قضية العدد

أمام أسئلة اليوم…
اخلاقيات الحرب في الفتح الاسلامي

  • Qadaya-02
  • Qadaya-03
  • Qadaya-04
  • Qadaya-01

فُجعت البشرية في العقدين الماضيين بسلسلة من الأحداث الدامية التي اتصفت بوحشية فقدت معها أهم مقاييس تعامل الخصم مع الخصم: الأقوى مع الأضعف والمنتصر مع المهزوم. وطغت عليها نفسية المنتقم المتشفّي الحاقد، وسمع العالم عن مجازر وجرائم
لا مبرر لها في أدبيات المواجهة العسكرية المعهودة.
يكاد لا يمر يوم إلا ويشاهد الناس مناظر تقشعر لها النفوس من حروب ونزاعات مسلحة تُرتكب فيها تجاوزات لا توصف. وبالرغم من أن بعض الأطراف وُضعت في أقفاص اتهام عالمية وبعضها تُركت من دون إدانة أو عقاب، فالأهم هو أن هذه الأحداث تعكس فقدان الصلة بتقاليد وقيم كانت الإنسانية قد راكمتها عبر التاريخ. الزميل مأمون محي الدين من فريق التحرير، تناول في هذا الموضوع بعض أبرز أخلاقيات الحرب في الفتح الإسلامي.

أعطى الإسلام للفرسان العرب بُعداً إنسانياً شاملاً عزّز قيم المروءة والشهامة والعفو عند المقدرة وأعطى الرحمة معنىً إنسانياً واضحاً، حتى أنه لا يكاد يوجد حتى اليوم مجموعة من القيم وقواعد السلوك في التعامل مع الإنسان والطبيعة وحتى الحيوان في الحروب، أشد نبلاً وشهامة وإنسانية مما تركه قادة الفتح الإسلامي بدءاً برسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان هذا الموضوع يعدد ويعطي أمثلة عن تلك المبادئ والأسس فإن المتعمق فيه يرى كيف يصل إلى وصف حالات تفصيلية، تعكس حضوراً ذهنياً عميقاً، يفكر بكل احتمال ويخشى من أن يُشذ عن القاعدة في أي من الاحتمالات، فلا يكتفي الإسلام بعدم الإجهاز على الأسير فقط بل يأمر بإيواء الجريح وعلاجه، وغير ذلك الكثير مما يضمن تصرف المقاتل بالروح التي كان يرى فيها القادة السلوك القويم لحاملي الدعوة الجديدة.

للدفاع لا الاعتداء
إن المتأمل في تاريخ الحروب التي خاضها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية يلاحظ بسهولة أنها كانت قائمة على مبادئ أخلاقية بدلاً من الدوافع النفعية كما هو الحال في معظم الحروب الأخرى، فجميع المعارك التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن لأغراض الغزو البحتة وإنما كانت دفاعية، حاول فيها صد الاعتداءات التي كانت تستهدف المسلمين. وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم. ومن الأمثلة الواضحة التي يمكن أن نسوقها في هذا المجال أن الجيش الإسلامي في غزوة تبوك قد عاد أدراجه بعد أن تيقن من انصراف الروم عن القتال في تلك السنة.

ويلخص كاتب من غير دار الإسلام هو الفرنسي (مارسيل بوازار) في كتابه (إنسانية الإسلام) المفهوم الإسلامي للحرب بأنها ليست ثأراً، بل جهد لدفع الجور والاضطهاد . ويضيف أنه صادر عن مفهوم أسمى للإنسان بوصفه إنساناً، وعن الاحترام الواجب له بوصفه مخلوقاً من مخلوقات الله .

ويكمن الدليل الساطع على أن الإسلام لا يتطلع إلى الحرب إلا من زاوية دفاعية غير نفعية في الآية الكريمة: وقاتِلوا في سبيلِ اللّهِ الّذينَ يقاتِلونَكُمْ ولا تَعْتَدوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعتدينَ . (البقرة 091).

من هنا، فإن الهدف الوحيد المسموح به للقتال هو الدفاع عن العقيدة أو النفس أو عن الملك المشروع. أي أنها في جميع الحالات حربٌ دفاعية، وفي غير هذه الحالات فإن الحياة الإنسانية لها حرمتها ولا يجوز المساس بها.

في سير المعارك
في الإسلام الحرب لا تضع الشعوب في مواجهة بعضها، بل تكتفي بوضع حماة الدين في مواجهة المعتدي. وعليه، تصبح الحروب حينئذ محدودة الأهداف والمدى. الأهداف هم المقاتلون، والمدى ساحة المعركة. وهكذا فإن زمن الحرب يصبح محدوداً، وبالتالي لا يبقى أي مجال يمكن للغالب أن يؤجج فيه حقده أو ليمارس أي شكل من أشكال الاعتداء على المغلوب.

ومن خلال مصادر أصيلة متعددة نجد أن الإسلام بَسَط المبادئ الخاصة بسير القتال باعتبارها من قواعد الحرب عند المسلمين، ومن هذه القواعد ما يلي:
• ينبغي أن يسبق القتال دائماً إعلان أو تحذير – كان غالباً الدعوة إلى الإسلام – كي لا يؤخذ العدو على غرة.
• التمييز بين المقاتلين – وهم يحملون في الجيوش الإسلامية شارات مميّزة – وبين المدنيين غير المشتركين بصورة مباشرة في القتال.
• منع إنزال الأضرار الزائدة عند الحاجة بالعدو، كالقتل والقسوة والتعذيب المهين.
• حظر أعمال التدمير غير المفيدة ولا سيما إتلاف المزروعات.
• احترام المنسحبين من الالتحام، كالجرحى والجنود المتمتعين بأمان موسع -الحماية- وأسرى الحرب.
• إدانة الأسلحة السّامّة.
• السماح لرعايا الدول المعادية الذين يكونون على أرض الإسلام بالبقاء بصورة طبيعية شرط أن لا يقوموا بأعمال معادية للإسلام.
• حماية السكان المدنيين واحترام أديانهم ورؤساء هذه الأديان، وعدم شرعية قتل الرهائن واغتصاب النساء.
• تأكيد المسؤولية الفردية وإلغاء كل عقوبة تصدر بحق أشخاص عن جرائم لم يرتكبوها بأنفسهم.
• عدم شرعية مقابلة الأذى بالأذى أو اتخاذ تدابير قد تكون مخالفة للمبادئ الإنسانية.
• التعاون مع العدو في الأعمال الإنسانية.
• منع كل عمل مخالف لأحكام المعاهدات التي يعقدها المسلمون منعاً باتاً.

إن الأمثلة التي يمكن أن نسوقها على مدى تحكم هذه القواعد بسلوك المسلمين في حروبهم أكثر من أن تحصى. ولعلنا نكتفي هنا بالإشارة إلى واحد منها وهو أنه في زمن لم يكن فيه العنف يعرف شرعاً ولا عاطفة، أصدر الخليفة أبو بكر الصدّيق، رضي الله عنه، إلى جنوده التعليمات المشهورة المرددة كثيراً لأنها تختصر الروح الخلقية للقانون الإسلامي، فأوصى قائد الجيوش المتجهة إلى الشام أسامة إبن زيد قائلاً: لا تخونوا ولا تغلوا ولاتغدروا ولا تمثلوا ولاتقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة .
وهذه الأوامر الصادرة عن الصديق رضي الله عنه، لا تشكل فقط وصايا دينية، بل موجبات قانونية صارمة تلحق بمسؤولية المحارب الشخصية. كما أننا نلحظ من خلال القراءة المتأنية لهذه الأوامر أن تعيين الشجرة المثمرة بدل الاكتفاء بالشجرة يعكس جانباً جوهرياً في العقيدة الإسلامية، ألا وهو الحرص على الأشياء، ليس من باب المبدأ الإنساني المجرد فقط وإنما بالدرجة الأولى من باب المصلحة العامة. وبذلك يصبح التقيد بالمصلحة العامة منطلقاً أساسياً لصياغة المبدأ. إنها المثالية التي تعبّر عن مبادئها وعينها على الواقع الحي وحاجات الإنسان كإنسان، فالشجرة جميلة، لكن الشجرة المثمرة هي الأجدر بالمحافظة عليها.
فالعنف لا يدان بالمطلق. والمنهج الإنساني الذي يدين العنف كعنف يغفل واقعية الحياة في جوانب لا عد لها ولا حصر، لكن الإسلام يدين المبالغة في العنف، حيث لا حاجة له ولا مصلحة من ورائه، فممارسة العنف ضد أسير ضعيف أو إنسان مستسلم يناقض مبدأين: مبدأ الرحمة، أي المبدأ الإنساني العام، ومبدأ الضرورة أو المصلحة. كذلك قطع الشجرة والشجرة المثمرة بنوع خاص. والحرص على الشجرة المثمرة يشبه الحرص على المرأة الحبلى، لأن الإنجاب من أصول الحياة والبناء.

إلا أن القانون الإسلامي في المعاملة له أبعاد أخرى تتجاوز ذلك وتتمثل في انعكاس الفعل على الفاعل. ومما لا شك فيه أن الإسلام منذ نشأته كره التشفي والانتقام وتأجيج الأحقاد في النفوس، وذلك أيضاً من حيث المبدأ الإنساني العام، ومن باب الحرص على حماية نفوس المسلمين – مقاتلين وغير مقاتلين – من أن تصاب نفوسهم بأمراض يكون لها أسوأ الأثر على إيمانهم نفسه وعلى نظرتهم إلى مبادئ الدين، وحتى على علاقاتهم بمحيطهم وذويهم.

كان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يوجه جنوده قائلاً: إذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، ولا تدخلوا داراً إلا بإذن، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً، ولا تضربوا النساء، واذكروا الله لعلكم ترحمون . وهنا نصل إلى النقطة الثالثة من هذا الموضوع ألا وهي مسألة التعامل مع نتائج المعارك وما تخلفه من أسئلة على صعيد حقوق الأسرى وحقوق الإنسان بشكل عام.

المغلوب..يبقى إنساناً
استوصوا بالأسارى خيراً.. هكذا كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. ولإدراك الأبعاد الإنسانية العميقة لهذا القول يجب أن نتذكر أنه قبل الإسلام وفي أي مكان في العالم تقريباً، كان التعامل مع الأسير يتم حسب أهميته ومركزه، فقد كان الأسير جزءاً من الغنيمة، بل ومادتها الأساسية أحياناً، وتظهر لنا كتب التاريخ أن الأسير كان سلعة يملكها الآسر. إن شاء استحياه، وإن شاء قتله.
بظهور الإسلام، لم يفقد الأسير قيمته لأغراض عدة مثل مبادلته بأسير أو لاستيفاء فدية أو ما شابه ذلك. وصارت الشروط والترتيبات الخاصة بعودة الأسرى تنظم في معاهدات تعرف بالفداء. وقد جعلت كثرة الحروب بين الإسلام والعالم الخارجي هذا الإجراء من باب المتعارف عليه. ولم تكن مساهمة هذه المعاهدات في إنقاذ حياة الألوف من البشر وتأمين الحماية لجنود الأعداء الذين دارت عليهم الدوائر بالقليلة. وأتاحت لأوروبا في القرون الوسطى أن تعي وضع الأسرى المسيحيين في الشرق، وتدرك أنه بات ممكناً شراء حريتهم.

وعن معاملة الأسير الذي يقع في أيدي المسلمين، يكفي أن نشير إلى أن القرآن الكريم جعل إحسان المسلم إلى الأسرى من أعمال البر والتقوى، ومن ذلك قوله تعالى وَيُطْعِمونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَأَسِيراً (الإنسان 8) ومن الحقوق التي قررها الإسلام حق الأسير في ممارسة شعائر دينه، وحقه في كسوة لائقة تقيه حر الصيف وبرد الشتاء. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، كسا بعض الأسرى من ملابسه. ورأفة بضعف المغلوب يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الأسرى من يهود بني قريظة واقفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، قال لحراسهم من المسلمين: لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح، قيلوهم حتى يبردوا .

والواقع أن سماحة الإسلام في التعامل مع المغلوب والأسير كانت على مستوى عالٍ من الإنسانية والنبل، مما جعل بعض القادة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يواجهون صعوبة في تقبّلها. فبعد غزوة بدر مثلاً وقف في وجه المطالبين بمعاملة رحيمة لإعلاء شأن الإسلام والتعجيل بانتشاره، فريق يطالب باسم العدل بقتل الأعداء الذين آذوا الجماعة الإسلامية الناشئة، غير أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قرر تحرير الأسرى بفدية، والاحتفاظ بمن لا يقدرون على تحرير أنفسهم. وحرر هؤلاء لاحقاً بعد قيام كل واحد منهم بتعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة. فالقرآن الكريم كما هو معروف يقرر تدبيراً من اثنين: الفدية أو التحرير، وتؤكد السيرة النبوية الشريفة أنه لا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه من بعده سمحوا بقتل الأسرى.

وأكثر من ذلك، فإن تحرير الأسرى غير المشروط من باب السخاء ليس نادراً في التاريخ الإسلامي. ومن أشهر أمثلته نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرر تحريراً غير مشروط جميع الأسرى في فتح مكة، وصلاح الدين الأيوبي أطلق المسيحيين الذين لم يكونوا يملكون الفدية عند تحرير القدس من جيوش الفرنجة.

باختصار، يمكن القول أن للإسلام مفهوماً للحرب، وقواعدَ لخوضها وأسساً لتعامل الغالب مع المغلوب قابلة للتطبيق، وقد طبقت بالفعل، وارتقت بنظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان واحترام حقوقه إلى مستويات لا تزال حتى اليوم قبلة طموحات المهتمين بحقوق الإنسان في الحروب. وفي هذا المجال ننقل من بوازار مرة أخرى قوله: يمكن للإسلام أن يفاخر بأنه لم يعرف قط الإبادة الجماعية ولا معسكرات الاعتقال. وما يزال يملك في الوقت الحاضر اعتدالاً وحكمة يمكن للإنسانية (إنسانية اليوم) أن تستفيد منها .

بحد السيف أم بغيره؟

الكاتب المصري الدكتور نبيل لوقا بباوي، الذي راعته الحملة التي استهدفت الإسلام في الآونة الأخيرة، وضع كتاباً جديداً يرد فيه على جملة افتراءات يروجها بعض المستشرقين حول سبل انتشار الدعوة.

ويؤكد الدكتور بباوي في كتابه (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) والذي يقع في 291 صفحة، أن جميع الحروب التي قام بها المسلمون كانت دفاعية، حتى أنه يسمي هذه الحروب وقائع ويرفض تسميتها غزوات.

ويؤكد المؤلف أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف، ولم يُجبر الناس على اعتناقه بالقوة. ومن خلال حديثه عن المعارك التي خاضها المسلمون باسم الإسلام، يبين لنا كيف أن أخلاق المحاربين ساهمت إلى حد كبير في انتشار دينهم.

وفي الأبواب الخمسة التي يتألف منها الكتاب، وفي كل واحد منها عدة فصول، يستعرض الكاتب الفتوحات الإسلامية، منذ بدء الدعوة وحتى فتوحات العراق وبلاد فارس والشام ومصر وشمال إفريقيا، مفرداً حيزاً واسعاً لأخلاق المحاربين، وللمعاملة الإنسانية التي لقيها المغلوب أمامهم، وهامش الحرية الكبير الذي ترك له في اعتناق الإسلام أو البقاء على دينه، وهو أمر لم تشهد له الحضارات الأخرى مثيلاً.

أضف تعليق

التعليقات