قبل 100 سنة، وبالتحديد في عام 1921م، عُرضت مسرحية بعنوان (إنسان روسوم الآلي العالمي) للكاتب التشيكي المعروف كاريل تشابيك، وصف فيها آلات حية (روبوتات) مكوّنة من لحم ودم، استلهمها من التكنولوجيا الناشئة في زراعة الأنسجة في الجسم الحي. وقد طمس تشابيك في هذه المسرحية الحدود بين الهندسة والتكنولوجيا الحيوية بطريقة بدت أبعد من تقنيات ذلك الوقت.
يقدّم لنا تشابيك في هذه المسرحية الإنسان العالِم وما يمكن أن تصنعه يداه، فيخرج لنا الإنسان الآلي الذكي والقوي. ولكن الزمام أفلتَ من يد الإنسان، ولم يعد قادرًا على السيطرة على هذه الآلة، فطغت وتسلّطت على من قام بإخراجها إلى حيّز الوجود. وفي النهاية، تستولي على الحكم في أنحاء العالم، وتسخّر الإنسان الوحيد الباقي على سطح الأرض في اكتشاف طريقة لتكاثرها.
يعود استعمال كلمة (الإنسان الآلي) (روبوت) إلى القرن الثامن عشر الميلادي في النمسا وهنغاريا، حيث كانت تشير إلى أعمال السخرة في مزارع الإقطاعيين والنبلاء. وكلمة (Robot) مشتقة من الفعل (robit) في اللغة التشيكية حيث تعني العمل. وبعد عام 3291م، وفي إثر ظهور مسرحية “إنسان روسوم الآلي العالمي”، أصبحت العبارة تُطلق إما على الآلات الميكانيكية ذات التركيب المعقد والتي لها من الدقة والحساسية في العمل ما يجعلها تشبه الإنسان، وإما على الإنسان الذي يقوم بأعمال روتينية أو حركات ميكانيكية بحتة، حتى ليخيّل إلينا أنه جزء من الآلة التي يديرها.
وما تخيّله تشابيك يتجلّى اليوم بعمقه في الاختراق الكبير الذي حققته مجموعة من العلماء من ثلاث جامعات، وهي جامعة فيرمونت وجامعة تافتس وجامعة هارفارد، الذين أعادوا توظيف الخلايا البيولوجية لإنشاء ما يُسمى “بالروبوتات الحية” (Xenobots)، وهي مزيج جديد تمامًا من الآلة والكائن الحيّ. وتُعد النُظم الحية هي الأقوى والأكثر دعمًا للحياة البشرية مقارنة بأي تقنية أخرى حتى الآن. ومع ذلك، فإن قدرتنا على ابتكار أشكال حية جديدة تقتصر حاليًا على الخلايا والأنسجة العُضوية (Organoids)المهندسة بيولوجيًا في المختبر.
وقد تطوّرت تقنيات الروبوتات بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت الآلات النموذجية قادرة الآن على مشابهة حركة وسلوك الإنسان والحيوان بطرق مثيرة للدهشة.
واليوم، تمكّن العلماء من ابتكار روبوتات حية من هذه النظم، ويعتقدون بأنها قد تحدث ثورة في الطب التجديدي وعلاج الأمراض ومقاومة الشيخوخة، فضلًا عن استخدامها المحتمل في حل كثير من المشكلات البيئية.
البداية في السيليكون
صحيح أن الروبوتات الحية (Xenobots) جديدة، ولكنها ليست من دون تطورات سابقة؛ إذ يعود استلهامها في جانب منه إلى عام 1994م عندما كشف كارل سيمز، فنان رسومات الحاسوب، النقابَ عن أول مخلوقات افتراضية في العالم. وقد صمّم سيمز كائناته الافتراضية على هيئة رسوم حاسوبية متحركة يقوم كل كائن افتراضي بأداء مهمة بسيطة تحاكي المهام الموجودة في العالم الحقيقي مثل: القفز والسباحة والقتال من أجل الحصول على مكعب. ومن المحتمل أن تتطور بمرور الوقت افتراضيًا.
بالطبع، لم تترك كائنات السيد سيمز أماكنها الافتراضية في الحاسوب العملاق أبدًا. ولكن في عام 2000م، اتخذت المخلوقات الافتراضية خطوة أولى في انتقالها من عالم السيليكون إلى العالم الحقيقي عندما قام الدكتور ليبسون في جامعة برانديز، وزميله عالم الروبوتات جوردان بولاك، بتوصيل خوارزمية يمكنها تطوير أدواتها البسيطة إلى طابعة ثلاثية الأبعاد قادرة على صنع الآلات من البلاستيك.
وفيما بعد، بدأ فريق من العلماء من الجامعات الثلاث آنفة الذكر وهم: سام كريجمان ودوغلاس بلاكيستون ومايكل ليفين وجوش بونجارد، بالعمل على تصميم وإنشاء أول روبوتات حية على الإطلاق بالكامل من الألف إلى الياء، وبتمويل جزئي من وكالة (داربا)، جناح الأبحاث المستقبلية في وزارة الدفاع الأمريكية.
دور الحوسبة العملاقة
لتصميم هذه الكائنات الآلية الجديدة، أمضى الباحثون أشهرًا في المعالجة على مجموعة الحواسيب العملاقة Deep Green في مركز الحوسبة المتقدمة التابع لجامعة فيرمونت. فقد حاكى العلماء أولًا التكوينات المحتملة للخلايا البيولوجية الفردية على الحاسوب العملاق، واستخدموا ما يُسمى الخوارزمية التطورية لاختبار الآلاف من الاحتمالات والعثور على أحسن التصاميم المرشحة، وأفضلها من حيث الفيزياء الحيوية المعروفة للخلايا البيولوجية، والتي كانت في هذه الحالة خلايا جلد وقلب الضفدع الإفريقي ذي المخالب. وكانت التصميمات المختلفة للروبوتات تُبنى من مكعبات لعبة الليغو.
وقال الباحثون إن العملية كانت كثيفة من الناحية الحاسوبية. فعلى سبيل المثال، لكي ينجز هؤلاء مهمة معينة تصميميًا، كالتحرك في اتجاه واحد، يُعيد الحاسوب العملاق مرة بعد أخرى تجميع بضع مئات من الخلايا التي تحاكي أشكالًا مختلفة لأجسام الروبوتات الحية. وبعد ذلك، تحذف الخوارزمية التصاميم التي فشلت في تحقيق هدف تصميمها وتحتفظ بالتصاميم الناجحة. بمعنى آخر كان البقاءُ للأصلح داخل الحاسوب. وبعد 100 عملية مستقلة للخوارزمية، اختار الباحثون آنذاك أكثر التصميمات الواعدة للاختبار في بيئة بيولوجية. وقد قُيّمت هذه التصميمات في بيئة افتراضية تحاكي نفس الظروف الفيزيائية في الواقع، وذلك باستخدام برامج المحركات الفيزيائية.
من الخوارزميات إلى الحياة
بمجرد العثور على الأشكال (التصاميم) القابلة للتطبيق، استخدمها الباحثون لبناء الروبوتات الحية. وفعلوا ذلك عن طريق كشط الخلايا الجذعية من أجنة الضفادع الإفريقية من النوع (Xenopus leavis). ومن هنا جاءت تسميتها بـ(Xenobot) أي من النوع الذي أُخذت منه الخلايا الجذعية. كما أنها بدت تسمية مناسبة أيضًا بسبب علاقتها بالكلمة اليونانية (Xenos)، التي تعني “غريب” أو “أجنبي”، مما يؤكد حقيقة أن هذه الخلايا تفعل أشياء مختلفة عن مخطط الجسم الجينومي الافتراضي.
وبعد عملية الكشط والجمع، فُصلت هذه الخلايا إلى خلايا مفردة وتُركت للاحتضان. بعد ذلك، وباستخدام ملقط صغير وقطب كهربائي مجهري، تم تقطيع الخلايا وربطها تحت المجهر ونحتها إلى أقرب تصاميم صُممت بواسطة الكمبيوتر. ثم بدأت الخلايا التي رُكبت في قوالب جسمية لم يسبق لها مثيل في الطبيعة بالعمل معًا. وكانت الروبوتات بعرض يقل عن المليمتر 0.04 بوصة وبعدد 500 إلى 1000 خلية، وهي صغيرة بما يكفي للتنقل داخل أجسام البشر، ويمكنها المشي والسباحة والبقاء على قيد الحياة لأسابيع من دون غذاء.
بُنيت هذه الروبوتات الحية من خلايا الجلد التي وفّرت لها بنية صلبة، حيث عملت كنوع من السقالات لتثبيت كل شيء معًا، بينما تعمل تقلصات عضلات خلايا القلب على دفع حركتها.
وقد تبيّن أن هذه الروبوتات الحية القابلة لإعادة التكوين قادرة على التحرك بطريقة متماسكة، واستكشاف بيئتها المائية لأيام أو أسابيع، مدعومة بمخازن الطاقة الجنينية. كما أظهرت الاختبارات اللاحقة أن مجموعات من هذه الروبوتات تتحرك في دوائر، وتدفع الكريات إلى موقع مركزي بشكل عفوي وجماعي. والبعض الآخر من هذه الروبوتات تم تصميمه بفتحة في المركز لتخفيف وزنه. وفي نسخ المحاكاة لهذه الأخيرة، تمكن العلماء من إعادة استخدام هذه الفتحة كحقيبة لحمل شيء بنجاح. وهذه خطوة نحو استخدام هذه الكائنات الحية المصممة بالحاسوب لتوصيل الأدوية بذكاء، أي استهداف الخلايا والأنسجة المصابة فقط من دون الجسم كله.
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من وصفها بالروبوتات الحية القابلة للبرمجة، إلا أنها في الواقع عضوية بالكامل ومصنوعة من أنسجة حية. واستُعمل مصطلح “روبوت” لأنه يمكن تصميم هذه الكائنات في نماذج وأشكال مختلفة مبرمجة لاستهداف غايات معينة.
أجيال من الروبوتات الحية
في عام 2020م، احتل هؤلاء العلماء عناوين الصحف العالمية لنجاحهم في إنتاج أول طراز من الروبوتات الحية، المتميّزة بكونها كائنات حية صغيرة “قابلة للبرمجة” مصنوعة من عدة آلاف من الخلايا الجذعية للضفادع، ويمكنها أن تتحرك في السوائل. وادعى العلماء أنها يمكن أن تكون مفيدة في مراقبة النشاط الإشعاعي أو الملوثات أو الأدوية أو الأمراض. وبقيت الروبوتات الحية الأولية على قيد الحياة لمدة تصل إلى عشرة أيام.
أما الموجة الثانية من هذه الروبوتات التي أُنشئت في أوائل عام 2021م، فقد أظهرت خصائص جديدة غير متوقعة، شملت الشفاء الذاتي والعمر الأطول. كما أظهرت القدرة على التعاون في أسراب عن طريق التجمع في مجموعات.
ومؤخرًا، كشف فريق العلماء نفسه عن نوع جديد من الروبوتات الحية. وعلى غرار الروبوتات الحية السابقة، أُنشئت الجديدة باستخدام الذكاء الاصطناعي لاختبار مليارات من النماذج الأولية افتراضيًا، متجاوزةً عملية التجربة والخطأ المطولة في المختبر. لكن هذه الدفعة الجديدة من الروبوتات الحية تختلف عن سابقاتها بشكل جوهري؛ فهذه يمكنها التكاثر ذاتيًا. ويُعرف هذا النوع من التكاثر باسم “التكاثر الذاتي المتماثل الحركي”، وهو معروف على مستوى الجزيئات ولكنه لم يُلاحظ من قبل على مستوى الخلايا أو الكائنات الحية الكاملة. من الناحية النظرية، فإن النسخ الذاتي المصمم من قبل الإنسان ليس جديدًا. ففي عام 1966م، ناقش عالم الرياضيات المشهور جون فون نيومان “الكائنات الآلية ذاتية التكاثر”.
ومن المعروف أن إريك دريكسلر، المهندس الأمريكي الذي يُنسب إليه الفضل في تأسيس مجال “تكنولوجيا النانو”، تصوّر في كتابه “محركات الإبداع: الحقبة القادمة لتقنية النانو”، الصادر عام 1986م، روبوتات نانوية تتكرر باستمرار وتلتهم محيطها، وتحوّل كل شيء إلى حمأة مصنوعة من نفسها. أطلق على ذلك التصوّر اسم “غراي غو”، وهو سيناريو كارثي عالمي افتراضي يتضمن تقنية النانو الجزيئية، حيث تستهلك آلات التكاثر الذاتي الخارجة عن السيطرة كل الكتلة الحيوية على الأرض، بينما تبني المزيد من نفسها. وعلى الرغم من أن دريكسلر ندم لاحقًا على صياغة المصطلح، إلا أن تجربته الفكرية كثيرًا ما تُستخدم للتحذير من مخاطر تطوير مادة بيولوجية جديدة.
تستخدم النسخ السابقة من الروبوتات الحية التكرار الذاتي الحركي. ولكن لجعل هذا النوع من التكاثر أكثر فعالية، طلب العلماء من الكمبيوتر العملاق اكتشاف تعديل لشكل الوالدين الأوليين الكرويين. وتوصل الذكاء الاصطناعي إلى بعض التصميمات الغريبة، منها تصميم يشبه لعبة فيديو من الثمانينيات تسمى “باكمان”. وعندما قص فريق الباحثين الروبوتات الحية الكروية إلى شكل حرف ،(C)أنتجت الروبوتات المُعدّلة ما يصل إلى أربعة أجيال، أي ضعف ما أُنشئ بواسطة الوالدين الكرويين.
وتتم عملية التكاثر بعثور الروبوتات الحية، المصممة على هيئة حرف ((C، على الخلايا الجذعية الفردية وجمع المئات منها داخل فمها الذي يشبه “باكمان”، وبعد بضعة أيام تصبح حزمة الخلايا روبوتات جديدة تشبه آباءها تمامًا وتتحرك مثلها. ويقول العلماء إن الشكل هو البرنامج في جوهره، إذ يؤثر الشكل على الروبوتات الحية لتضخيم هذه العملية المدهشة بشكل لا يُصدق.
قضايا فلسفية وأخلاقية
لا أحد ينكر أن للعلم والبحث العلمي، وتطبيقاتهما، منافعُ جمة أفادت البشرية وعادت عليها بالنفع الكبير، فالعلوم بطبيعتها حيادية، تستطيع أن تصبغها بالصبغة التي تريد. ومن الأزل اكتَشفَ الإنسانُ النار واستفاد منها؛ أنارت له وأضاءت له السبيل، أدفأته من برودة الطقس، وأنضجت له طعامه، ولكن في المقابل استعملها الإنسان في حرق ممتلكات غيره، وفي تعذيب الآخرين.
وهكذا يستطيع الإنسان بما لديه من عقل أن يسخّر كل شيء لمصلحته إن أراد، سواء أكان ذلك للخير أم الشر. وحتى لا يتحول العلم من نعمة إلى نقمة، لا بد من منهج أخلاقي يسترشد به العلم والعلماء يمكَّن من التعامل مع التطورات العلمية والبحثية والتقنية الهائلة ويمثل سياجًا يحول دون انفلاتها.
وهذا ما ينطبق أيضًا على ابتكار الروبوتات الحيوية، فمع ما لها من تطبيقات مذهلة محتملة سوف تفيد البشرية، إلا أن خبراء أخلاقيات الآلات أكدوا ضرورة إشراك الاختصاصيين في الأخلاقيات التطبيقية في المراحل الأولى من إنشاء وتطوير هذه الأشكال الجديدة من الحياة، بحيث يمكن صياغة مسؤولياتها وحقوقها. وبمجرد أن تصبح هذه الروبوتات الحيوية متطورة بما يكفي للحصول على قدرات معرفية (وعي اصطناعي) ستحتاج إلى إطار عمل يحدد بوضوح أدوارها وحقوقها.
إن الروبوتات الحيوية غير مصنوعة من المعدن أو البلاستيك مثل الآلات المألوفة. ولكن إذا عرّفنا الآلة على أنها شيء مصمم لأداء مهمة محددة، فإن هذا التعريف ينطبق عليها. وفي الوقت نفسه، فإن هذه الروبوتات تتكون من خلايا تشابه تمامًا معظم الصفات الموجودة في الكائنات الحية. ومن هنا جاز لنا أن نطلق عليها الروبوتات أو الآلات الحية، حيث جاءت من فكرة الأبوة المختلطة بين الذكاء الاصطناعي والكائنات الحية.
حاليًا، هذه الروبوتات الحيوية بدائية وقدراتها محدودة. لكن الأجيال المستقبلية قد تحتوي على أنظمة أكثر تعقيدًا مثل: روبوتات تتضمن أوعية دموية وأجهزة عصبية وأجهزة تناسل، فحينما يتم تصميم هذه الأنظمة البيولوجية والتشريحية لن تكون حينئذ آلات، وهذا يتطلب إعادة تعريف ما نعتبره كائنات حية.
ويتبلور القلق الأخلاقي الرئيس في التطور الاصطناعي الذي لم تجربه البشرية بعد؛ لأننا قد نفقد السيطرة، وتجد هذه الروبوتات طريقًا إلى الطبيعة، إذا أنشانا آلات مستقلة تنتج أشكالًا جديدة من الحياة باستخدام التطور الاصطناعي. وهذه ليست مسألة تافهة بالنسبة لمستقبل البشرية.
صحيح أنه حاليًا لا يعمل على هذه الروبوتات الحيوية سوى عدد قليل من علماء الأبحاث الموثوقين. ولكن هذه التقنية قد تقع في أيدي علماء أحياء وتقنيين ذوي نوايا سيئة، فيقومون ببرمجة روبوتات حية فائقة الذكاء الاصطناعي لتسليحها ضد الإنسانية. لذا، يجب على الجهات التنظيمية واللجان المعنية بالأخلاقيات في جميع البلدان أن تنظر بعناية لتفادي سوء استعمال هذه الروبوتات.
وأكثر ما يثير القلق من هذا الاختراق العلمي المذهل هو غطرسة الإنسان وزعمه السيطرة على الطبيعة، وعدم إدراكه للعواقب غير المقصودة عندما تدخل كائنات جديدة إلى الطبيعة؛ وهنا ينبغي للأخلاق أن تُروض التقنية وتصيغها من جديد، ليبقى العلم وتقنياته نعمة للبشرية ومصدرًا للخير والهناء.
مقال رائع وممتع جدا