مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2025

جدلية الحضور الفاعل للبراند في عالم مُشتت!


جعفر حمزة

عندما كنتُ أعمل بفرع البحرين لوكالة عالمية تأسست في أمريكا عام 1896م؛ أي أن عمر خبرتها يزيد على الـ120 عامًا، كان مدار الحديث بين الفريق الإبداعي وفريق التواصل مع العملاء يحتدم، وقد نتفق وقد نختلف، إلا أن هناك شبه اتفاق على مقولة وكأنها “تميمة” للفريق الإبداعي، وهي “لا يهم ما الذي تقدمه، لأنه سيكون مدار وجهات نظر مختلفة، بل المهم أن يكون محل حديث الناس حينها ومصدر انتباههم وإثارة فضولهم”. يخرج من هذه المقولة “بريقٌ” شدّني وأثار فضولي، وكان من محاسن ذلك إطلاق العنان للأفكار دون قيد، ولكن!

لم تكن تلك العبارة ببعيدة عن عبارة ذكرها الكاتب والشاعر والمسرحي الإيرلندي أوسكار وايلد Oscar Wilde: “هناك فقط شيء واحد أسوأ من حديث الناس عنك، وهو عدم حديث الناس عنك”. تكشف هذه العبارة عن فلسفة تبدو شائعة وتحمل أبعادًا جدلية عميقة، وبالأخص إن وضعناها في سياق الحديث عن العلامات التجارية في وقتنا الحالي المتدفق تشتتًا وسرعةً، وقد أصبحت إثارة الانتباه قيمة عُليا وأُولية في محاولة محمومة لحجز ذلك المقعد في أذهان الجمهور المستهدف.

وأتذكر تلك العبارة التي تهتم بها الوكالة دومًا، وهي:

The most valuable thing you can ask from a consumer is their time.

“أثمن شيء يمكنك طلبه من المستهلك هو وقته”.

وهذا ما يستدعي إحضار منهجية (AIDA)، التي يكون أول خطوة فيها هي “شد الانتباه” Attention، ضمن رباعية هي:

Attention – Interest – Desire – Action.

انتباه – اهتمام – رغبة – عمل.

ونلاحظ أن التركيز القائم مع شدة المزاحمة في السوق هو صناعة الانتباه وتقديم الإثارة لأخذ ذلك الوقت من الأفراد. من أجل تثبيت المكانة، حيث تأتي عندما تكون أول مَن يجذب الاهتمام عند من تستهدف كما يذكر AlRies في كتابه مع Jack Trout بعنوان (Positioning, the battle for your mind) “التموضع.. معركة لعقلك”.

ويكون السعي، كما هو واضح وفقًا لعبارة أوسكار وايلد، هو الاحتفاء بالاهتمام بوصفه قيمة عليا معتبرة، كما يتوقع أن وجود حديث ولو سلبيًا أفضل من الغياب التام عن المشهد.

أنْ تُثير الجَلَبَة خيرٌ من صمتك، بغض النظر عن هذه الجَلَبَة إن كانت مرتبطة بقيمة إيجابية أو برسالة بناءة، المهم أن تُثير الغبار من حولك لتُعلم الآخر بأنك موجود. ولا عجب، فحتى السفاهة رسالة أيضًا، رسالتها التسطيح وتقديم ما تراه داعمًا لاستمرار نموها. ويبقى السؤال: هل كل إثارة جاذبة؟

يبدو أن انتهاج أسلوب صنع الإثارة يلزمه ثلاثية مهمة إن أردنا استدامة الأثر، وهي:

1   توافق الإثارة مع رسالة العلامة التجارية.

2   تناسب الإثارة مع الجمهور المستهدف للتفاعل واستمرار الأثر.

3   وضع الإثارة بوصفها تكتيكًا إستراتيجيًا للوصول إلى أهداف الرسالة.

يجب أن يكون حجز مكان خاص في ذهن جمهور العلامة التجارية هدفًا لها، بعد أن صنعت حضورها أولًا، ليكون بعدها الاستدعاء الذهني لها كلَّما دعت الحاجة أو الرغبة لأمر يكون تلبيته عبر المنتج أو الخدمة التي تقدمهما العلامة دون سواها. وألا يكون الهدف مجرد الحديث عنها، بل خلق حوار يستند إلى قيمها، ورسالتها، وما تضيفه لحياة جمهورها.

الاستغراق “الإثارة” لأجل الحديث عن العلامة، بغض النظر إن كان الحديث إيجابًا أو سلبًا، يؤصل الثقافة السطحية، حتى نصل إلى مرحلة التعود والمعايشة، بل التسابق على تناقل مثل هذه الأمور. وليس الحديث هنا عن الترفيه المُحبب، بل عن استلاب الذائقة بصريًا وفكرًا ومفهومًا، وذلك مما نراه عند كثير من المروجين، سواء كانوا أفرادًا أو شركات. وما يميز العلامات العظيمة ليس مجرد أنها موضوع حديث، بل إنها حديث له معنى وأثر. لذا، قد تكون مقولة الأديب الإيرلندي أوسكار وايلد جذابة أدبيًا، ولكن عند تطبيقها في سياق العلامات التجارية، لا بدَّ من الاستعاضة عن الهوس بالحديث بقيمة أعمق: “جعل الحديث عنك يستحق الاستمرار”.


مقالات ذات صلة

为阿拉伯国家最著名的文化杂志之

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.


0 تعليقات على “جدلية الحضور الفاعل للبراند في عالم مُشتت!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *