بينما كنتُ أرافق ابني ذا الاثني عشر عاماً في يوم ممطر من أيام إنجلترا، فاجأني بمقولة هزَّت أعماقي، وحرَّكت كوامن فضولي، قال: “يا أبي يلزمنا أن نتواصل مع مَنْ نحب قبل أن نفقدهم”. أومأتُ برأسي له موافقاً ومؤكداً مقولته تلك، لكني استغربتُ مناسبتها الآن، فأردف بأنه شاهد حلقة في قناة (يوتيوب) لأحد مشاهير ألعاب الفديو في السعودية، وكان يحكي حسرةً عدم تواصله مع جدته التي وافتها المنية مؤخراً، ناصحاً متابعيه ألَّا يتأخروا في الاتصال بأجدادهم وأهلهم. كان ابني يروي لي هذا الموقف متأثراً وعازماً على أخذ النصيحة مأخذ الجِد، وفي المقابل كنتُ غارقاً في سؤال: كيف يمكــن لحلقــة يوتيوب واحــدة أن تؤثــر إيجــاباً في ابــني، بينما لم تفعل ساعــات من التعليم والتوجيه؟.
أسمحُ لأبنائي كل يوم بمشاهدة ما يرغبونه في اليوتيوب بإشرافٍ مني ومن زوجتي. أطفالي الذين هم دون العاشرة حمّلتُ في أجهزتهم نسخة اليوتيوب المخصصة للطفل، مع ضبط الإعدادات فيها وفق ما يناسب اهتماماتهم واحتياجاتهم العمرية. أما ابني الأكبر فلديه نسخة اليوتيوب العامة. وشروط استخدام الأجهزة الإلكترونيَّة في المنزل يعرفها أبنائي جيداً، وهي لا تتعدى الساعتين يومياً. وفي هذه الأثناء أحاول مشاركتهم ما يشاهدونه، ليطمئن قلبي من جهة، ولكي أنمِّي قدرة التقييم والنقد لديهم من جهة أخرى. ففي بعض الأحيان أجد مقاطع تحوي ألفاظاً غير لائقة، أو مشاهد يعتريها عنف، أو لا يناسب مضمونها ثقافتنا، فأتناقش مع ابني حولها، وأقنعه بواحدة من ثلاث: إما أن يكتب تعليقاً لصاحب المقطع يوضح تذمره، أو ينقر على شعار (العَلم) للإبلاغ عن عدم ملاءمته، أو حظر القناة التي يشاهدها.
تركِّز الدراسات التي تتناول تأثير الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي على الأضرار المحتملة وتبعاتها السلبية على الأجيال الناشئة، مثل ابتزاز الأطفال عبر حسابات مشبوهة لاستدراجهم عاطفياًّ نحو سلوكيات غير أخلاقية، أو الحصول على معلومات السكن والبيانات الشخصية بقصد الاحتيال أو الإيذاء، فضلاً عن احتمال تغرير المراهقين بأفكار ذات منزع متطرف أو يتعارض مع قيم وثوابت المجتمع. لذا أدرجت المؤسسات التعليمية البريطانية مناهج توعية جديدة في مدارسها تحت اسم “الأمان الإلكتروني E-Safety” مع اعتماد تثقيف الوالدين في البيوت أيضاً، للتأكد من سلامة استخدام الأبناء لشبكة الإنترنت.
إن الإقرار بوجود آثار سلبية في التعاطي مع الإعلام الجديد لا يعني العزلة عنه والفرار منه. بل على العكس، ينبغي التعامل معه بوعي على أنه ضرورة اتصالية، ومصدراً لتلقي الخبرات، وتكوين علاقات اجتماعية.
وتصف أبحاثٌ أخرى الجيل الناشىء بأنه “الجيل الرقمي”، وتقول إنه يمكن توظيف وسائل التواصل الاجتماعي إيجابياً لتعزيز الثقة في نفوس أبنائنا. وهنا أستحضر بعض المهارات التي اكتسبها ابني وابنتي من خلال اليوتيوب. فعلى سبيل المثال، تطوَّرت مهارة الإلقاء لدى ابني كثيراً. بينما لاحظت تنامي مهارة الوصف وتلمس مكامن الجمال في الأشياء لدى ابنتي ذات السنوات العشر عند شرحها لأعمال الرسم والتشكيل التي تقوم بها. وقد تعجبتُ أنها عند وصفها لأي شكل تُبرز نقاط القوة والضعف فيه، وكأنها تقنع المتلقي بجدوى اقتناء أعمالها، فدفعني الفضول لأعرف من أين اكتسبت هذه الملكة، فوجدت أنها تشاهد قنوات يوتيـوب مخصّصة للأطفال تعزّز التدبير المنزلي والفنون الجميلة.
أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي بوسعها أن تكون أدوات بنّاءة لنا ولأجيالنا، بشرط أن نعيَ الفرص الإيجابية التي تتضمنها، ثم نحتاط لتبعاتها وآثارها، لنقلِّص الفجوة بين الافتراضي والواقعي ولو من خلال مشاهدة حلقة يوتيوب معاً.