مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو - أغسطس | 2019

جازان
فيفا وفَرَسان وما بينهما


فريق القافلة

من يهوى الغوص في البحر يمكنه أن يقصد جزر فَرَسان في جازان. ومن يهوى سكنى السحاب يمكنه أن يقصد جبال فيفا في جازان.. وما بين الجزر والجبال تراث معنوي ومادي يخلب الألباب. فقد تضافرت عوامل عديدة لتجعل من جازان منطقة فريدة. فهي تمتاز بتربة خصبة تزرع أربع مرات في السنة الواحدة، مما دعا أحد الخبراء الزراعيين إلى تسميتها “سلة خبز المملكة العربية السعودية”. كما أنها تتمتع بتنوُّع طوبوغرافي لا مثيل له: جبال شاهقة تغطيها الغابات والمدرَّجات الزراعية، وأودية سحيقة، وسهول ساحلية خضراء، وشواطئ رملية على البحر الأحمر.

مرفأ جازان، حيث ترسو العبَّارة التي تنقل الزوار ذهاباً وإياباً إلى جزيرة فرسان

تبدأ الرحلة نحو فَرَسان من مرفأ جازان، حيث ترسو العبّارتان اللتان تقلّان الزوار ذهاباً وإياباً إلى الجزيرة. وعملية النقل مجانية طوال العام، والهدف من ذلك واضح، تشديد أواصر العلاقة بين سكان المدينة وسكان الأرخبيل القريب منها، فتصبح العبّارتان بمثابة الجسر الذي يربط بينهما.
لا تظهـر جزيـرة فَرَسـان الكبـرى من العبّــارة التي تمخـر عباب المياه نحو الأفق. إنها خلفه. ورغم المسافة الفاصلة بينهما، والبالغة 42 كيلومتراً، إلاَّ أن فَرَسان ترتبط عضوياً بجازان. وهذا حالها منذ أن باتت جزءاً لا يتجزأ من المملكة منذ توحيدها، بعدما مرّ عليها ما مرّ على مدى العصور والأزمان من جيوش وبحّارة ومهاجرين ومسافرين.

فرسان.. حياة فطرية برية وبحرية، وشواهد عمرانية على ما نعمت به هذه الجزر من رخاء على زمن صيد اللؤلؤ.

يقع أرخبيل فَرَسان في القسم الجنوبي الشرقي للبحر الأحمر، ويبلغ إجمالي مساحته حوالي 1050 كيلومتراً مربعاً، ويضم نحو 150 جزيرة تقريباً، أكبرها جزيرة فَرَسان الكبرى التي تبلغ مساحتها نحو370 كيلومتراً مربعاً، تليها السقيد (فرسان الصغرى)، وهي في المرتبة الثانية مساحة وسكناً، وتبلغ مساحتها حوالي 109 كيلومترات مربعة. أما جيولوجياً، فقد تكون هذا الأرخبيل من مسطحات من الأحجار الجيرية (شعاب المرجان)، ويتراوح معـدل ارتفاعه عن سطح البحر ما بين 20 و30 متراً، وأعلى “جبل” فيه يبلغ ارتفاعه نحو 70 متراً.
ينقل أهالي الجزيرة غلالهم من الأسماك والمزروعات إلى المدينة يبيعونها هناك، ويشترون من المدينة حاجياتهم الأساسية. وينتقل سكان المدينة وزوارها إلى الجزيرة للسياحة فيها. وتتعدّد نقاط الجذب السياحية في هذه الجزر. وتضم، من جملة ما تضم، حيّداً مرجانياً غنياً بحياة بحرية تبهر الأنظار. ومحمية برية – بحرية شبه صحراوية، يمكن للمحظوظين ممن يجوبونها أن تقع أنظارهم على ظبي هنا أو نمس أبيض هناك، أو غير ذلك من الحيوانات والطيور المتكيفة تماماً مع هذه البيئة. أما من يجوب البلدة، فقد يجد نفسه فجأة أمام مسجد قديم مثل مسجد النجدي، أو قصر تاريخي أندلسي الطابع المعماري، ومعروف باسم بيت الرفاعي، بناه تاجر لؤلؤ، وبقي حتى اليوم شاهداً على ما نعمت به فَرَسان من رخاء وثراء على زمن صيد اللؤلؤ. 

قرية “القصار ” الأثرية

قرية “القصار” الأثريَّة
تُعدُّ قرية القصار المصيف الأول لأهالي جزيرة فَرَسان، لعذوبة مائها وقربها من السطح، إضافة إلى كون أهالي فَرَسان يقضون فيها ما يزيد على 3 أشهر تتزامن مع موسم يطلق عليه “العاصف”، وهو عندما تهب رياح الشمال الصيفيَّة المعلنة عن موسم نضج رطب نخيلها الذي يلفت نظر الزائر بكثافة زراعة النخيل في هذه القرية المحاطة بالبحر.
تبعد قرية القصار عن فَرَسان نحو خمسة كيلومترات جنوباً، ويمكن للسائح زيارتها من خلال مرسى جنابة، أو مرسى الحافة. وإلى ما قبل 40 سنة كان الفرسانيون يشدُّون الرحال إلى قرية القصار صيفاً، لقضاء أيامهم تحت ظلال نخيلها الباسق. وحديثاً، تحوّلت هذه القرية إلى مقصد سياحي جميل بفعل التنسيق ما بين إمارة المنطقة والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.
التنظيم المعماري والهندسي في هذه القرية القديمة يبرز البُعد الأسري والاجتماعي لأكثر من 400 منزل، هو مجموع منازلها، بدءاً من السور الداخلي الخاص بكل منزل، ومروراً بباحة البيت وبواباته العديدة، والبئر الحجريَّة داخل كل منزل والمجلس الخاص باستقبال الضيوف، وصولاً إلى باقات النخيل الشامخة التي تحيط بالمنازل، والصامدة منذ مئات السنين، والدكاكين المجاورة لها وكثير منها لأسر معروفة في فَرَسان.

جبال فيفا
ومن وجد نفسه في جازان، لا يمكنه أن يفوّت على نفسه تفقّد جبال فيفا الشهيرة، التي ترتفع عن سطح البحر ما بين 2800 و3000 متر. وعلى الطريق إلى فيفا، يحتاج المرء إلى آلة تصوير لا تمتلئ ذاكرتها بسرعة، وسيارة يمكنها أن تتحدى الجاذبيـة. فليس الارتفاع وحده هو ما يضفي على هذه الجبال طابعها الآسر والفريــد، بل منحدراتها الحادة، حتى لتبدو المدرَّجات الزراعية فيها واحدة من عجائب الدنيا.
هنا “فيفا”، والفيف هو المفازة التي لا ماء فيها، والتي إذا أنّثت أصبحت الفيفاء كما جاء في القاموس. وهي هنا عبارة عن مجموعة من الجبال الملتفة حول بعضها، فتبدو كأنها جبل واحد هرمي الشكل. ولصعوبة المواصلات إليها وفيها، لم يعتنِ بها أحد من الرحَّالة والمؤرِّخين القدماء. ولأهالي جبال فيفاء لهجة خاصة بهم، لا يفهمها سواهم أو من عاش بينهم.

جبل فيفا “بقعة العذر”

ولكن وعورة الجبال لم تصمد أمام من استوطنوا هذه المنطقة، فبتعاونهم شقوا الطرق في عرض تلك الجبال ليتنقلوا بمواشيهم من وإلى الجبل وعبر منحدراته القاسية. طوّعوا الطبيعة لصالحهم. ومن حجارته بنوا بيوتهم. وبسبب ضيق المساحات المسطحة أولاً، ولمقاومة العوامل الطبيعية، وكذلك للتحصيـن، جعلـوا هذه البيوت أسطوانية الشكل وأنشأوا المدرَّجات بجوارها لتحتوي التربة اللازمة للزراعة.
كان لفيفا سوق يقام كل سبت تحت اسم “النفعة”، لكنه لم يعد موجوداً. وحل محله سوق “الداير” الذي يُعقد عند سفح الجبل. كانت الأسواق الدورية مجمعات مهمة، وحدثاً حافلاً، وتعقد وفق إطار محدَّد، كأن يكون بعضها نصف أسبوعي أو نصف شهري. وأغلب السلع التي تُعرض فيها هي من المنتجات المحلية، مثل المصنوعات الفخارية والجلدية وبعض الأدوات الحرفية بالإضافة إلى بعض المحاصيل الزراعية من المنطقة. وكان عدد الأسواق الأسبوعية يصل إلى 18 سوقاً موزعة على أرجاء المنطقة مابين السهل والجبل.

العمارة الجازانية
بين “العِشَّة” والأبنية الأسطوانية

تمثل ظاهرة التنوّع العمراني نقطة أخرى من أبرز نقاط الجذب السياحي في جازان. فهذا الطراز المعماري الخاص بالمنطقة هو ثمرة تنوّع التضاريس، إضافة إلى العوامل البيئية والاجتماعية المحلية، حيث أقلم المستوطنون أنماط عيشهم مع تلك الظروف.
ففي المرتفعات، هناك البناء التقليدي المتميز باستخدام الحجر في إنشائه. وغالباً ما يأخذ البناء شكلاً أسطوانياً، ويمكنه أن يرتفع عمودياً حتى ثلاثة أو أربعة أدوار. وكل مواد البناء مستخرجة محلياً من طبيعة هذه الجبال الصخرية، حتى لتبدو البيوت بألوان جدرانها الخارجية وكأنها جزء من الطبيعة المحيطة بها. وفي تفسير هندستها الأسطوانية، يقال إنها نتيجة الأخذ في الاعتبار للرياح التي يمكنها أن تعصف بقوة على مثل هذه الارتفاعات. وأيضاً لدرء بعض المخاطر الأخرى، فجاءت أشبه بقلاع بحصون صغيرة تأوي الإنسان الجبلي من مخاطر الحياة الجبلية، وتساعده على تحمّل الظروف المناخية القاسية.
وإضافة إلى الأبنية الأسطوانيّة في منطقة فيفا، يوجد طراز آخر من البيوت القديمة يعرف بـ”العشة”.
تُبنى العشّة من مواد محلية بسيطة، تعكس المستوى المتفوق لجذور الفن المعماري بصورته البدائية، ومثّلت السكن الريفي الأكثر شيوعاً في المنطقة. وربما انتقل هذا النمط من القارة الإفريقية عن طريق التجارة بحكم قربها من المنطقة.

فن “العزاوي” فن شعبي خاص بجازان بفئة الشباب لأنه يعتمد على قوة عضلات الشاب خلال الرقص

الفنون الشعبية الجازانية
من العَرضة المحلية إلى مهرجان الحريد

وإذا أتيح لزائر جازان أن يختار محطة ثالثة يتوقف أمامها في زيارته للمنطقة، يمكن لفن الرقص الشعبي أن يكون من أفضل الخيارات.
فقد ساعد التنوّع الثقافي والجغرافي في المنطقة على بروز أنماط وتعبيرات خاصة في فنونها الشعبية المتنوّعـة بتنـوّع نواحيها الجبلية منها والسهلية. فلكل منها ما تنفرد به عن غيرها ويعبّر عن طابعها المحلي.
ومن أبرز الفنون الشعبية في جازان العَرضة أو رقصة السيف. ويؤدى هذا اللون الشعبي من خلال القيام بعديد من الحركات السريعة المنسجمة مع بعضها بعضاً والمنسّقة على إيقاع الطبول بشكل خاص. ولا تحتاج هذه الرقصـة إلى مكان واسع لأدائهـا، إذ من الممكن أن تؤدى في الباحة الموجودة داخل البيت، وذلك لكونها تؤدى بطريقة المقابلة بين شخصين لفترة قصيــرة، ثم يتقابل غيرهما.

وعورة الجبال لم تصمد أمام من استوطنوا هذه المنطقة، فبتعاونهم شقّوا الطرق في عرض تلك الجبال لتنقلاتهم بمواشيهم من وإلى الجبل وخلاله، طوّعوا الطبيعة لصالحهم فمن حجارته بنوا بيوتهم ولضيق المساحات المسطحة أولاً ولمقاومة العوامل الطبيعية وكذلك للتحصين، جعلوا هذه البيوت أسطوانية الشكل وأنشأوا المدرّجات لتحتوي التربة التي سوف تُستغل للزراعة.

وبخلاف العَرضة النجدية على سبيل المثال، تُؤدى رقصة السيف في حركات صامتة، أي من دون أي أناشيد أو شعر. وفيما يصطف المشاهدون في صفوف نصف دائرية، يتوسطها الطبالون، في حين يشكِّل اللاعبون صفاً أو صفين وهم يحملون السيوف أو الجنابي، ليتناوب كل اثنين منهم على الرقص.
ومن بين أبرز الفنون الشعبية الخاصة بجازان فن “العزاوي”. وهو فن خاص بفئة الشباب لأنه يعتمد على قوة عضلات الشاب خلال الرقص. فالعزاوي يُؤدى على إيقاعات الطبول في صور مختلفة ومتعدِّدة الأنماط والأشكال، ويمارس الشاب الرقص في هذا الفن وهو واقف وأيضاً وهو منحنى الظهر، وكذلك يرقص وهو في وضعية القرفصاء الصعبة.
وهناك أيضاً فن الطارق، وهو فن يجمع بين الشعــر والموال واللحن في تمازج جميل يجعل هذا الفن مختلفاً عن بقية الألوان التراثية في جـازان. ولحن المزمـار في الطـارق يسمى لدى بعض أبناء جازان “المغنمية” و”طارق خمسة”. ومن يقوم بأداء هذا الفن يسمى المطرق ويكون صوته حسناً يؤهله للغناء. ويؤدى هذا اللون بشكل خاص في أيام الربيع ومواسم الرعي والأمطار، وأيضاً في موسم الحصاد وجمع المحاصيــل الزراعية، ويكثر أداؤه في المناطق الجبلية.
أما إذا وقّت الزائر رحلته إلى جازان في مواسم معيّنة، مثل موسم صيد سمك الحريد، فيمكنه أن يقع على مهرجان حقيقي لا مثيل له في كل الجزيرة العربية. ففي وقت ما من أواخر شهر مارس أو بداية أبريل، تمر أسراب سمك الحريد بمحاذاة شواطئ فرسان في طريق هجرتها، حتى لتبدو وكأنها تقترب من الشاطئ لتنتحر، فيصطادها أهل الجزيرة بسهولة كبيرة، ولكن في إطار عملية احتفالية تقليدية جميلة يختلط فيها الصيد بالرقص والغناء. احتفالية، كما كل شيء آخر في جازان: لا تُنسى.

مهرجان صيد الحريد، يصعد الرجال إلى المناطق المرتفعة والتلال المحيطة بالساحل لمراقبة المياه، يرصدون وجود أي حركة على السطح تدل على وجود مجموعة من مجموعات الحريد

طالب المرّي والتصوير
يروي طالب المرّي علاقته بعالم التصوير: “بدأت التصوير عام 2016م، باستخدام كاميرا الجوَّال أولاً، وكانت لتوثيق بعض اللقاءات مع الأصدقاء. وكان أحد أصدقائي زوج مصوِّرة فوتوغرافية شاهدت صوري، وشجعني رأيها على دخول عالم التصوير”.
ويضيف المرّي: “لم أتخيل آنذاك أن الأمر سيستهويني إلى هذا الحد فيما بعد. ولكني بعد استطلاع آراء بعض المصوِّرين، فكَّرت بشكل جاد أن أحصل على بعض الدورات الخاصة بالتصوير. ثم بدأت تصوير الحياة البريَّة والفطرية في بعض الرحلات، مثل رحلتي إلى كينيا مع فريق كويتي. ومن خلال الرحلات الجماعية، تولد شغف في داخلي، يدفعني إلى استكمال طريق السفر والتصوير باحتراف. حتى أصبحت صوري تحصل على جوائز عربية وعالمية، منها “جائزة هبا” من الإمارات العربية المتحدة، وجائزة “ناشونال جيوغرافك” (4 صور)، وكلها من رحلة السفاري في كينيا”.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “جازان”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *