لكل موسم سحره الخاص، وللربيع صحوته النابضة بالحياة، فيُشعل فينا شعورًا عميقًا بالإمكانات والأمل الذي يتردد صداه بعمق في دواخلنا، فيتحوَّل هذا الفصل إلى مصدر إلهام لا ينضب، ويتفتح على الإبداع الذي يتجلى في الأدب والفن والموسيقى.
“الأرض تتحول إلى طفل يعرف القصائد”
يقول الشاعر النمساوي، راينر ماريا ريلكه: “لقد عاد الربيع. والأرض طفل يعرف القصائد”. وبالفعل، هذا ما نشهده لدى الشعراء والأدباء الرومانسيين كما الأصوات الأدبية المعاصرة، وهم يرددون صدى الربيع بعمق في عوالم الشعر والنثر. فيلتقط شعراء مثل ويليام وردزوورث جوهر الربيع بشكل جميل في قصيدته “سطور مكتوبة في أوائل الربيع”، حيث يتأمل العلاقة بين الطبيعة والروح البشرية. وتُثير ملاحظات وردزوورث عن الزهور المتفتحة والطيور المغردة شعورًا بالفرح والكآبة في آنٍ واحد، وهو ما يوضح كيف يُلهم الربيع استجابة عاطفية عميقة، فهو يكتب عن المتعة الموجودة في الطبيعة، لكنه يُلمّح إلى الحزن بشأن تأثير البشرية على العالم الطبيعي، وهذا ما يُبرز الثنائية الموجودة غالبًا في شعر الربيع.
وبالمثل، تجسّد قصيدة “الربيع” للشاعرة الإنجليزية من العصر الفيكتوري، كريستينا روسيتي، حيوية الموسم مع الاعتراف بطبيعته العابرة. فتصف كيف تنبثق الحياة في كل شيء حولنا، مؤكدة أنه “لا يوجد وقت مثل الربيع”، فتعمل صور البراعم المتفتحة والطيور العائدة التي ترسمها بوصفها تذكيرًا بلحظات الحياة العابرة، وتتخلل ذلك دعوة لتقدير الجمال قبل أن يتلاشى.
كما أن الجاذبية الجمالية للربيع هي سبب آخر في أنه مصدر إلهام للفنانين والكتَّاب على حد سواء، حين تخلق الألوان الزاهية والأزهار العطرة تجربة حسيّة تدعو إلى التعبير الإبداعي. في “الربيع المتوقد”، يصف الشاعر والروائي البريطاني، دي. إتش. لورانس، الربيع بشكل واضح بأنه “شعلة من النيران الخضراء”، فيستخدم صور نارية لنقل الحيوية القوية خلال هذا الموسم، فيستحضر تصويره هذا شعورًا بالدهشة والإثارة.
قوة الطبيعة في إلهام التغيير
وقريبًا من عالم الشعر، يمثّل الربيع في الأدب الشفاء وقوة الطبيعة في إلهام التغيير. ففي رواية “الحديقة السرية” من تأليف فرانسيس هودجسون بورنيت، تكتشف البطلة “ماري لينوكس” حديقة مخفية مهملة. وبينما ترعى الحديقة وتعيدها إلى الحياة، فإن ذلك يوازي تحولها من طفلة كئيبة وحيدة إلى شخصية نابضة بالحياة، بحيث ترمز الأزهار المتفتحة والخضرة إلى بدايات جديدة ونمو شخصي، وهو ما يوضح كيف يمكن للربيع أن يجدد الطبيعة والروح البشرية.
وفيما تدور أحداث رواية “غاتسبي العظيم”، للكاتب ف. سكوت فيتزجيرالد، خلال شهر الربيع، تُستخدم البيئة الخصبة لتعكس أحلام الشخصيات وتطلعاتها. فيشير وصول الربيع إلى بدايات جديدة والسعي لتحقيق الحلم الأمريكي. ولكن، مع تطور القصة تكشف الأحداث عن الجوانب الأكثر قتامة للطموح وخيبة الأمل، ويؤكد التباين بين جمال الربيع ومصائر الشخصيات النهائية على تعقيد الأمل والرغبة.
أمَّا في رواية “الصحوة” للكاتبة كيت شوبان، فيرمز الربيع إلى الصحوة واكتشاف الذات بالنسبة إلى البطلة “إيدنا بونتيلير”. وبينما تبدأ في التشكيك في المعايير المجتمعية واستكشاف رغباتها خلال شهر ربيعي مفعم بالحيوية، تعكس الصور الحية للزهور المتفتحة تحولها الداخلي. فيعمل الموسم بوصفه خلفية لسعيها إلى الحرية الشخصية، ويُسلِّط ذلك الضوء على العلاقة بين إحياء الطبيعة والصحوة البشرية.

في الشعر والأدب العربي
خلفية غنية للتعبير عن مشاعر الحب والجمال
في الشعر والأدب العربي على مرِّ العصور، كان الربيع بسحره وجماله خلفيةً غنية للتعبير عن مشاعر الحب والجمال. ففي قصيدته “ضحكَ الربيعُ إلى بكا الدِّيمِ” يقول ابن الرومي:
ضحكَ الربيــعُ إلى بُكــا الدِّيمِ وغـدا يُسَــوِّي النبت بالقـمَـمِ
من بين أخضــــرَ لابـسٍ كُمَـمًا خُضْــرًا وأزهـرَ غيـر ذي كُمَـمِ
فيعكس فيها جمال الربيع وتفاؤله، ويصوره كأنه كائن حي يضحك، يغمره شعور بالفرح والبهجة الذي يجلبه هذا الفصل الجميل. وفي البيت الثاني “وغدا يُسَوِّي النبت بالقمَمِ”، يشير الشاعر إلى كيف أن النباتات تنمو وتتساوى مع القمم، فيعكس التوازن الموجود بين العناصر المختلفة في الطبيعة.
كذلك يرسم البحتري صورًا شعرية غنية لوصف جمال الربيع، فيقول:
أتاكَ الربيعُ الطَّلقُ يختالُ ضاحـكًا من الحُسـن حتَّى كادَ أن يتكلَّمـا
وقد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى أوائــلَ وَردٍ كُـنَّ بالأمــسِ نُوَّمـا
أما الشاعر أمين نخلة، فيستدعي مشاعر الفرح والتجدد التي يحملها فصل الربيع ليستميل حبيبته لتعود إليه، فكأنه يستخدمه رمزًا للتغيير الإيجابي في الحياة، فيقول:
جــاء الربيــعُ وحرَّك الغُصْـــنا أينَ الربيـــعُ، وأيـنَ ما كُــــنَّا
عُودي، فقَدْ عــادَ الربيـعُ، وقَدْ عـادَ الحمــامُ، وقد تَعاتـبْنا!
وعندما استقبل أحمد شوقي الربيع، خصه بقصيدتين اثنتين، استهل الأولى بقوله:
آذَارُ أَقْبَــلَ قُمْ بِنَـــا يَا صَـــــاحِ حَيِّ الرَّبِيـــــعَ حَدِيقَــــةَ الأَرْوَاحِ
وَاجْمَعْ نَدَامَى الظَّرْفِ تَحْتَ لِوَائِهِ وَانْشُــــرْ بِسَـــاحَتِهِ بِسَاطَ الرَّاحِ
صَفْـوٌ أُتِيحَ فَخُذْ لِنَفْسِكَ قِسْطَهَا فَالصَّفْوُ لَيْسَ عَلَى المَدَى بِـمُتَاحِ
وَاجْلِسْ بِضَــــاحِكَةِ الرِّيَــــــاضِ مُصَفِّقًا لِتَجَاوُبِ الأَوْتَارِ والأقْدَاحِ
وقال في الثانية:
عَبْقَرِىُّ الْخَيَالِ، زَادَ عَلَى الطَّيْـ ….. ـفِ، وَأَرْبَى عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِهْ
ومن ناحية الوصف الأدبي، فقد وصف الأديب والشاعر العراقي من القرن الرابع عشر، بهاء الدين الإربلي، الربيع بأنه “حياة النفوس” و”بِشْرُ الزمن العبوس”، مشيرًا إلى أن الأرض ترتدي “حُلّة قشيبة جديدة خضراء” تسحر الناظرين.
أمَّا عباس محمود العقاد، فقال: “الربيع موسم الحب.. وحين يقترب تسري الحركة في عالم الأحياء كأنهم يتأهبون لعرس أو يتجملون ليوم مهرجان”. وكتب أحمد أمين عن “الربيع.. شباب الزمان”، قائلًا: “ما قيمة الحياة إذا اقتصرت على الماديات وحصرت نفسها في الخبز والملح ومضاعفاتهما، ولم تعبأ بجمال زهرة ولا تألق نجم، ولم ينبض قلبها بحب للجمال في جميع أشكاله”.
اترك تعليقاً