على امتداد جبال عسير الشاهقة، وبين السهول الخصبة والوديان العميقة والتلال الجبلية، تنبض محمية التنوُّع الحيوي في أبها بالحياة؛ لاحتضانها نباتات وحيوانات عديدة، بعضها لا يوجد إلا في المملكة العربية السعودية، وهو ما يجعلها كنزًا بيئيًا فريدًا. لكن هذا التنوُّع البيئي الثري يواجه تحديات كبيرة، تُراوح بين التغيُّرات المناخية والتوسُّع العمراني والصيد الجائر. ولحماية هذا الإرث الطبيعي، تُبذَل في المملكة جهودٌ كبيرة لإنشاء المحميات الطبيعية وإدارتها وتطويرها، ومن بينها هذه المحمية التي تستهدف الحفاظ على التوازن البيئي وإعادة توطين الأنواع المهددة.
النظام البيئي وحمايته في عسير
تمتد منطقة عسير على مساحة 81 ألف كيلومتر مربع. تتميزُ بتنوع جغرافي يبدأ من قمم جبال السروات، حيث تقع “السودة”، أعلى قمة جبلية في المملكة بارتفاع يتجاوز 3000 متر، مرورًا بسهول تهامة التي تعدُّ من أكثر الأراضي خصوبة، وصولًا إلى المناطق الصحراوية شرقًا، حيث تتغير الطبيعة لتتحول إلى سهول جافة ورمال صحراوية.
هذا التنوُّع الجغرافي يقترن بتنوُّع مناخي واضح، فتسود الأجواء المعتدلة والرطوبة في السهول الغربية، بينما تصبح درجات الحرارة منخفضة على المرتفعات وجافة وأعلى حرارة كلما اتجهنا شرقًا. هذه العوامل مجتمعة أسهمت في تشكيل بيئة تحتضن كثيرًا من الأنواع النباتية والحيوانية التي تكيّفت مع هذه الظروف المختلفة.
وبفضل التنوُّع الجغرافي والمناخي ينمو في عسير أكثر من 1560 نوعًا من النباتات الطبيعية. وتوجد فيها 80% من غابات المملكة، وهو ما يجعلها من أغنى المناطق من حيث الغطاء النباتي. ومن هذه النباتات، الأشجار المعروفة في المنطقة منذ آلاف السنين، مثل: السِّدر والعرعر والأثل والقرنفل البري والسُّمر والطلح (الأكاسيا) والأراك والقرم (المانغروف)، وغيرها الكثير. ووفقًا لتقرير نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس) في أكتوبر 2023م، كشف مسح أجرته مؤخرًا وزارة البيئة والمياه والزراعة أن منطقة عسير تضم 229 شجرة نادرة ومعمرة، يصل عمر بعضها إلى أكثر من 1400 سنة. وهذه الأشجار ليست مجرد جزء من الطبيعة، بل هي عنصرٌ رئيس في استقرار التربة وحفظ الموارد المائية، إلى جانب دورها في دعم الحياة البرية.

عُرفت منطقة عسير كذلك باحتضانها مجموعة واسعة من الحيوانات؛ إذ بحسب الدراسات التي أجراها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، يوجد في عسير 332 نوعًا من الطيور، من بينها طائر “العقعق العسيري”، الذي يعدُّ أحد أكثر الطيور ندرة في العالم، و”الحمامة الخضراء”، والبلبل، و”السنونو” الذي يُعرف محليًا باسم “الوغا”، إضافة إلى “النسر الأذون” الذي يؤدي دورًا أساسًا في التوازن البيئي. إلى جانب ذلك، هناك 27 نوعًا من الثدييات، و51 نوعًا من الزواحف والبرمائيات، بعضها مهددٌ بالانقراض بسبب التغيرات البيئية والأنشطة البشرية مثل الصيد والاحتطاب الجائرَين، وكذلك التمدد العمراني إلى مناطق كانت مسكنًا طبيعيًا للكائنات الحية.
وتُعد عسير موطنًا أصليًا لـ”النمر العربي”، الذي يُصنَّف تحت تهديد خطر الانقراض الأقصى، وفقًا لما ذكره تقرير نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس). ونظرًا لأهميته، أطلقت المملكة عدة برامج للحفاظ عليه، بما في ذلك إنشاء “الصندوق العالمي لحماية النمر العربي”. كما أقر مجلس الوزراء، في 18 يناير 2022م، تحديد العاشر من فبراير من كل عام يومًا وطنيًا للنمر العربي.
ويشكِّلُ التنوُّع الحيوي في عسير فرصة لسكانها للتفاعل مع الطبيعة والاستفادة من فوائدها الصحية والجمالية، فهو مصدَرُ إلهام ومساحةٌ للتأمُّل ومحرِّكٌ للإبداع. وهو ما ينعكس إيجابًا على الصحة النفسية والجسدية. وهذا ما منح عسير طابعها الفريد وجعل مدينة أبها تُعرفُ بـ”البهيَّة”؛ لما تتمتع به من بيئة طبيعية خلّابة. ولمزيد من الاطلاع على أثر التنوُّع الحيوي على حياة الإنسان، يمكن مطالعة مقالة عودة إلى الطبيعة وتنوُّعها الحيوي، التي نشرتها “القافلة” في العدد 707 (نوفمبر – ديسمبر 2024م).
محميَّةُ التنوُّع الحيوي في أبها

تُشرف أرامكو السعودية على 28 محمية للتنوُّع الحيوي، تقع على مساحة تتجاوز 1900 كيلومتر مربع، وأُحصِي فيها ما يقرب من 844 نوعًا من الحيوانات والنباتات، من بينها 26 نوعًا مهددًا بالانقراض.
وتعدُّ محمية التنوُّع الحيوي في أبها واحدة من أبرز هذه المحميات، حيث تقع تحت إشراف إدارة التوزيع في المنطقة الغربية، وتمتد على مساحة 31 كيلومترًا مربعًا شرق مدينة أبها، في بيئات طبيعية متنوعة تضم التلال الجبلية التي تظللها الغيوم طوال العام تقريبًا، والسهولُ المنخفضة الجافة، مع اتصالها بشبكة من الأودية والتكوينات الصخرية.
وتضم المحميةُ أكثر من 223 نوعًا من الكائنات الحية، منها 138 نوعًا من النباتات، بعضها لا ينبت إلا في مرتفعات عسير، و60 نوعًا من الطيور، و25 نوعًا من الثدييات.
التلال ملاذ الحياة البرية
تحتضن تلال المحمية كثيرًا من الطيور النادرة، مثل “حِجل فيلبي”، الذي يجد في هذه البيئة كل ما يحتاجه للبقاء على قيد الحياة، حيث توفر له النباتات والمياه غذاءً كافيًا، بينما يساعده لون ريشه المتناغم مع الطبيعة على التمويه والاختباء من الأخطار.
كما تعيش في هذه التلال قرود البابون، النوع الوحيد من القرود الأصيلة في المملكة، التي تتحرك في جماعات كبيرة وتقضي معظم وقتها في البحث عن الطعام بين الجبال والأودية، وقد تقطع أكثر من 15 كيلومترًا يوميًا. وتمثل المحمية موئلًا بيئيًا أصيلًا لهذه القرود، التي تعيش في تناغم مع طبيعتها، بعيدًا عن المناطق المأهولة بالسكان.
الحياة على ضفاف المجاري المائية الموسمية
تنحدر من التلال الجبلية شبكة من الوديان تتدفق عليها الأمطار صانعةً مجاري موسمية للمياه، هي مصدر الحياة لأشجار الأكاسيا ذات الجذور العميقة. وتعدُّ هذه الأشجار بمنزلة العمود الفقري للنظام البيئي في الوديان. إذ توفر هذه الأشجار الغذاء والمأوى لعدة أنواع من الحيوانات، من بينها طائر “نساج روبل”، الذي يتغذّى على بذورها الغنية، ويستخدم أغصانها الشائكة لبناء أعشاشه المعلقة، التي تعدُّ تحفة هندسية بحد ذاتها.

كما تجذب أزهار الأكاسيا الحشرات، التي تصبح بدورها غذاءً رئيسًا لأنواع أخرى من الطيور مثل “الدخلة”، المعروفة بسلوكها التعاوني في تأمين الغذاء لصغارها.
لكن هذه البيئة ليست هادئة تمامًا، فهي تخضع لحكم “الجربوع”، القارض الفريد الذي يتميز بحركته التي تشبه القفز، ويعيش في جحور معقدة يحفرها على ضفاف الوادي. وعلى الرغم من الصراعات التي قد تنشب بين الكائنات المتنوعة، فإنها جميعًا تعيش في نظام بيئي مشترك تحت ظلال الأكاسيا.
اقرأ القافلة: طيور نادرة في غابات عسير، من العدد 699 (يوليو – أغسطس 2023م).
الحياة في السهول الجافة
تمتد وديان المحمية نحو السهول الجافة شرقًا، وهناك تتغير المشاهد الطبيعية، حيث تنمو النباتات المقاومة للجفاف مثل “وردة الصحراء” و”العوسج”. وفي هذه السهول، تعيش طيور “التمير” الرائعة، التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الرحيق يوميًا، وهو ما يدفعها لقضاء أكثر من 80% من وقتها في البحث عن الأزهار الغنية به. وخلال أشهر الشتاء الجافة، توفر أزهار العوسج مصدرًا حيويًا لهذه الطيور، التي تردُّ الجميل من خلال تلقيح النباتات أثناء انتقالها من زهرة إلى أخرى.
كما تحتضن هذه البيئة الصحراوية “الوحر الصخري الملون”، وهو من السحالي التي لا توجد إلا في شبه الجزيرة العربية. وتعيش متكيِّفةً مع البيئة الجافة، حيث يتميز ذكورها بألوان زاهية من الفيروزي والبرتقالي، بينما تتمتع إناثها بألوان أكثر هدوءًا.
ليل المحمية

مع غروب الشمس، تظهر “الثعالب الملكية” التي تُعرف كذلك باسم “ثعالِب بلانفورد”، وهي من الأنواع النادرة التي تعيش في المملكة، والتي يزداد خطر انقراضها نتيجة فقدان موائلها الطبيعية. ويظهر ليلًا “الضَّبعُ العربي المخطط” القريب من خطر الانقراض، والذي يعدُّ من الحيوانات المفترسة النادرة في المنطقة. ويعدُّ تواجُده مؤشرًا مهمًا على نجاح جهود الحماية، وهو ما يعزِّز استمرار وجوده في المملكة.
كما تعيش أنواعٌ أخرى من الكائنات في المحمية، منها: “قِطُّ الرمال العربي” و”ابن آوى الذهبي” و”الذِّئب العربي” و”غرير العسل”، ومن الطيور “النسرُ الذهبي” و”عقابُ الثعابين قصير الأصابع” و”العقابُ الأسودُ الإفريقي” الذي لا يوجد منه إلّا أعدادٌ محدودة في المملكة.
دورُ المحمية في الحفاظ على التنوُّع الحيوي

انطلقت جهود أرامكو السعودية في إدارة محمية التنوُّع الحيوي في أبها بتكوين فريق من الباحثين لإجراء مسح بيئي على المنطقة بهدف حصر الكائنات التي تعيش فيها. واعتمدت المنهجية التي اتبعها الباحثون لإجراء المسح في بدايات عام 2015م، على تقنيات متعددة، حتى يكون المسح شاملًا والنتائج دقيقة.
اعتمد الفريق كذلك على مجموعة من الآليات المتخصصة، من بينها “مصيدة شيرمان” لتعقب الثدييات الصغيرة، و”فخ الكاميرا” الذي ساعد في تصوير الثدييات الكبيرة في نقاط مختلفة باستخدام مستشعرات الحركة والحرارة. كما استُخدمت الأشعة تحت الحمراء لالتقاط الصور ليلًا، بالإضافة إلى مستشعرات الموجات فوق الصوتية لتعقُّب الخفافيش.
وأجرى الفريق مسحًا شاملًا للطيور، واستُخدمت تقنية “المسح الليلي بالمصابيح اليدوية” لحصر البرمائيات والزواحف التي تنشط بعد غروب الشمس. ولم يقتصر المسح على الحيوانات فحسب، بل شمل أيضًا توثيقًا تفصيليًا للنباتات في مختلف أرجاء المحمية، لضمان تكوين صورة متكاملة عن التنوُّع الحيوي في المنطقة.
وقد عاد فريق حماية البيئة في أرامكو السعودية لإجراء مسح بيئي آخر في عام 2018م لحصر أعداد الكائنات الحية التي تعيش في المنطقة، والتأكد من أنواعها. يقول عضو الفريق وأخصائي البيئة، زياد حاوي: “أظهرت نتائج المسح أن المحمية تحتضن 23 نوعًا مصنفًا ضمن قائمة الكائنات ذات الأولوية القصوى للحماية في المملكة، وتشمل هذه الأنواعُ صَقرَ العُوَيْسِقِ والحِجل العربي، والوبر الصخري وكذلك الوَشَق”.
بناءً على الدراسات والمسوحات البيئية التي أُجرِيت على المنطقة، تشكَّلت رؤية إستراتيجية للتعامل مع المنطقة، أُقرِّت في العام 2019م ويجري العمل بها إلى اليوم. يعتمد أساسها على الحفاظ على البيئة والتنوُّع الحيوي، وهو ما يساعد على الحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي؛ وذلك عبر الحدِّ من قيادة المركبات خارج الطُّرق المعبدة، وتنمية الموائل الطبيعية بمبادرات مثل إنشاء برك مياه لخلق بيئة مناسبة لحياة كثير من الأنواع، وإصلاح البيئات الحيوية المتضررة، ودعم الجهود البحثية في المنطقة.
كما أُجريت دراسات “تقييم القدرة الاستيعابية” (Carrying Capacity) خلال العام الماضي 2024م، إذ يمكن الاستفادة منها مستقبلًا في وضع الخطط لإعادة توطين بعض الأنواع في المنطقة التي تعدُّ موطنًا أصليًّا لها، بعد أن هُجِّرت في وقت سابق أو انقرضت في هذه البيئة؛ لأنها لم تعد صالحة لها. وعلى رأس قائمة تلك الأنواع “الوعل النوبي”، الذي فُقِد من المنطقة التي كانت موطنًا له على مدى آلاف السنين.
الوعلُ النوبي والإنسان في عسير
كان للوعل النوبي ارتباط ثقافي وثيق بأهل الجزيرة العربية، وحضوره في معتقدات العرب ما قبل الإسلام كان طاغيًا، وتوّجته ممالك الجنوب رمزًا للخصب والمطر، كما عُثر على مجسماته في مواقع أثرية متعددة في المملكة.
يشير جوزيف باتريش، في كتابه “تشكُّل الفنَّ النبطي.. تحريم الصور المنحوتة عند الأنباط”، إلى أن الوعل النوبي هو أكثر الحيوانات تمثيلًا في النقوش القديمة بالجزيرة العربية، وهو ما يعكس عمق علاقته بالعرب في الجاهلية وما قبلها.
قبل أكثر من 2500 عام، كان للوعل النوبي مكانة خاصة لدى السبئيين؛ إذ ارتبط لديهم بإله القمر “إلمقه”، للتشابه بين تقوس قرنيه وشكل الهلال. ولشجاعته في تسلق الجبال، وتحمل ظروفها القاسية اتخذته مملكة سبأ شعارًا لها، حيث عُثر على عُملات معدنية نُقشَ عليها رأسه بموقع أثري قرب “معبد بلقيس” في مأرب.
وللوعل حضور في الشعر الجاهلي، كما عند امرئ القيس الذي قال مفتخرًا بعلاقته الوثيقة بـ “بني ثُعَل”، مادحًا إياهم بمنعة الجار:
تَبِيتُ لَبُوني بِالقُرَيّة ِأُمَّنًا
وَأسْرَحُهَا غِبًّا بِأكْنَافِ حائِلِ
بَنُو ثُعَلٍ جِيرَانُهَا وَحُمَاتُهَا
وَتُمْنَعُ مِنْ رُمَاة ِسَعْدٍ وَنَائِلِ
تُلاعِبُ أوْلادَ الوُعُولِ رِبَاعُهَا
دُوَينَ السماءِ في رُؤوسِ المَجادِلِ
لكن هذا الإرث لم يحمِه من أخطار الصيد الجائر والتمدّد العمراني، وهو ما جعله مهددًا بالانقراض بعد أن كان منتشرًا في أنحاء الجزيرة العربية والهلال الخصيب من الأردن إلى اليمن. وفي عام 1988م، قادت المملكة العربية السعودية جهودًا للحفاظ على الوعل النوبي بإنشاء “محمية الوعول” بالقرب من حوطة بني تميم، وهو ما أسهم في حمايته من الانقراض.
وتختزل قصة هذا الكائن علاقة الإنسان العميقة بالكائنات التي تشاركه الطبيعة. وهي علاقة تتجلَّى وتصير أكثر عمقًا وتنوُّعًا في جنوب المملكة، حيث يرتبط الإنسان بتاريخ مشترك مع كائنات مختلفة. ولضمان مستقبل مستدام لهذا التراث الطبيعي الثري يجب رفع الوعي تجاه البيئة.
اترك تعليقاً