بين اللوحة الأوروبية والمنمنمات الإسلامية
لطالما ألهم هذا التقابل المثير بين المراكب التي تَمخُر المياه بجميع أشكالها وأحجامها، وطبيعة البحار غير المتوقعة، الهادئة أحيانًا والصاخبة أحيانًا أخرى، مخيلة الفنانين في العالم الذين أبدعوا لوحات لا تُعد ولا تُحصى للسفن والزوارق والمراكب، وصوَّروها بوصفها رموزًا للحرية والسفر والاستكشاف والطبيعة البشرية بكل تعقيداتها. فمنذ الزمان الغابر، ترك المصريون القُدامى لوحات جدارية أظهرت صورًا للمراكب النهرية والبحرية لتعكس ما كان لها من أهمية في حياتهم اليومية وطقوسهم الدينية. كما تضمنت الأواني الفخارية من الحضارتين اليونانية والرومانية صورًا لمراكب متنوعة في سياقات سردية مختلفة.
ولكن فن رسم المركب البحري بوصفه تيارًا قائمًا بحد ذاته، لم يظهر إلا في نهاية العصور الوسطى في أوروبا، ومن ثَمَّ، تطوَّر بشكل كبير خلال عصر النهضة. وقد شهدت هذه الفترة ظهور رسومات رائعة للسفن، ولا سيَّما في سياق القوة البحرية والاستكشاف.
كان المُحفِّز الأكبر لهذا التحوُّل في الفن الأوروبي، انتصار الأسطول البريطاني على الأسطول الإسباني عام 1588م، في معركة الأرمادا. وقد امتد هذا التحوُّل مدة 300 عام تقريبًا، وتميَّز بظهور أنماط وموضوعات مميزة تعكس العلاقة المتطورة بين الإنسان والبحر.
فقد ألهم انتصار البحرية الإنجليزية على الأسطول الإسباني الهائل، موجة من الفخر الوطني والمساعي الفنية التي احتفلت بالموضوعات البحرية. فبدأ الفنانون في تصوير المعارك البحرية والاستكشافات وجمال السفن. وخلال أكثر من ثلاثة قرون، لم تُصنع سفينة واحدة في أوروبا، إلا وحظيت برسَّام يرسمها. صحيح أن غالبية آلاف اللوحات هذه تقتصر على توثيق هيئة هذه السفن، ومن أشهرها التي تعكس انتصارات إنجلترا البحرية، مثل “السفينة الملكية”(The Ark Royal). ولكن كان هناك كثير منها ما يتجاوز ذلك إلى التعبير عن خطاب أعمق من ذلك.
ففي عصر الرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، بدأ الفنانون في استكشاف القوة العاطفية للبحر من خلال المناظر الطبيعية الدرامية. فظهرت أعمال رائعة في هذا المجال من بينها لوحة الفنان البريطاني وليم تورنر، “المقاتلة تيمرير”، التي أنجزها عام 1838م، والتي تستحضر شعورًا عميقًا بالحنين إلى أيام الإبحار المجيدة؛ إذ تصوِّر السفينة الحربية “تيمرير” في مشهد درامي، وهي تُسحب عبر نهر التايمز لتفكيكها، في إشارة إلى نهاية حقبة عظيمة في تاريخ البحرية البريطانية.
.. وفي الفن العربي الإسلامي
أمَّا في الفن الإسلامي والعربي، فغالبًا ما تجسِّد القوارب الجمال والأهمية الوظيفية، لا سيَّما أن القوارب كانت جزءًا لا يتجزأ من سبل عيش المجتمعات الساحلية، وخاصة في الخليج العربي. ويُمكن العثور على بعض الرسوم التوضيحية لخياطة سفن الداو الشراعية في منحوتات مجمع سانشي البوذي في الهند، التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد. كما تظهر أيضًا في المنمنمات المصاحبة لمقامات الحريري، التي يعود تاريخها إلى عام 1237م.
ومن ناحية أخرى، صوَّر الفنانون العرب القوارب بأشكال مختلفة، من اللوحات إلى الخط العربي. وعلى سبيل المثال، هناك تشكيلات بالخط الديواني للخطَّاط العراقي محمد عزت الكركوكي (1841م – 1904م) تتضمن نصوصًا بشكل إبداعي في شكل قارب، يدمج فيها بين فن الخط والتمثيل البصري. وفي كتاب “الشاهنامة” (كتاب الملوك) الذي وضعه الفردوسي في حوالي عام 1000م، توجد منمنمات عديدة تمثِّل سفنًا، كان الغرض منها إبراز معانٍ دينية وفلسفية عميقة؛ إذ يُطلق الله، سبحانه وتعالى، سبعين سفينة في بحر عاصف، وهو ما يرمز إلى التوجيه الإلهي وسط الضياع والفوضى.
على متن المركب في السينما
حب البقاء وقيم الحياة وأعماق النفس البشرية
من الحكايات الملحمية عن حب البقاء إلى دراسة الشخصية الحميمة، هناك عشرات، أو ربَّما مئات الأفلام التي تُبحر بالمشاهد على متن مركب لغاية ما.
في كثير من هذه الأفلام، تجسِّد المراكب بيئات مغلقة تُتيح الغوص في أعماق النفس البشرية واستكشاف الذات. فعلى سبيل المثال، في فيلم “تيتانيك” (1997م)، تعمل السفينة المنكوبة بوصفها خلفية لقصة حب مؤثرة تتجاوز الحواجز الطبقية الاجتماعية بين “جاك”، الفنان الفقير الذي يقع في حب “روز”، الشابة الثرية المخطوبة لرجل ثري، وتؤكِّد عواقب الغطرسة وانتصار الحب على التحيّز الطبقي. كما تتناقض عظمة سفينة تيتانيك، بشكل حاد مع مصيرها المأساوي، بحيث تتحوَّل السفينة نفسها إلى شخصية تجسِّد الأحلام والكوارث في آنٍ معًا.
وهناك أيضًا فيلم “عصيان على السفينة باونتي”، الذي اقتبسته السينما ثلاث مرات من الرواية التي تحمل العنوان نفسه، وكان ذلك في الأعوام 1935م و1962م و1984م، وقام ببطولته كل من: كلارك غيبل، ومارلون براندو، وميل غيبسون. يروي هذا الفيلم قصة عصيان جرى على متن إحدى السفن التجارية الإنجليزية في القرن الثامن عشر؛ ليطرح إشكالية صرامة النظام والقانون البحري الإنجليزي في مواجهة إمكانية التمرد عليه بفعل ميل النفس البشرية إلى الحياة الأفضل.
على نحو مماثل، في فيلم “حياة باي” (2012م)، الذي يروي قصة صبي هندي صغير اسمه “باي” نجا من غرق سفينة، فكان عليه أن يبحر في المحيط على قارب نجاة مع نمر بنغالي. وفي هذا الفيلم، يرمز قارب النجاة الذي استقَّل “باي” إلى قوة الرغبة في البقاء في مواجهة الصعاب الساحقة، بحيث يتجاوز القارب وظيفته الأساسية بوصفه وسيلة للخلاص، ليتحوَّل إلى نموذج مُصغَّر للصراع الداخلي ونمو “باي” النفسي.
وتدور أحداث الفيلم الحربي الألماني “القارب” (1981م)، على متن سفينة أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لرسم صورة خانقة للحياة تحت ضغط شديد. فتصبح السفينة شخصية في حد ذاتها، تمثِّل عزلة الحرب والروابط الإنسانية المؤثرة التي تشكَّلت بين أفراد الطاقم البحري.
ومن أشهر الأفلام أيضًا، فيلم “مغامرة بوسيدون” (1972م)، الذي يصوِّر مجموعة من الركاب على متن سفينة فاخرة في المحيط، وهم يكافحون من أجل البقاء بعد انقلابها بفعل موجات البحر العاتية. يستكشف الفيلم الذي أعيد تصويره قبل سنوات قليلة، موضوعات الشجاعة والقيادة والتضحية في مواجهة الصراع من أجل الحياة.
الحرية هي جوهر المركب
وفي إطار آخر، يُعيد فيلم “قراصنة الكاريبي.. لعنة اللؤلؤة السوداء” (2003م)، تنشيط الاهتمام بتراث القراصنة ومغامرات الإبحار مع الاحتفال بوجهة النظر الرومانسية للقرصنة. تُعدُّ سفينة الكابتن جاك سبارو، “اللؤلؤة السوداء”، محور السرد، وتجسِّد الحرية والتمرد ضد السلطة، بحيث يُردِّد الكابتن جاك سبارو مقولة تؤكد أن السفينة رمز للحرية، حين يقول: “هذا هو جوهر السفينة، كما تعلمون. إنها ليست مجرد عارضة وهيكل وسطح وأشرعة؛ هذا ما تحتاج إليه السفينة. ولكن جوهر السفينة… جوهر اللؤلؤة السوداء حقًا… هو الحرية”.
ومن العالم العربي، نذكر الفيلم المصري “المركب” (2011م)، الذي تدور أحداثه حول مجموعة من الفتيات والشبان الذين يقررون قضاء عطلة داخل مركب ويتوجهون به في عرض البحر. وبتوالي الأحداث، يواجهون كثيرًا من المفارقات والمواقف التي تزيح الستار عن أسرارهم وحياتهم ومشكلاتهم التي يحاولون إخفاءها.
أمَّا الفيلم القصير “منسي” (2019م)، فهو فيلم وثائقي سعودي يغوص في أعماق البحر الأحمر غرب ينبع، ويستكشف السفن الغارقة التي بقيت راسية في قعر البحر منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تروي بحطامها وبقايا هياكلها أسرارًا وخبايا من مراحل تاريخية مهمة.
اترك تعليقاً