلها من الفلسفة إلى نظرية علمية بين عامي 1803م و1808م. ومثَّل كتابه “نظام جديد للفلسفة الكيميائية” (الجزء الأول، 1808م؛ والجزء الثاني، 1810م) أول تطبيق للنظرية الذرية على الكيمياء. فقد قدَّم الكتاب صورة فيزيائية لكيفية اتحاد العناصر أو الذرات لتكوين المُركَّبات (الجزيئات)، وبرهانًا على وجود الذرات. ومنذ ذلك الحين، بدأ العلماء باكتشاف العناصر المختلفة في الطبيعية وصولًا إلى أعمال الكيميائي الروسي ديميتري إيفانوفيتش مانديلييف، والجدول الدوري للعناصر في عام 1869م.
لم يُدرك علماء الفيزياء المعاصرون أن الذرة قابلة للتجزئة حقًا، وأنها ليست صلبة أو غير قابلة للتغيير، إلا بعد أكثر من ألفين وثلاثمائة عام حين اكتشف جيه جيه تومسون الإلكترونات في عام 1897م. وأثبت اكتشاف الإلكترونات، وهي جسيمات دون ذرية، أن الذرات ليست اللبنات الأساسية. بعد ذلك اكتشف الفيزيائي البريطاني النيوزيلاندي إرنست رذرفورد، عام 1911م، أن الذرة تتكوَّن من نواة مركزية مشحونة إيجابًا، تحيط بها سحابة من الإلكترونات الشبيهة بالكواكب المشحونة سلبًا. واكتُشف في عام 1932م، البروتون والنيوترون اللذان يُشكِّلان النواة.
عند ذلك، أيقن العلماء أن الذرة ليست أصغر العناصر في الكون، وأن هناك عناصر أصغر فأصغر. فما الجسيمات التي تتألَّف منها الذرة؟ آنذاك، تحوَّل البحث إلى إيجاد التقنية التي يستطيع بها العلماء تفكيك الذرة لمعرفة اللبنات الأساسية التي تتألَّف منها المادة، والإجابة عن أسئلة أخرى مثل: ما الذي يُعطي المادة كتلتها؟ وما المادة السوداء التي افتَرض وجودها النموذج القياسي للفيزياء؟ وما إلى ذلك من أسئلة؛ فظهرت إلى الوجود مسرِّعات الجسيمات التي تقودنا إلى الإجابة عن ذلك.
مسرِّعات الجسيمات
بُني كثير من أنواع المسرعات وأحجامها، أو المصادمات، في أماكن متفرقة من العالم منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى اليوم؛ وذلك بهدف البحث والاستفسار عن ديناميكيات بنية المادة وذراتها وعلاقتها بالزمان والمكان. ولكن “مصادم الهدرونات الكبير” (LHC) هو أكبر وأقوى مسرع للجسيمات في العالم، كما سنرى لاحقًا. وهو موجود في “مختبر فيزياء الجسيمات الأوروبي” (CERN) على الحدود بين سويسرا وفرنسا. وفي الآونة الأخيرة، دخلت على المسرِّعات تطورات بالغة الأهمية، ولا سيَّما من ناحية الحجم والقوة استجابةً للبحث العلمي من جهة، والإسهام الفعَّال في الابتكار التكنولوجي من جهة أخرى.
تعتمد معظم المسرِّعات على مبدأ دفع الذرة أو جسيماتها، إلى سرعات قريبة من سرعة الضوء، وجعلها تصطدم بعائق أو بذرة أخرى متحركة في الاتجاه المعاكس؛ لتنفجر نتيجة الطاقة الهائلة المتولدة. وعادةً ما يُدخل الجسيم في أنبوب فارغ تمامًا، ويجري دفعه بواسطة تيار كهربائي يزداد سرعةً، وتوجيهه بواسطة المغناطيس، وجعله يصطدم بجسيم آخر معاكس له بالسرعة نفسها.
أكثر الجسيمات استخدامًا في المسرعات هي الإلكترونات والبروتونات، وعادةً تُنتج الإلكترونات باستخدام جهاز يُعرف باسم “مسدس الإلكترونات”، وهو نفسه الموجود في أنبوب صورة التلفزيون. يحتوي المسدس على كاثود؛ أي قطب سالب في فراغ، يجري تسخينه بحيث تنفصل الإلكترونات عن الذرات الموجودة في مادة الكاثود؛ عند ذلك تنجذب الإلكترونات المنبعثة، المشحونة سلبًا نحو الأنود، القطب الموجب، حيث تمر عبر ثقب.
المسدس نفسه يشبه، على سبيل التبسيط، المسرّع؛ لأن الإلكترونات تتحرك عبر مجال كهربائي. والفكرة الأساسية في أنبوب الفراغ هنا، هي أن الإلكترونات بشكل عام عندما تتحرك نحو جهد موجب على طول سلك أو في الهواء، سوف تصطدم بالذرات وتفقد الطاقة. ولكن إذا سارت الإلكترونات في أنبوب فارغ، فإنها سوف تتسارع بشكل متزايد أثناء تحركها نحو الجهد الموجب؛ لأنها لا تصطدم بشيء. وتُستخدم أنواع “المسرِّعات” الصغيرة هذه، بالإضافة إلى التلفزيونات، في إنتاج النظائر المشعة، والتصوير الصناعي، والعلاج الإشعاعي، وتعقيم المواد البيولوجية، وشكل معين من أشكال التأريخ بواسطة الكربون المشع.
أما المسرّعات الضخمة، فتُستخدم في الأبحاث المتعلقة بالتفاعلات الأساسية للجسيمات دون الذرية، التي تحتوي على بعض الوسائل للكشف عن الجسيمات وحسابها وقياسها بعد تسريعها عبر الفراغ. في هذا النوع من المسرِّعات الضخمة تتصادم الجسيمات بعضها ببعض فتتعرض مؤقتًا لقوى ودرجات حرارة من مرتبة الانفجار العظيم، فتتكسر إلى قطع أصغر مثل: البوزيترونات والبروتونات المضادة والميونات والتاو والكواركات والبوزونات وغيرها. وهذا ما يساعد العلماء على فهم عالم المادة الصغيرة والقوى التي تشكّل الكون ودينامياتها بشكل أفضل.
وتجدر الإشارة إلى جانب مهم جدًا في عمل مسرِّعات الجسيمات وهو أنه، وفقًا للنظرية النسبية، فإن طاقة الاصطدام بين جسيمين يقتربان بعضهما من بعض بسرعة قريبة من سرعة الضوء لا تكون أعلى بأربع مرات فقط من حالة الجسيم المستقر، كما هو الحال في الفيزياء التقليدية؛ بل يمكن أن تكون أعلى من ذلك بكثير. وهكذا، فإن المسرِّعات تُولِّد ناتج سرعات أكبر من ناتج سرعة الضوء عند الاصطدام.
مصادم الهدرونات الكبير
بُني “مصادم الهدرونات الكبير” لاختبار التنبؤات النظرية في فيزياء الجسيمات ما دون الذرة، وخاصة تلك المرتبطة بـ”النموذج القياسي”، الذي استطاع تفسير كثير من ديناميات فيزياء الجسيمات، ولكنه اعتمد على عدة فرضيات لم تجرِ الإجابة عن ماهيتها بعدُ، مثل: ما الذي يعطي المادة كتلتها؟ وما المادة المظلمة والطاقة المظلمة؟ لماذا توجد مادة مضادة أكثر من المادة؟ فجرى تصميم هذا المصادم للمساعدة في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة.
تعود تسمية “هدرون” إلى نوع من الجسيمات التي تتألَّف من جسيمات أخرى هي الكواركات. وبُني هذا المصادم على شكل دائري بعمق يُراوح بين 100 و175 مترًا تحت الأرض. ويبلغ محيط دائرته 27 كيلومترًا، ويُعدُّ أكبر آلة صنعها الإنسان حتى اليوم. واستطاع هذا المسرّع إعادة إنتاج الظروف التي كانت موجودة في غضون جزء من مليار من الثانية بعد الانفجار العظيم؛ وهذا ما سمح بإنجاز أهم الاختراقات العلمية عام 2012م، وهو اكتشاف “بوزون هيغز”، المُسمَّى باسم العالم البريطاني بيتر هيغز، الذي افترض وجود هذا البوزون عام 1964م، المسؤول عن منح الكتلة (الوزن بمعنى غير دقيق) إلى المادة.
تطورات مهمة مقبلة
في الآونة الأخيرة، دخلت على مسرِّعات الجسيمات تطورات نوعية بالغة الأهمية؛ وذلك استجابة لحاجات في الصناعة والقطاع الطبي وموضوعات البحث العلمي مثل: فيزياء الجسيمات، والفيزياء النووية، وغيرها. ولا تحتاج هذه التطبيقات الجديدة، على اختلاف أنواعها، إلى آلات ضخمة وأنفاق تحت الأرض مثل مصادم الهدرونات الكبير، الموصوف آنفًا، كما لا تتحمَّل التكلفة الاقتصادية الباهظة في تصنيع مثل هذه المسرِّعات الكبيرة. لذلك يعمل علماء الفيزياء في جميع أنحاء العالم على تصنيع مسرِّعات جسيمات صغيرة جدًا بحجم الرقاقة؛ لتتناسب مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة الحالية.
إن مثل هذه المسرِّعات، التي تُسمَّى “المسرعات النانوفوتونية”، تستخدم الليزر لتسريع الإلكترونات إلى سرعات تقترب من سرعة الضوء من خلال هياكل نانومترية صغيرة جدًا. وهي بديل رخيص وأقل حجمًا حتى من أصغر مسرِّعات الجسيمات المتاحة حاليًا. وكانت هذه المسرِّعات الصغيرة غير قابلة للتحقق في الفترة الزمنية الماضية بسبب تعقيد الأجهزة والقيود الهندسية. لكن مع تطور تقنيات الليزر والنانو، أصبح تحقيقها أقرب من أي وقت مضى.
إنجازات تطبيقية
نجح مؤخرًا فريق من علماء فيزياء الليزر في جامعة فلوريدا أتلانتيك، وفريق آخر من جامعة ستانفورد، في صناعة أول مسرّع إلكترون نانوفوتوني يتكوَّن من شريحة صغيرة تحتوي على أنبوب تسريع صغير. كما نجحوا بالفعل في تشغيل أصغر مسرّع للجسيمات في العالم للمرة الأولى. وقد يفتح هذا الاختراق التكنولوجي الباب أمام مجموعة واسعة من التطبيقات، بما في ذلك استخدام مسرِّعات الجسيمات في مسبار داخل أجسام المرضى. والهدف النهائي لهذه المسرِّعات الصغيرة هو أن تكون قادرة، مثلًا، على إشعاع الخلايا السرطانية مباشرة من داخل الجسم، وهو ما يوفر علاجًا موضعيًا ناجعًا، حيث تُستخدم الطاقة المنبعثة من الإلكترونات المتسارعة لقتل الخلايا السرطانية. وقد نشر الباحثون نتائج بحثهم بمجلة “نيتشر” في 18 أكتوبر 2023م.
يبلغ طول هذا المسرّع الجديد 0.5 ملليمتر، كما يبلغ عرض القناة التي يجري من خلالها تسريع الإلكترونات، حوالي 225 نانومتر فقط. وللمقارنة، فإن طوله أقل بـ54 مليون مرة من طول حلقة مصادم الهدرونات الكبير. ويُعدُّ هذا أول مسرع صغير قادر على إنتاج حزم سريعة ومركزة من الإلكترونات، ويستخدم ضوء الليزر لتسريع الإلكترونات إلى سرعات تزيد على مائة ألف كيلومتر في الثانية. ويمكن، كما يوضح الدكتور توماس كلوبا وهو أحد المؤلفين الأربعة الرئيسين للورقة البحثية، تقليص حجم مسرِّعات الجسيمات بحيث تتناسب مع رأس القلم، ومن ثَمَّ، يمكن التفكير في أدوات علاجية للأطباء أو أدوات التعقيم صغيرة الحجم للمختبرات، وهذه المسرِّعات الصغيرة سوف تفتح الباب لتطبيقات عديدة، كما جاء في المصدر نفسه آنفًا.
اترك تعليقاً