مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2021

بنك الجينات القمري..
مخزن لبذور الحياة على القمر


حسن الخاطر

تعرَّضت الكرة الأرضية خلال تاريخها الطويل إلى أحداثٍ طبيعيةٍ كبيرةٍ أدَّى بعضها، كما يرجِّح العلماء، إلى كوارث على الحياة. وتسبَّب ذلك في حدوث خمسة انقراضات ضخمة، فقدت الأرض خلالها أكثر من %75 من جميع أنواع الحيوانات. ومثل هذه السيناريوهات قد تحدث في المستقبل. لذلك فكَّر العلماء في الاحتفاظ بعيِّنات من المواد البيولوجية للكائنات الحية ووضعها في مكان آمن في أعماق القمر؛ بهدف اسـتعادة التنوُّع البيولوجي المفقود على الأرض عند تعرُّضها إلى كارثة مستقبلية محتملة.

في أرخبيل سفالبارد بالنرويج يقع قبو سفالبارد العالمي للبذور، وهو عبارة عن بنك للبذور يحتوي على أكثر من مليون عيِّنة من البذور من جميع أنحاء العالم. ويهدف هذا البنك إلى تخزين البذور والاحتفاظ بها على المدى الطويل للإسهام في تأمين الإمدادات الغذائية في العالم. وعلى الرغم من درجة الأمان العالية التي يتميَّز بها، إلا أنها ليست كافية عند التغيُّرات المناخية الكبرى والكوارث المحتملة. فالأرض بيئة متقلبة مما يُعرِّض العيِّنات في أي مكانٍ من الأرض إلى التلوُّث والتدمير في حال حدوث كارثة هائلة مثل: الانفجارات البركانية الضخمة، والزلازل، والتسونامي.

لذلك اقترح فريق من الباحثين من جامعة أريزونا في مؤتمر الفضاء لمعهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات (IEEE)، الذي عُقد في شهر مارس من عام 2021م، البحث عن مكان آخر أكثر أماناً خارج كوكب الأرض، وتم اختيار القمر لهذه المهمة. وبحسب رأي فريق البحث فإن هذه الفكرة ستحمي البشرية من الانقراض.

أنابيب الحِمَم القمرية
“أنابيب الحِمَم القمرية” هي عبارة عن أنفاق ضخمة موجودة تحت سطح القمر تشكَّلت بشكل طبيعي نتيجة تدفُّق الحِمَم البركانية من عمق القمر إلى سطحه قبل ثلاثة مليارات سنة. كما تسبَّبت هذه الحرارة العالية في صهر الصخور، مكونةً هذه الأنفاق المجوفة عند توقف الحمم البركانية عن التدفُّق. 

وتُعدُّ أنابيب الحمم القمرية موقعاً مثالياً لتخزين البذور والحيوانات المنوية والبويضات لجميع أنواع الحيوانات والنباتات الموجودة على الأرض؛ حيث إنها محمية من الإشعاعات الكونية والرياح الشمسية وتقلبات درجات الحرارة الشديدة وتأثيرات النيازك الصغيرة. ويبلغ عمقها حوالي 100 متر، وتمتد على الأقل مئات الأمتار إلى بضعة كيلومترات، ودرجة حرارتها مستقرة وثابتة عند 25 درجة مئوية تحت الصفر. وتتميَّز بضخامتها فهي تتسع إلى إيواء سكان مدينة أمريكية بكاملها، ونتيجة لضخامتها ذهب العلماء إلى إمكانية استخدامها لبناء مدن قمرية لحضارة بشرية على القمر. إذ إن هناك ما يصل إلى مئتين من هذه الأنابيب، التي قد تكون مناسبة لبناء هذا المشروع الطموح.

ويعود السبب العلمي في حجم هذه الأنفاق الكبير إلى ضعف جاذبية القمر مقارنة بالأرض. علماً أن الأرض تحتوي على مثل هذه الأنابيب التي تشكَّلت في المراحل الأولى لتكَوُّن الأرض. لكنها أصغر بكثير من نظيرتها على القمر، وقد تآكلت بمرور الوقت بسبب الزلازل والعمليات الطبيعية الأخرى.

مهمة الاستكشاف
وعند البحث في الخطوات التنفيذية، اقترح الباحثون استكشاف الحُفر القمرية باستخدام مركبة هبوط تعتمد على الأقمار الاصطناعية الصغيرة ذات الشكل التكعيبي (CubeSat)، تحمل عدَّة روبوتات كروية صغيرة وطائرة ومنخفضة التكلفة من نوع (SphereX)، يمكن نشرها لمهمة الاستكشاف. وهذه الروبوتات تشبه كرات البوكي قادرة على التنقُّل في الجاذبية المنخفضة للقمر، ورسم خرائط لأنابيب الحِمَم القمرية باستخدام الكاميرات وأجهزة الاستشعار عن بُعد، التي تستخدم الليزر لقياس المسافات، وبمجرد أن يتم تحديد الروبوتات لأنابيب الحِمَم القمرية المناسبة سوف تبدأ مرحلة البناء.

أنظمة التبريد
يتطلَّب تخزين البذور والحيوانات المنوية والبويضات والحمض النووي إلى درجة حرارة منخفضة جداً تصل إلى 196 درجة مئوية تحت الصفر. عند هذه الدرجة، يمكن التخزين بأمان دون التعرُّض لخطر التحلُّل على مدى قرون طويلة. ويمكن في هذه الحالة استخدام الخلايا الكهروضوئية لتوليد الطاقة التشغيلية وتبريد المختبر بأكمله في الليل والنهار. وذلك من خلال وضعها على سطح القمر، وخلال النهار القمري يتم توليد الطاقة التشغيلية وتخزينها في بطاريات للاستفادة منها أثناء فترة الليل.

تصميم بنك الجينات
يُعدُّ تصميم المشروع التخيلي تحدياً هندسياً، ويحتوي على خمسة أنظمة رئيسة بتخصصات مختلفة وهي: التصميم الإنشائي، والتصميم الحراري، والنظام الآلي، ونظام الاتصالات، ونظام الطاقة.

1 – التصميم الإنشائي: هو عبارة عن وحدات مصنَّعة من الألمنيوم ذات شكل أسطواني، تكون درجتها منخفضة جداً. داخل هذه الوحدات الأسطوانية توجد أرفف عائمة تستخدم الموصلات الفائقة حتى تمكنها من الارتفاع عن سطح وحدة الحفظ، كما يمكن تدويرها بسهولة نظراً إلى انعدام مقاومة الاحتكاك. هذه الأرفف معبأة بإحكام، حيث تحتوي على صفوف مكدَّسة من أطباق بتري المخبرية المصنَّفة بشكل دقيق. وبداخلها المواد الحيوية المحفوظة التي تحتاج إلى حرارة 180 درجة مئوية تحت الصفر، بينما تتطلَّب الخلايا الجذعية برودة أكثر حتى تبقى محفوظة، حيث تصل درجة حرارة حفظها إلى 196 درجة مئوية تحت الصفر.

2 – التصميم الحراري: يهدف نظام التصميم الحراري إلى المحافظة على درجة الحرارة المطلوبة، ويمكن استخدام مواد العزل الحراري والطلاءات الخاصة؛ حتى لا يحدث تبادل حراري بين السطح الخارجي والحُفر القمرية عن طريق التوصيل والإشعاع. كما أن الأسطوانات المقترحة تتكوَّن من طبقتين، يتم استخدام التنافر المغناطيسي بينهما؛ بحيث تطفو الأسطوانة الداخلية داخل الأسطوانة الأكبر، وبهذه الطريقة يصبح التبادل الحراري أقل ما يمكن.

3 – النظام الآلي: بالنظر إلى البيئة شديدة البرودة في المختبر، سيتم الاعتماد في إدارة المشروع على الروبوتات الذكية المبرمجة مسبقاً لأداء المهمات مثل استرداد أو إرجاع الأرفف العائمة. وتعتمد هذه الروبوتات على المواد فائقة التوصيل؛ حتى لا يحدث تلامس بينها وبين المعدن وتُتلف عن طريق اللحام البارد.

4 – نظام الاتصالات: يحتاج نظام الاتصالات للمشروع التخيُّلي المقترح إلى تحقيق هدفين رئيسين هما: اتصال عالي السرعة بين المشروع والأرض، واتصال واي فاي داخل المشروع نفسه وعلى سطح القمر للتواصل مع الروبوتات وأعضاء الطاقم. سيتم أيضاً استخدام اتصالات الليزر ثنائي الاتجاه للاتصال بين الأرض والقمر، إضافة إلى إنشاء تلسكوبات استقبال متعدِّدة على سطح الأرض لتعزيز الاتصال بسطح القمر. كما سيتم إنشاء شبكة اتصالات على سطح القمر قادرة على التواصل مع المختبر الذي سيكون مجهزاً بشبكة اتصالات. وهكذا سوف يتم الاتصال بين الأرض والمختبر في أعماق القمر.

والجدير بالذكر أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا تخطط لإنشاء شبكة اتصالات (LTE/4G) على سطح القمر في أواخر عام 2022م، وقد اختارت شركة نوكيا لتنفيذ هذا المشروع.

5 – نظام الطاقة: سيعتمد المشروع بكامله على الطاقة المتجدِّدة، وذلك من خلال استخدام الخلايا الشمسية التي ستوضع على سطح القمر. وستستخدم بطاريات الليثيوم في تخزين الطاقة للعمل في فترة الليل.

تحديات اقتصادية وتقنية
تم تحديد 50 عيِّنة لجميع الأنواع البالغ عددها 6.7 مليون، ونقل هذه المواد البيولوجية إلى القمر سيكون مكلفاً من الناحية الاقتصادية كما أن عملية النقل تتطلَّب توفير درجة حرارة منخفضة للغاية تتراوح بين 180 درجة مئوية تحت الصفر إلى 196 درجة مئوية تحت الصفر. وللمقارنة فإن تخزين لقاح (Pfizer COVID-19) يحتاج إلى سبعين درجة مئوية تحت الصفر. وعملية النقل تحتاج ما يصل إلى 250 صاروخاً، وهذه لا تشمل المواد اللازمة لبناء المشروع، وللمقارنة فإن بناء محطة الفضاء الدولية في مدار الأرض المنخفض قد كلَّف إطلاق 40 صاروخاً، أي أكثر من ستة أضعاف. 

لكن ربما في المستقبل يتم تدشين مشروع المصعد الفضائي مما يسهم في تقليل التكلفة الاقتصادية بشكل كبير جداً. كما أن التقنيات اللازمة لإنشاء هذا المشروع الطموح غير موجودة حتى هذه اللحظة، لكن الباحثين يعتقدون أنه ربما يتحقق بشكل واقعي في غضون الثلاثين عاماً المقبلة.  


مقالات ذات صلة

في عام 2077م، شهد معظم سكان أوروبا كرة نارية تتحرك في عرض السماء، ثم سقطت كتلة تُقدّر بألف طن من الصخور والمعادن بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية على الأرض في منطقة تقع شمال إيطاليا. وفي بضع لحظات من التوهج دُمرت مدن كاملة، وغرقت آخر أمجاد فينيسيا في أعماق البحار.

نظرية التعلم التعاضدي هي: منهج تتعلم عبره مجموعة من الأفراد بعضهم من البعض الآخر من خلال العمل معًا، والتفاعل لحل مشكلة، أو إكمال مهمة، أو إنشاء منتج، أو مشاركة تفكير الآخرين. تختلف هذه الطريقة عن التعلم التعاوني التقليدي، فبين كلمتي تعاون وتعاضد اختلاف لغوي بسيط، لكنه يصبح مهمًا عند ارتباطه بطرق التعليم. فالتعلم التعاوني التقليدي […]

حتى وقتٍ قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمةٌ فريدةٌ للبشر. لكن الأبحاث العلميّة التي أجريت على الحيوانات، منذ منتصف القرن العشرين، كشفت عن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات. وعلى الرغم من الغموض الذي يلفّ تعبير الثقافة، حسب وصف موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفيّة، هناك شبه إجماعٍ بين العلماء […]


0 تعليقات على “بنك الجينات القمري..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *