مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

رموز الربيع

من الزهور إلى قوس قزح

مهى قمر الدين

يقول الفيلسوف الأمريكي، رالف والدو إيمرسون، إن “الأرض تضحك في الزهور”. وبالفعل فإن أكثر ما تظهر هذه الضحكة من خلال الزهور المتفتحة في الربيع. ولذلك نجد أن الزهور هي الرموز الأكثر تمثيلًا لهذا الفصل الواعد. فلكل زهرة رمزيتها الفريدة في كل ثقافة على حِدة، وهو ما يُسهم في السَّرد العام للتجدّد في فصل الربيع.

 تشمل أزهار الربيع الشائعة التوليب والنرجس وأزهار الكرز والزنابق، والأقحوان والخزامى. فمثلًا، زهور التوليب تمثل في هولندا الحب المثالي، بينما ترمز زهور النرجس إلى الأمل والبدايات الجديدة. أمَّا زهور الكرز، التي أكثر ما يُحتفل بها في الثقافة اليابانية، فترمز إلى الجمال والتجديد والطبيعة العابرة للحياة. وهناك الزنابق بعطرها الغني وعناقيدها الملونة، التي تمثّل الفرح والعواطف الصادقة. كما تعمل الألوان والروائح النابضة بالحياة لأزهار الربيع على تنشيط الحواس، وغالبًا ما يُحتفل بها في المهرجانات والطقوس الدينية.

من جهة أخرى، تؤدي الحيوانات أيضًا دورًا حاسمًا في رمزية الربيع؛ إذ تخرج عديد من الأنواع من السبات أو تهاجر مرة أخرى إلى أكثر المناخات دفئًا. ولطالما ارتبط الأرنب، وخاصة “أرنب مارس”، بالخصوبة بسبب عاداته التكاثرية الوفيرة خلال فصل الربيع. كما تعدُّ طيور العندليب رمزًا للربيع؛ فخلال هذا الموسم يعود كثير منها إلى المناطق المعتدلة. ولذا، أصبحت رؤية طائر العندليب مرادفًا لنهاية الشتاء وبداية الربيع. ولا ننسى أيضًا الفراشات التي ترفرف من زهرة إلى أخرى بمنظرها الجميل وألوانها الزاهية، ومما يعزِّز رمزيتها دورة حياتها نفسها التي تعدُّ بمنزلة استعارة مؤثرة للتغيير والنمو.

المطر المعتدل وقوس قزح


يعدُّ المطر وقوس قزح رمزين قويين للربيع، ويستحضر وجودهما خلال هذا الموسم مشاعر التفاؤل وجمال التحوُّل.

فأمطار الربيع ضرورية لنمو النباتات والزهور المستأنسة منها والبرية، وهي ترمز إلى التطهير والتجديد والدور الحيوي الذي يؤديه الماء في دعم الحياة. ويكثر الحديث في اللغة الإنجليزية عن “أمطار أبريل” المنعشة، فيُقال إن “أمطار الربيع تجلب أزهار مايو”. ويُسلِّط هذا المثل الكلاسيكي الضوء على الفكرة القائلة “إن الأشياء الجيدة غالبًا ما تتبع الأوقات الصعبة”.

ففعل المطر الذي يغسل بقايا فصل الشتاء يمثّل بداية جديدة، كما أنه يجسّد فكرة “غسل” المشكلات والمصاعب، ويفسح المجال لفرص جديدة. ويكون جانب التطهير هذا مؤثرًا بشكل خاص عندما تستيقظ الطبيعة من سباتها الشتوي.

بوجه عام، وفي معظم المناطق المدارية المعتدلة، يكون مطر الربيع لطيفًا غير عاصف، فتظهر أحيانًا أقواس قزح بعد زخاته، وترمز إلى المزيج المتناغم بين المطر وأشعة الشمس، فيعمل هذا المزيج بوصفه تذكيرًا بأن الجمال غالبًا ما يتبع الشدائد، ويجسّد فكرة أن أكثر الأيام إشراقًا تأتي بعد التحديات.

وفي ثقافات مختلفة، يُنظر إلى أقواس قزح على أنها فأل حسن الحظ والأمل. ففي الأساطير اليونانية، ارتبطت أقواس قزح ببطلة أسطورية هي “إيريس”. وفي الحضارة الإسكندنافية، يمثل قوس قزح جسر “بيفروست”، وهو جسر مشتعل يربط بين الأرض والعالم الماورائي. أمَّا في التقاليد الصينية، فيُنظر إلى أقواس قزح على أنها رموز للتوازن والثنائية، وتمثل الانسجام بين المتناقضات مثل الين واليانج، ويُنظر إليها على أنها جسور تربط بين السماء والأرض، وتؤكد الترابط في العالم الطبيعي.

من أصداء الربيع في ربوعنا
ورد الطائف

إذا كانت الزهور من بين الرموز التي تمثّل الربيع في مختلف أنحاء العالم، مثل أزهار الكرز أو الساكورا التي يُحتفل بها في الربيع في اليابان وكوريا الجنوبية، وأزهار التوليب في هولندا؛ فإن الورد الطائفي هو الورد الأكثر رمزية لفصل الربيع في بلادنا.

ففي قلب مدينة الطائف، المدينة الحالمة على جبال الهدا والمطلة على تهامة الحجاز، تنمو ورود حمراء عطرة تكون عادة من نوعين اثنين هما: الورد القاني والورد الفاتح، والنوع الثاني هو الشهير باسم الورد الطائفي.

الورد الطائفي هو ورد من نوع خاص ينتمي إلى عائلة الورد الدمشقي، ويتميز بخصائصه المميّزة ورائحته الغنية شديدة التركيز. كان أول من أدخله إلى المنطقة العثمانيون أثناء غزوهم لشبه الجزيرة العربية في القرن السادس عشر عندما جلبوا معهم وردة “Rosa damascena trigintipetala”، التي تعرف في العربية بالوردة الدمشقية ثلاثية البتلات، والتي يُعتقد أنها وثيقة الصلة بوردة كازانليك البلغارية. وقد وفر مناخ الطائف الفريد، على ارتفاع 2000 متر فوق مستوى سطح البحر، الظروف المثالية لزراعة هذا الصنف العطري الجميل. فراحت هذه الورود تُزرع بكثرة، ليس فقط لجمالها، ولكن أيضًا لزيوتها الأساسية التي أصبحت مطلوبة بشدة في صناعة العطور والطب التقليدي.

خصائص هذه الوردة

تتكوّن كل وردة من الورد الطائفي عادةً من 30 بتلة، غنية بالزيوت الأساسية، وهو ما يعزِّز رائحتها الزكية. وفي ذروة المحصول؛ أي في الأسبوع الثالث من شهر أبريل تقريبًا، يمكن أن تُتوّج شجيرة راسخة، قد يصل ارتفاعها إلى 150 سم، بما يصل إلى 200 وردة كل صباح. ويمكن أن تنتج شجيرة ناضجة تمامًا، يُراوح عمرها بين 15 و20 عامًا، وتُسمَّد بشكل جيد كل شهر ديسمبر، أكثر من 3000 وردة خلال الموسم. وفي فصل الربيع، يتكشف عن ذلك مشهد ساحر من حقول مطلية بالورد الأحمر ينتج عنه عبق فريد يملأ المكان، كان قد وصفه الشاعر سعود بن عبدالله في أوبريت “مولد أمة” عام 1989م، في بيت شعري جميل، حيث قال:

غرد القمري وفي الطائف شدا

والشفا تضحك لها ورود الهدا

مهرجان الاحتفاء بها

لكل هذه الأسباب، ولأهميته التاريخية والجمالية والثقافية والاقتصادية، تقرَّر في عام 2005م إقامة مهرجان ورد الطائف سنويًا في أبريل ومايو، بدعم من الهيئة العليا للسياحة. ويعدُّ هذا المهرجان حدثًا مهمًا يحتفي بهذا التراث الوردي، فيجذب إليه الزوار من أنحاء عديدة للمشاركة في أنشطة قطف الورود والاطلاع على الحرف التقليدية في جو تُضفي عليه رائحة الورد القوية عبيرًا رائعًا، وهو ما يبعث على الاسترخاء والهدوء.

ويُعدُّ هذا المهرجان فرصة رائعة للمزارعين والمنتجين المحليين للترويج لمنتجاتهم؛ إذ تشارك فيه أكثر من 860 مزرعة من مزارع الورد. ويتخلله وجود أكاليل وتيجان وأقواس من ورود الطائف في ترتيبات مختلفة، بينما تُزين الدلاء والسلال وباقات الورود وتُباع بسخاء. كما تُنظّم ورش عمل لتعليم الزوار كيفية صناعة العطور باستخدام زيت الورد الطائفي، وهو ما يوفر تجربة فريدة وممتعة. فضلًا عن عروض موسيقية وفنية تُقدم أثناء المهرجان وتعكس الثقافة والتراث السعودي، فيُضفي ذلك جوًا احتفاليًا على الفعالية.


مقالات ذات صلة

الربيع قُل “الربيع”، فتعصف في الذهن صورة الأرض الخضراء المزهرة، والنسيم العليل. ولكن الربيع أكثر من ذلك. فهو “شباب الزمان”، كما قال عنه أحمد أمين. وهو احتفال وتذكير بهيج بأن الحياة دورية ومتجددة باستمرار. كما أن جماله لا ينحصر فقط في الطبيعة المذهلة أو الأصوات المبهجة، ولكن أيضًا في الشعور العميق بالأمل. فعندما نشهد صحوة […]

إذا ما أخذنا درسًا من أسلافنا، فلا ينبغي لنا أن نعدَّ قدوم الربيع أمرًا حتميًا، بل ربَّما علينا إعادة النظر في أفعالنا التي تؤثر في التغيُّر المناخي، وتعطِّل إيقاع المواسم والتناوب الطبيعي للفصول، وذلك لتجنب وقوع ظاهرتين اثنتين باتتا من معالم فصل الربيع في مواقع عديدة من العالم. منذ مدة ليست ببعيدة برز مفهومان حديثان […]

للربيع وقع على نفوس البشر يجعلهم ينشرون الفرح والإيجابية في محيطهم. فمنذ آلاف السنين، تطلعت شعوب عديدة إلى فصل الربيع لتختار يومًا من أيامه ليكون “عيدًا”، أو مناسبة للاحتفال بكذا أو كذا. ومن هذه “الأعياد” ما كان على أساس ديني وثني، ومنها ما هو ذو جانب فلكي أو تاريخي أو أسطوري. فلماذا وكيف يرتبط الربيع […]


0 تعليقات على “رموز الربيع”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *