مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2021

تيري موجيه

مستكشف كنوز الفن في جنوب المملكة


حسن آل عامر

عندما يجتمع حُبّ المغامرة ومحاولة تغيير نمط الحياة الروتيني والحظ الحسن، تتحقَّق تحوُّلات عديدة في حياة الإنسان. ويبدو أن هذا ما حصل للباحث الفرنسي تيري موجيه (1947 – 2017م)، الذي بدأ حياته مهندساً في مجال الحاسب الآلي، ثم انتهى باحثاً بارزاً في مجال الأنثروبولوجيا. فهو يُقر في كتبه التي ألَّفها عن الفنون وعلاقتها بالحياة الاجتماعية في الإقليم الجنوبي للمملكة العربية السعودية وخاصة مناطق عسير وجازان ونجران، أنه اكتشف في نفسه موهبة أخرى تجاوزت تخصصه الدقيق في مجال الحاسب الآلي، وهي عشق الفنون وتوثيق حياة الشعوب بالصورة والكلمة. فخرج بكتب “عسير غير المكتشفة” و“رجال الطيب ومدرجات خضراء في المملكة العربية السعودية” و“رُجال بحركة الفرشاة.. قرية استثنائية في المملكة العربية السعودية” و“صور من المملكة العربية السعودية.. الفن المعماري والزخرفة الجدارية في منطقة عسير” و“بدو المملكة العربية السعودية”.

احتفت وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة بالتعاون مع العبيكان للنشر بإعادة نشر كتب البروفيسور الفرنسي الراحل تيري موجيه التي رصد من خلالها مظاهر الثقافة والحياة في جنوب المملكة العربية السعودية خلال فترة الثمانينيات الميلادية، حيث وثّق تيري موجيه موروث المملكة التراثي والحضاري فوتوغرافياً، بمجموع صور بلغ نحو 10 آلاف صورة فوتوغرافية، جمعها وأصدرها في كُتبٍ تبرز الطراز العمراني الذي تميَّزت به المنطقة حينها، وإرثها التاريخي العريق الممتد لآلاف السنين، والحياة الاجتماعية وأبرز مظاهر العادات والتقاليد التي كانت تميِّز أهالي المنطقة.

يقول موجيه عن تجربته: “في عام 1980م، اتخذت قراراً غيّر مسار حیاتي، حين ذهبت إلى المملكة العربية السعودية للعمل على مشروع كان يُعدُّ فرصة العمر آنذاك، ويتعلَّق بنظام الشاهين الخاص بالدفاع الجوي لحكومة المملكة”. ويضيف: “أخبرني الأصدقاء المغتربون بعد وقت قصير من وصولي إلى المملكة بوجود شعب (بدائي) رصدته مروحية في أثناء رحلتها إلى أحد مراكز أبحاث التعدين عند سفح صدع محفوف بالمخاطر. كان هؤلاء مستقرين في مكان ما حول مدينة خميس مشيط، في منطقة تقطعها المضائق والأودية العميقة مع المخابئ التي يفضلون العيش بداخلها، فدفعني شغفي إلى اكتشاف سكان هذا الجرف النائي باتجاه الجنوب الغربي من خميس مشيط”.
يقصد موجيه هنا سكان قرية “الحبلة” قبل عام 1980م. والحبلة هو اسم الجرف الصخري الذي تحوَّل منذ أكثر من 30 عاماً إلى أحد أبرز مواقع الجذب السياحي في منطقة عسير، ويبعد عن أبها حوالي 50 كيلومتراً. فهناك تقع قرية في جوف الجرف الصخري، لم يكن من الممكن الوصول إليها قديماً إلا بالحبال للتنقل ونقل المؤن والبضائع. وفي عام 1979م، تم نقل سكانها إلى موقع حضري يحتوي على جميع الخدمات مثل المدارس ومركز صحي ومركز اجتماعي ومسجد. أما القرية القديمة التي تحدَّث عنها موجيه في مقدِّمة كتابه “عسير غير المكتشفة” فقد تحوَّلت إلى مزار سياحي يحتوي على عربات “التلفريك” والمطاعم ومواقع للتنزه وممارسة رياضة تسلُّق الجبال.
زار موجيه خلال عمله عدة مناطق في المملكة، واستقر في منطقة عسير، حيث تفرَّغ لدراسة فن العمارة والنقش فيها، ثم غادرها عام 1991م. إلا أنه عاد إليها زائراً في الأعوام 1994 و1996 و1998م، لمواصلة أبحاثه ودراساته حول تاريخ المنطقة وتراثها. وأتاحت له دراساته وأبحاثه بناء قاعدة بيانات مهمة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك رسم خرائط مفصلة توضح التوزيع الطبوغرافي لمنطقة عسير وتشتمل على المعالم والمواقع الجغرافية والتوزيع الإداري ومواقع القبائل.

فنون العمران في خيمة البدوي
بعد أن أفرد موجيه حوالي عشر صفحات من مقدِّمة كتابه “عسير غير المكتشفة” لمقالة الباحث ويليام فايسي عن أبرز المعالم الجغرافية والخلفية التاريخية لمنطقة عسير، انطلق في رصد تحليلي لأبرز أنماط البناء التقليدي الذي شاهده وقتها، وعرّج على التغيُّرات العصرية في البناء ومواده الأساسية. فكتب يقول إن المواقع المحيطة بمدينة أبها، إضافة إلى قرى وبلدات قبائل شهران وقحطان “تزدان بمنازلها الطينية الراسخة، وترتفع جدرانها في شرائط متراكبة من الطين المتلبِّد. وتكتسب هذه المنازل شكلاً هرمياً مبتوراً من خلال التدرُّج الطفيف من طبقة إلى أخرى، وكثيراً ما تتشابه الكتل المتعاقبة من الصخر الزيتي – الموضوعة على فواصل منتظمة ومتداخلة قليلاً – مع الطبقات البديعة للدروع العظمية للحيوانات البدائية، وتتميَّز بمقاومتها الفاعلة للتآكل من جرَّاء هطول الأمطار إلى جانب حجبها لأشعة الشمس. وعادة ما تكون الأساسات صخرية للتصدي لارتفاع الرطوبة أو الفيضانات”.

يرى كثيرون أن الطراز المعماري في نجران هو الأجمل في المملكة على الإطلاق، وتشهد البيوت المحصَّنة على الحس الجمالي والمعرفة بالمواد التي يصعب مضاهاتها.

وفي مجمل كتبه التي درست الموضوع نفسه باختلاف التفاصيل وعمق التحليل، يصل الباحث إلى أن “البيوت في القرى الصغيرة، أو مجموعات القرى التي تنتمي جميعها بشكل حصري لقبيلة أو أخرى، تصطف بشكل متقارب للغاية في أغلب الأحيان، لتشكِّل سوراً متسلسلاً كوسيلة للدفاع الجماعي والتصدي لأي أخطار، كما تكثر المآذن. وتندمج بعض هذه المستوطنات ببراعة في المناطق الريفية. لكن في بعض الأحيان، يود كل منزل أن يجذب الاهتمام ويتميَّز عن المنازل الأخرى، فيطلى بألوان زاهية تبرز الفضاء المحيط به”.
ويلاحظ موجيه اهتمام النساء بتزيين البيوت، خاصة مع اقتراب المواسم الدينية كشهر رمضان المبارك: “يتعاملن مع الجدران كأنها لوحات يعاد تشكيلها وإبراز أوجه الجَمَال فيها”. ويضيف: “تغمر الألوان كل شيء داخل البيت: الباب، الأرضية، والجدران، والسقف، والسلالم”. ويشير في موضع آخر إلى أن الألوان كانت تُصنع في العادة من أصباغ مستخرجة من أصل معدني أو نباتي، ولا تكلف إلا الوقت اللازم لاستخراجها.
لم تكن منازل منطقة عسير وحدها ما أبهر الباحث الفرنسي. فقد رأى في الفن المعماري بمنطقة نجران بُعداً آخر، وبنى رؤيته على شهادات آخرين لكنه لم يذكرهم بالاسم: “يرى كثيرون أن الطراز المعماري في نجران هو الأجمل في المملكة على الإطلاق، وتشهد البيوت المحصنة على الحس الجمالي والمعرفة بالمواد التي يصعب مضاهاتها. ويوظف المهندسون المعماريون مجموعة متنوِّعة من التصاميم والأشكال الرائعة التي يتناسب معها استخدام الطين”. ويعزِّز هذا الرأي بدليل رآه بنفسه، “إذا كانت بيوت قحطان قد وضعت مواد تجميل، فإن بيوت نجران تعرض للعالم وجهاً موشوماً. فالواجهات منقوشة بخطوط بيضاء، يجذب انتباهي تصميم من الجص الأبيض على شكل رأس رمح”.

صورة من كتاب “رُجال بحركة الفرشاة.. قرية استثنائية في المملكة العربية السعودية“.

وبحسه الفني، وجد موجيه علاقة ما بين طريقة بذر الحبوب للزراعة في جميع القرى التي زارها سواء في عسير أو نجران أو جازان وبين الفنون الإنسانية القديمة. فيصف باذر الحبوب بجمل سردية إبداعية: “يمارس الحركات نفسها، يحمل الآمال نفسها التي شكَّلت حافزاً لأسلافه، وينثر البذور باستخدام قمع من شجرة الأثل مثبت على المحراث. يبلغ طول الأنبوب حوالي 80 سم، بحيث تكون فتحته موازية لطول الرجل، وتسقط البذور في الأرض في شق مفتوح خلف شفرة المحراث” ويلفت إلى أن هذه الطريقة وردت في النصوص القديمة، كما تصوِّر لوحة آشورية من الألفية الثانية قبل الميلاد قطعة من هذه المعدات.
ولعل أكثر ما أثار الشهية المعرفية للتقني الفرنسي الذي تحوَّل إلى باحث مرموق عالمياً، هو أنه وجد في المملكة ما يبحث عنه من تنوُّع وثراء في مفردات الثقافة. فإضافة إلى بيوت الطين والحجر المزينة بالمرو “الكوارتز” في سروات عسير، استوقفه نمط معماري آخر في تهامة وسواحل البحر الأحمر حتى منطقة جازان، وهو “العشة” التي وصفها بـ “المسكن التقليدي للتهامي، والمصنوعة من فروع مليئة باللفائف التي تشكِّل جداراً دائرياً يعلوه سقف مخروطي أو بيضاوي الشكل مصنوع من قش الذرة الرفيع الذي ضُمّ إلى بعضه في شبكة جميلة من الحبال، بينما يُنصب عمود السقف كما لو كان مانع صواعق. ويتم الحصول على اللفافة من خلال مزيج غامض مكوّن من الطين وروث البقر والماء، أما خارج الكوخ، فلا يوجد لون آخر غير لون الرمال. ومن ناحية أخرى تجد مزيجاً من الألوان والزخارف النادرة في الداخل”.
ثم زادت دهشته عندما ذهب إلى توثيق مظاهر الحياة الاجتماعية لدى بدو الربع الخالي. فيؤكد في كتابه “بدو المملكة” أنه حتى الخيمة المقامة في وسط الصحراء ووسط كثبان الرمال تحظى من الداخل باهتمام كبير في النسج والتزيين، “في مجتمع يحرص كل الحرص على سمعته، فإن عملية النسيج الشاقة وغير المجزية ربما تعطي أفضل مثال على الاهتمام بالحِرفة اليدوية البدوية، حيث يجري في كثير من الأحيان إنتاج أشياء رائعة بأقل الوسائل الممكنة. إنه نوع فريد من النسيج.. وهو قابل للفك وسهل الحمل، حتى وإن كانت قطعة النسيج قيد التنفيذ، فقد صُنع بالأدوات المتاحة بين أيديهم، ويمكن استبدال أي جزء مفقود منه بكل سهولة، ويفرض هيكله الضيِّق الشكل المستطيل على جميع المنسوجات، مثل الشقة والرواق والسجاد وفواصل الخيام”.
وفي معظم كتبه يأسف موجيه لطغيان نمط العمارة الحديثة الذي يعتمد على مواد مثل الحديد والإسمنت، لكنه وجد إجابات “مقنعة إلى حد ما” ممن قابلهم وهي أن نمط البناء القديم أغلى تكلفة، إضافة إلى النقص الحالي في الأيدي المتخصصة والماهرة.

قصر الإمارة التاريخي (أبو السعود) في نجران.

عادات مثيرة
تُعدُّ الرقصات الشعبية من أبرز الدلالات الثقافية للمجتمعات، وهي ميدان بحثي مهم لعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع، ولذلك اهتم بها موجيه في جميع كتبه، ولحظ أنها ذات طابع عسكري. إذ رأى أن فن “الدمة” المعروف في منطقة عسير يرمز إلى الماضي القتالي للقبائل. كذلك يصف رقصة شعبية في قبيلة “ربيعة” بتهامة عسير قائلاً: ينهض الرجال فجأة ويغادرون الخيمة، فأسمع صوت نقر حيث يسحبون أقسام بنادقهم، وسرعان ما يبدأون الرقص مقلدین مراحل القتال، يتقدَّم المحاربون ببطء في ترتيب يشبه حركة المروحة، ويحملون بنادقهم على أكتافهم ويشيرون بها إلى السماء، يقلِّد العريس الشاب سلوك الانتصار لمحارب شجاع، ويبدو في أبهى حلَّة مرتدياً سترته البرتقالية الطويلة التي تناسب وزرته، بينما زُيّن شعره اللامع بسلك مزدوج مذهَّب، يسحب سيفه ويمسك في يده اليسرى درعاً جلدياً (درقة) بحجم طبق. يبدأ بطل الحفل في الرقص، وفجأة، يقفز إلى الأمام مثل النمر، ويغادر اثنان من المحاربين المجموعة للانضمام إليه، ويلوِّحان ببندقيتيهما ويدورانها، وبعد ذلك يتوقفان ويجثوان على ركبتيهما، ويحدِّدان هدفاً ثم يصوِّبان الرصاص على عدو وهمي”.

هذا العمود الرائع والنادر جداً، المصبوغ بألوان طبيعية، عثر عليه المؤلف وقد كان على وشك الانهيار (رجال ألمع). الصورة من كتاب “صور من المملكة العربية السعودية.. الفن المعماري والزخرفة الجدارية في منطقة عسير“.

تخلص موجيه في كثير من كتبه من اللغة الأكاديمية التقليدية في دراسة المجتمعات، متبعاً أسلوب السرد الأدبي البسيط الذي يستطيع فهمه أي قارئ. ويبرز هذا في وصفه لمظاهر الاحتفال بالعيد في تهامة عسير، حيث يذكر أنه “في فجر يوم العيد، يرتدي الجميع أفضل ملابسهم، ويضع الرجال وشاحاً مصبوغاً بالنيلة مربوطاً على الكتف الأيسر. إن هذا النسيج يربكهم، لكنه يسهم في جمالهم، يلتف أيضاً عبر الصدر وعلى الجزء العلوي من الرأس، حيث يتخذ شكلاً مائلاً غير مستقر، وعلى الكتفين وحول الساقين وفي الحزام. أما الأثواب التي تمَّت حياكتها للتو، فتبدو لامعة ومتكلفة. تفرك النساء وجوههن بالنسيج لجعلها زرقاء، ويتم قص شعر الأولاد غير المختونين بحسب العُرف الخاص بتهامة، بحيث يكون قصيراً في الأمام وخصلة شعر في الخلف. كما تبدو الفتيات الصغيرات مسرورات وهن يرتدين قطعة قماش مطرَّزة مصنوعة في الهند. ويصعد الرجال إلى سياراتهم ويختفون، فهل نسوا أننا هنا؟ مضت ساعة، ولا شيء جديد حتى الآن. وفي غضون هذا، قاموا بتوزيع البرتقال الذي كان يتحوَّل إلى اللون الأزرق بسرعة عندما يلمسونه بأيديهم المصبوغة بالنيلة الزرقاء.

تهامة و”رجال الطيب”
بدأت رحلة موجيه في تغيير الصورة التي تخيلها الغرب عن المملكة في عام 1997م، حيث يؤكد في كتابه “رجال الطيب” أن الصور القادمة من المملكة كانت تزخر بالمناطق الصحراوية، وأنها تشكّل الجزء الأكبر من المشهد السعودي، لذلك كانت المنطقة الجنوبية الغربية هي الأثيرة لديه، كما قال نصاً “فمنذ الوهلة الأولى برزت هذه المنطقة في شبه الجزيرة العربية القاحلة كحالة خاصة”.
امتدت رحلة موجيه الاستكشافية على طول محور الطائف – نجران، وهو – كما يقول – أكثر المسارات تميّزاً في المملكة من حيث المعمار. لكن ما جذبه أكثر هم سكان تهامة قحطان وعسير الذين وصفهم بـ”رجال الطيب”. ويرى أن ما يسترعي الانتباه، أن مناخ هذه المنطقة لا يجذب الأجانب المقيمين في المملكة والمواطنين الذين يعيشون في الهضاب العالية عموماً، ومع ذلك، فإنها تؤوي هؤلاء “السكان الأصليين المولعين بالعطور والزهور، والذين جذبوا انتباهنا مثلما جذبوا النحَّات الفرنسي شارل تاميزييه والرسام البريطاني إدوارد كومب في عام 1835م، ثم الرحَّالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر في عام 1946م”.
وتعود عبارة “رجال الطيب” التي ذكرها موجيه إلى إعجابه بطريقة تزيين أهالي تهامة رؤوسهم بالنباتات العطرية التي تُنسج محيطة بالرأس وعلى الشعر الكثيف غالباً.

في عمق الربع الخالي
“ما بين الأرض المجدبة والسماء القاتلة يتحدَّى هؤلاء الرجال أشعة الشمس الحارقة في الصحراء طوال حياتهم.. ولأن الصحراء لا ترحم، يضطر البدو إلى السير مع التيار، فيرحلون مثلما تفعل الطيور المهاجرة”، بهذه العبارة يصف موجيه بدو الربع الخالي الذين درس بعض طقوسهم الحياتية وسرد رحلاته تلك في كتابه “بدو المملكة العربية السعودية”، ثم يعترف أن هذه الصحراء القاسية أكسبت البدو قوة وحكمة، “على أعتاب الخيمة، يجلس شيخ جليل يفيض بالحكمة التي أكسبته الصحراء إياها في مواجهة الفضاء الشاسع، لم يكن بحاجة إلى احتذاء نعال؛ لأن قدميه صارتا قاسيتين بسبب المشي لمسافات طويلة”. ويصل إلى نتيجة أجمع عليها كل الباحثين قبله وهي “مع أن البدو يعيشون بوسائل مادية محدودة للغاية، إلا أن سخاءهم لا حدود له. فالعرب بصفة عامة، والبدو بصفة خاصة، يشتهرون بكرم الضيافة”.
لكن توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، أحدث تحوُّلات مهمة رصدها موجيه في نمط حياة البدو، حيث يورد قصة أحد كبار السن الذين التقاهم في الربع الخالي، فيقول: “تلمس الشيخ الجليل ذقنه بعدما تذكر أيام البطولات، كما لو أنه يريد أن يعود إلى ذلك الزمن الذي انتهى.. اعتقدنا أنه ربما رجع بذاكرته إلى زمن الغزوات والغارات على المخيمات والاستيلاء على السلع والماشية في العصور الغابرة قبل حكم آل سعود الذي وضع حداً لهذه الغارات القبلية… أما الآن فقد ولَّى عهد الغارات بالتزامن مع تأسيس المملكة العربية السعودية، وقيام ابن سعود بوضع حد لهذه الممارسات”. لكن الأمر لم يقتصر على هذا، فقد امتد الأمن والرخاء الاقتصادي إلى الرمال القاسية. ويشير هنا الباحث إلى أن الخيام أصبحت مجهَّزة بجميع وسائل الراحة الحديثة، “إنه لأمر غريب أن نرى خيمتهم المصنوعة من المشمع وفيها المولد الكهربائي والتلفاز والمبرد، إن أشياء كهذه غير عادية، فقد مضى وقت طويل على العهد الذي كانوا فيه يستغنون عن كل ما هو زائد عن حاجتهم، فهؤلاء البدو الأثرياء الذين يمتلكون الشاحنة لا يتردَّدون في اللجوء إلى مزايا الحضارة لكي يوفِّروا بداخل خيمتهم وسائل الراحة المتاحة داخل المنازل الحضرية”.

بيت طيني تقليدي تغطيه الألواح البارزة، ويحمل لمسة عصرية تظهر في الجدران المطلية والنوافذ المخططة باللون الأحمر. الصورتان من كتاب “صور من المملكة العربية السعودية.. الفن المعماري والزخرفة الجدارية في منطقة عسير“.

“رُجال” بحركة الفرشاة
في عام 1996م، ألقى تيري موجيه محاضرة في معهد العالم العربي في باريس مرفقة بشرائح حول التراث العمراني في عسير. وحينها تفاجأ كما يقول في كتابه “رُجال بحركة الفرشاة” بمداخلة من أحد الحضور العرب الذي رفع صوته مشككاً في صحة المعلومات التي نقلها موجيه، وجادل هذا المشارك العربي بأنه جاب السعودية ولم يشاهد قط مثل هذه التكوينات الرسومية، واستخلص المتحدث “أنه لم يكن من الممكن أن تنضج – هذه الإبداعات – في محيط التفكير المحدود للعالم الريفي.. وأنها في الواقع نتاج فنانين مأجورين” كما قال.
ربما كانت هذه الحادثة وغيرها من أهم أسباب إصرار موجيه على دراسة فن العمران وتزيين المنازل في عسير حتى حصل على الدكتوراة في هذا المجال من مدرسة العلوم الاجتماعية في باريس.

امتدت رحلة موجيه الاستكشافية على طول محور الطائف – نجران، وهو – كما يقول – أكثر المسارات تميّزاً في المملكة من حيث المعمار.

ففي كتابه “رُجال بحركة الفرشاة” درس فن تزيين المنازل في منطقة عسير المعروف بـ “القَط”، وخاصة في قرية “رُجال” بمحافظة رجال ألمع، معتمداً على النظريات الغربية في كثير من الأحيان. وبدأ دراسته بما وصفه بـ”عمود رُجال الشهير”، وهو جدار بارز داخل المنازل منقوش بـ”القَط” يعرف محلياً بـ “البَتَرة”. فاستهل الحديث عنه بعبارة للفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا يقول فيها: “إذا كانت أجمل اللوحات التي رأيتها هي بعض السجادات الفارسية، فإن أجمل السجادات السعودية التي رأيتها هي الواجهات المطلية لأعمدة قرية رجال”.
ويشير الباحث إلى أن العمود المسند إلى أحد الجدران يأخذ شكل كتلة ذات قاعدة مستطيلة من أسس حجرية، وهو يستخدم لزيادة امتداد الدعامة الرئيسة، إضافة إلى البُعد الجمالي للمنزل. وفي تحليله للأبعاد الجمالية لـ”البترة” يقول: “يُعدُّ العمود بزخارفه قطعة نسيج هائلة وغامضة وساحرة ذات نقوش تسر الأعين. فاستعراض العمود من خلال مظهره الزخرفي يعني إبراز العلاقة بين الديكور ودعامته. وإذا اعترفنا بصلة القرابة بين البيت والمفروشات؛ حيث يحافظ كلاهما على علاقات التشابه البنيوي، فإن قانون فلوغل، الذي ينص على أن خلق عنصر زخرفة ما إنما يكون لإخفاء الدور الفعلي لإحدى المفروشات، ينطبق على العمود.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن موجيه رصد بدقة وموضوعية كثيراً من الظواهر الاجتماعية. وإن رأى البعض شيئاً من المبالغات أو الأخطاء في بعض التفاصيل، فإن ذلك يبقى أقل شأناً من أن ينتقص في شيء من أهمية ما قدَّمه موجيه للتراث الثقافي والفني في المملكة.


مقالات ذات صلة

التحول الكبير في أفريقيا، حيث تعرَّف الأفارقة على فنون وتقنيات وإبداعات لم يألفوها، وظهرت اللوحة الفنية، التي كانت أعجوبة حيَّرت العين الإفريقية.

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]


رد واحد على “تيري موجيه”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *