مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

مدن داخلية..

التسكع في المنامة وباريس ومينيابوليس

تأليف: غدير الخنيزي
الناشر: روايات (مجموعة كلمات)، 2024م

تُطبق الكاتبة والمهندسة المعمارية البحرينية غدير الخنيزي، مفهوم “التسكع” كما تُعَرِّفه حرفيًّا في هذا الكتاب. فهذا الفعل يعني، وفقًا لرؤيتها، وهو بالمناسبة أحد المعاني التي يحملها في اللغة، قضاء الوقت بلا هدف محدّد تجوّلًا في الشوارع والأماكن العامة، لكنها تضيف له بُعدًا شخصيًّا كذلك، إذ تعدُّه امتدادًا لتخصصها وممارسة عملية له.

أبطال التسكع الرئيسون هنا ثلاث مدن، هي: المنامة وباريس ومينابوليس، وهي ثلاثة فضاءات لها طابعها الخاص شكَّلت، في سياق سرد الرحلة التي تمكَّنت منه الكاتبة، منبعًا للتأمل فيما يحمله التجول في الأمكنة من دلالات متباينة في إثراء العين التي تشاهد، والذهن الذي يستوعب، والذاكرة التي تحتفظ وتقارن.

والتسكع في هذه المدن الثلاث، كما نفهم من الكتاب، يتجاوز فكرة إعادة اختبار للعلاقة مع أماكن مألوفة، مدن الوطن التي تطوَّرت حياتنا على أرضها، وهي المنامة في حالة الكاتبة، وأماكن مختلفة وبعيدة تختلف الأسباب لزيارتها، مثل باريس ومينابوليس في سياق هذا العمل؛ ليشكِّل إطارًا لفهم الذات المتسكعة نفسها. فالرحلة الحقيقية، كما تكتب المؤلفة، “هي التي جرت بالداخل”، والتي تتخللها “مراحل متواشجة من تفكيك طبقات الذات التي التصق بعضها ببعض أو بالأمكنة التي عبرتها”. إنها محاولة لفهمٍ أعمق للمكانَين الخارجي والداخلي، عن الإنسان الذي يسعى إلى “فهم نفسه على الرغم من ضجيج الخارج”، وفهم العالم الذي يحيط به “على الرغم من ضجيج الداخل”؛ وذلك في محاولة تظل مستحيلة للتعرُّف على ما يخص سيرة الذات وما يعبِّر عن سيرة المدينة.

ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، خصصت المؤلفة الفصل الأول لحديث مُركز عن مفهوم التسكع، واقتفاء أثر “جيناته” المتأصل في بيئتها وعلاقتها مع والديها، ساعية في النهاية إلى تفصيل أحواله عمومًا بوصفه فنًّا يمزج بين المتعة والفضول. فالتسكع دون متعة سيتحول إلى حالة من التشرد وسيفقد جوهره. وكانت المنامة هي موضوع الفصل الثاني، وفيه تحكي الكاتبة علاقتها الوثيقة بالمدينة التي “نسجت عمرها بين الماضي والحاضر”، و”ترعرعت في كنف ضواحيها”، وتوضح كيف تُشكِّل المنامة لأهلها “منامتين متوازيتين”: واحدة حقيقية بسوقها وشوارعها المكتظة بالسيارات والمارة وبسكانها الجدد، ومدينة أخرى تستقر في مخيلة من سمَّتهم المناميين الذين يتكاثرون في مناطق البحرين كلها، لكن يحتفظون في ذاكرتهم بهذه المدينة غير المادية، وينتمون إليها في خيالهم.

ثم تنتقل الخنيزي في الفصل الثالث إلى باريس التي سجَّلت في كتابها انبهارها بتفاصيلها، وأكدت للقرَّاء، من واقع تسكعها بها، أنها قد انحازت إلى صفِّ من يقدرون لهذه المدينة جانبها الفاتن الذي يكشف عن عراقتها وجمالها، بعيدًا عمَّا يصيب آخرين من اكتئاب يتولَّد من اكتشاف حقيقة هذه المدينة بعيدًا عن كليشيهات الترويج لها بوصفها “شاعريّة”.

أمَّا الفصل الرابع والأخير من الكتاب، فقد جاء بعنوان “مينيابوليس.. مدينة العزلة الحالمة”، وفيه تروي غدير الخنيزي تفاصيل علاقتها المكانية مع هذه المدينة الأمريكية التي تقع في ولاية مينيسوتا، التي مكثت فيها ثمانية عشر شهرًا بغرض الدراسة، وتجربتها مع جسورها الزجاجية المعلقة التي تربط بين مباني المدينة وتعمل ممرات مشاة بديلة للشوارع والمعروفة بـ “جسور السماء” التي صارت، كما تؤكد، “جزءًا من هويتها الاجتماعية الجديدة”، في تلك الفترة التي خبرت فيها “اغترابًا” ولو كان مؤقتًا، يشعرك، على حد وصفها، بأنك “كائن وحيد مهما حاولت التظاهر بغير ذلك”.


مقالات ذات صلة

تأليف: مايكل ستريفينز ترجمة: خالد الشايع الناشر، نادي الكتاب، 2024م يُعيد هذا الكتاب النظر فيما يمكن عَدُّه من المُسلَّمات في ميدان البحث العلمي، مثل ضرورة الاعتماد على المنهج وما يعنيه من التقيد بمجموعة من الضوابط والقواعد التي تساعد العَالِم على البرهنة على أفكاره النظرية، والوصول إلى نتائج متماسكة في ميدان تخصصه. ومن هذا المنطلق، يمكن […]

تأليف: مارك كوكيلبيرج ترجمة: عبدالنور خراقي وعبدالرحيم فاطمي الناشر، خطوط وظلال، 2024م يبدأ أستاذ فلسفة الإعلام والتكنولوجيا بجامعة فيينا، مارك كوكيلبيرج، كتابه باقتباس السطور الأولى من رواية “المحاكمة” لـ”كافكا” المنشورة عام 1925م، التي أشارت إلى واقعة القبض على “جوزيف. ك” صبيحة أحد الأيام دون أن يرتكب خطأ ما، والذي سيُعدم لاحقًا بعد محاكمة افتقرَت إلى […]

تأليف: منيرة بن مصطفى حشّانة الناشر، يافا للبحوث والدراسات، 2024م يُقدِّم هذا الكتاب إلى المكتبة البحثية العربية، من منظور نوعي متفرد، مفهوم “الأجواء” محاولًا تأصيله والكشف عن مدلولاته المتنوعة من أجل فتح آفاق للعمل البحثي والنظري والتطبيقي في مجال الجماليات والإنسانيات، وذلك بعد أن لاحظَت مؤلفته أستاذة الجماليات والفلسفة المعاصَرة بجامعة تونس منيرة بن مصطفى […]


0 تعليقات على “التسكع في المنامة وباريس ومينيابوليس”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *