كان تطوُّر المراكب البحرية بحد ذاته رحلة رائعة للعبقرية الإنسانية تعكس الطموح والقدرة على التكيف مع البيئات المختلفة وتلبية الاحتياجات الاجتماعية المتغيرة، ولكنه كان تطوُّرًا بطيئًا، تدلُّ على ذلك رسومات المراكب المسجلة على الألواح الطينية والحاويات الأثرية منذ عام 4000 قبل الميلاد، ونفهم منها أنها تشير إلى مدى بطء تطورها على مدى القرون، واستمرار ذلك حتى قبل حوالي 150 عامًا مع دخول الدفع بالبخار إلى عالم القوارب والسفن. ويؤكد هذا الأمر جوزيف غريبونز، في كتابه “القوارب الخشبية” (1994م)، فيقول إنه: “منذ الزمن الغابر حتى يومنا هذا، لطالما كانت القوارب الخشبية متشابهة في كثير من الأماكن حول العالم؛ لأنها تتشارك في المزايا الأساسية نفسها، فهي يجب أن: تعبر المياه، وتكون مدببة في المقدمة، لها قدرة على نقل حمولة معينة وتتميز بالثبات، كما أنها يجب أن تكون واسعة في الوسط؛ ولكي تطفو يجب أن تكون مقاومة للماء إلى حد معقول”.
بدأت القصة قبل نحو ستة آلاف سنة، عندما خاض البشر الأوائل أوَّل مغامرة على الماء باستخدام طوافات بسيطة مصنوعة من جذوع الأشجار وحزم القصب، فسمحت هذه السفن البدائية للمجتمعات بعبور الأنهار والبحيرات، وفتحت فرصًا جديدة للصيد والتجارة والنقل. ومن ثَمَّ، تقدَّم المصريون القدماء في بناء القوارب من خلال صناعة قوارب البردي للملاحة في نهر النيل، التي أصبحت ضرورية للتجارة والتواصل مع المناطق المجاورة. وبنت شعوب بلاد ما بين النهرين قوارب خفيفة مستديرة مصنوعة من القصب المنسوج وجلود الحيوانات؛ لتسهيل النقل والتجارة على طول نهري دجلة والفرات.
الحضارات القديمة: الفينيقيون والبولينيزيون والإغريق والرومان والفايكينغ
بينما كان السومريون يطوِّرون سفنهم التي أوصلتهم بمحاذاة الشواطئ إلى وادي السند شرقًا، كان الفينيقيون يخوضون غمار البحر الأبيض المتوسط غربًا. إذ أدَّوا دورًا مهمًا في دفع حدود الملاحة البحرية من القرن الثاني عشر إلى القرن السادس قبل الميلاد، فطوروا سفنًا خشبية قوية تُعرف باسم “القوادس” أو “القوارب الشراعية” التي كانت تحتوي على أشرعة وصفوف متعددة من المجاديف. وفي المحيط الهادئ، كان للبولينيزيين إنجازات ملحوظة في الملاحة البحرية وتصميم القوارب، فبنوا زوارق مزدوجة الهيكل، قادرة على تحمل الرحلات الطويلة، وذلك من خلال تقنيات الملاحة الاستثنائية التي اعتمدوا عليها، المرتكزة على ملاحظاتهم في عِلم الفلك ومعرفتهم بالتيارات المحيطية وهجرة الطيور.
كما حقَّق كل من الإغريق والرومان تقدُّمًا تقنيًا كبيرًا في تصميم القوارب، فإضافة إلى السفن التجارية، طوَّر الإغريق السفينة ثلاثية المجاديف (باليونانيةtriērēs )، وهي سفينة حربية مدمِّرة كانت تُبحر في البحر الأبيض المتوسط، وبفضل سرعتها وقدرتها على المناورة ووجود كبش برونزي في مقدمتها كانت تستطيع إغراق سفن العدو؛ فمكَّنت أثينا من بناء إمبراطوريتها البحرية والهيمنة على بحر إيجة في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد استوحى الرومان من تقنيات بناء السفن اليونانية، وتبنوا تصميمًا يُعرف بـ”القوادس”، وصقلوها بشكل أكبر، فطوّروا طُرزًا أخرى من السفن مثل “الكورفوس”، المزود بجسر ذي مسامير يمكن إسقاطه على سفن العدو، والاشتباك معها بسهولة أكبر.
أمَّا الفايكنغ، فقد اشتهروا برحلاتهم البحرية واستكشافاتهم من القرن الثامن إلى الحادي عشر الميلادي، واستخدموا سفنًا طويلة شهيرة أدَّت دورًا مركزيًا في بعثاتهم وغزواتهم وأنشطتهم التجارية. فكانت سفنهم الطويلة أنيقة بتصميمها وهيكلها المرن. وكانت تعمل بالمجاديف والأشرعة، وهو ما سمح للفايكنغ بالإبحار في الأنهر والمياه الساحلية وحتى المغامرة عبر البحار المفتوحة.
التطوُّرات في العصور الوسطى وعصر النهضة
بوجه عام، شهدت العصور الوسطى وعصر النهضة تطورات كبيرة في تصميم القوارب وبنائها، مدفوعة بالثقافات البحرية العربية والصينية والأوروبية. وقد أدَّت هذه التطورات إلى توسيع إمكانات الاستكشاف البحري والتجارة والتبادل الثقافي، وهو ما ترك أثرًا دائمًا على مسار التاريخ البشري.
في العصور الوسطى، قدَّمت الحضارة العربية مساهمات كبيرة في تصميم القوارب والملاحة، وخاصةً من خلال تطوير مراكب “الداو”، التي كانت عبارة عن سفن شراعية تتميز بأشرعتها الطويلة المميزة، التي سمحت بالملاحة بكفاءة ضد الرياح السائدة. كما مارست دورًا حاسمًا في شبكات التجارة العربية، عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر، ولا سيَّما أنها كانت متعددة الاستخدامات، وقادرة على حمل البضائع والركاب وحتى الماشية. وقد انتشر تأثير الثقافة البحرية العربية وتصميم سفن المراكب الشراعية في جميع أنحاء المحيط الهندي، من شرق إفريقيا إلى الهند وجنوب شرق آسيا. وحتى اليوم، لا يزال التصميم التقليدي وخطة الأشرعة للمراكب الشراعية مستخدمَيْن في أجزاء عديدة من العالم.
سفن الجنك الصينية: مدن مستقلة في حد ذاتها
في حوالي عام 1100م، بدأ الصينيون في بناء ما يُعرف بـ”الجنك”، وهي سفن شراعية مصنوعة من الأخشاب خفيفة الوزن، مع قاع مسطح وأعمدة من الخيزران، تتميز بحجرات محكمة الغلق ضد الماء، وكانت تُدار باستخدام دفات للتوجيه. أمَّا استخدامها، فكان للتجارة ولأغراض حربية أيضًا. وبالمقارنة مع السفن الأوروبية، آنذاك، كانت تلك السفن أكثر تقدُّمًا وأكبر حجمًا، حيث بلغ طول بعض سفن الجنك 150 مترًا، وكانت تحتوي على تسع صوارٍ. والجدير بالذكر أن الرحالة العربي ابن بطوطة، في القرن الرابع عشر، أُعجب بهذه السفن لعظمتها وكبر حجمها، ووصفها بأنها مدن مستقلة في حد ذاتها.
سفن الاستكشاف الأوروبية بما في ذلك سفن الكارافيل والغاليون
خلال عصر الاستكشاف، حقَّقت الدول الأوروبية تقدُّمًا إضافيًا في بناء السفن، وهو ما مكَّنها من القيام برحلات طموحة للاستكشاف والتجارة، مثل سفن الكارافيل الصغيرة نسبيًا التي اجتمعت فيها الأشرعة المربعة واللاتينية (المثلثة)، وهي ذات دفة مثبتة في المؤخرة، ما يسمح بزيادة التحكُّم والقدرة على المناورة. وكانت سفن الكارافيل السفن المُفضَّلة لمستكشفين من أمثال كريستوفر كولومبوس وفاسكو دي جاما، وهي التي مكَّنتهم من المغامرة في المياه المجهولة والوصول إلى أماكن بعيدة. أمَّا سفن الغاليون، فكانت بمنزلة تطوُّر ملحوظ آخر في بناء السفن الأوروبية، فقد جمعت هذه السفن الكبيرة المسلحة بين قدرة سفن الكارافيل على المناورة وقوة نيران السفن الحربية، وكانت مُجهَّزة بطوابق متعددة تحمل مجموعة من المدافع، وهذا ما جعلها سفن حرب واستكشاف هائلة.
الثورة الصناعية والقوارب الحديثة
خلال الثورة الصناعية، أدى ظهور المحرك البخاري إلى تطوير السفن التي تعمل بالبخار (البواخر) التي مثَّلت تحوُّلًا ثوريًا في النقل البحري والتجارة والحرب. فقد حلَّت المحركات البخارية محل طاقة الرياح والقوة العضلية، وهو ما سمح للسفن بالإبحار بكفاءة وموثوقية أكبر، بغض النظر عن طبيعة الرياح وأحوال البحار.
مع تقدُّم التصنيع وازدهار المجتمعات، أصبح ظهور القوارب الترفيهية مُمكنًا. فكان إدخال هذه السفن بمنزلة تحوُّل من القوارب المستخدمة لأغراض نفعية، في المقام الأول، إلى السفن المصممة للأنشطة الترفيهية. فخلال القرن التاسع عشر، اكتسبت اليخوت شعبية بين الأثرياء، فبُنيت القوارب الشراعية واليخوت المتقنة للرحلات البحرية الترفيهية وسباقات الإبحار التنافسية. وقد أدى إنشاء سرب اليخوت الملكي عام 1815م، وسباق كأس أمريكا عام 1851م، إلى زيادة شعبية القوارب الترفيهية، وهو ما أدى إلى تصميم اليخوت الشراعية الأكثر تطورًا.
بعد ذلك، أدى ظهور الطيران إلى تراجع أهمية المراكب في نقل المسافرين. ولكن ذلك لم يُوقف تطوُّر صناعة المراكب. فقد أدَّت الابتكارات الحديثة في التصميم والمواد وأنظمة الدفع، بما في ذلك هياكل الألياف الزجاجية والمحركات الخارجية، إلى ظهور ناقلات النفط العملاقة وسفن الرحلات البحرية للسفر الفاخر؛ إذ تُقدِّم للركاب مجموعة واسعة من وسائل الراحة وخيارات الترفيه، بما في ذلك حمامات السباحة والمطاعم والمسارح ومناطق التسوق. ويُمكن لسفن الرحلات البحرية الحديثة استيعاب الآلاف من الضيوف وأفراد الطاقم. أمَّا أكبر السفن، التي بناها الإنسان، فهي ناقلات النفط المعروفة باسم “ناقلات النفط تصنيف تي. آي”، ويبلغ طول الواحدة منها 380 مترًا؛ أي أنها أطول بنحو 43 مترًا من حاملة الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد” وهي الكبرى من بين كل حاملات الطائرات في العالم بطولها البالغ 337 مترًا.
أعمار المراكب
للمراكب عمر محدود. فلمعظم سفن الشحن العابرة للمحيطات عمر افتراضي يُراوح بين 20 و30 سنة. لكن عمر القوارب الشراعية المصنوعة من الخشب أو الألياف الزجاجية، قد يُراوح بين 30 و40 سنة. بينما يمكن للقوارب ذات الهيكل الفولاذي أن تدوم أكثر من 100 سنة. ونظرًا لأن المياه العذبة تكون أقل تأثيرًا، من حيث تآكل أسفل السفن، من البحار المالحة، فإن السفن التي تعمل في المساحات المائية العذبة تدوم فترةً أطول.
والطاقة المحرّكة لها ما بين العضلات والطاقة النووية
كان لمصادر الطاقة المتوفرة للإنسان دور كبير في تطوير المراكب عبر العصور، من قوته العضلية في القوارب البدائية إلى المحركات العاملة بالطاقة النووية، كما هو الحال في حاملات الطائرات الحديثة، مرورًا بمختلف أنواع الوقود الأحفوري مثل الفحم والديزل والبنزين. ولكن أطول مصادر الطاقة عمرًا، التي اعتمدها الإنسان للإبحار، كانت طاقة الهواء في المراكب الشراعية، وهو ما يستدعي التوقف أمامه من خلال أقرب الأمثلة إلينا.
اترك تعليقاً