تخيَّل أن تشتري هاتفك الجوَّال اليوم، وتضطرّ لأن تشتري معه قرصاً صلباً، لأن القدرة التخزينية للجوَّال هي “صفر”.
بسبب أن القدرة على تخزين البيانات داخل أجهزة الحواسيب -وما في حكمها- كانت تطوراً تقنياً لاحقاً سبقته وسائط تخزين بدائية مثل الأوراق المثقّبة والشريط الممغنط. وكان يتوجب على المبرمجين الأوائل كتابة البرامج على بطاقات من الورق المقوّى، ثم تمرير شعاع ضوئي على هذه البطاقات التي تحمل رموزاً شبيهة بتلك التي تكتب بها رسائل مورس، ومن ثم يقوم الحاسب بقراءة هذه التعليمات.
تطوَّرت التقنيات الحاسوبية بشكل مدهش خلال الستين سنة الماضية. وعند الحديث عن هذا التطور لا بد من أن يُذكر قانون مُور الذي ينسب إلى أحد مؤسِّسي شركة إنتل للمعالجات، واسمه غوردون مُور. ففي مقابلة مع مجلة متخصِّصة أجراها عام 1965 حول ما ستكون عليه صناعة أشباه الموصلات في المستقبل، صرّح مُور بأن عدد المكوّنات الإلكترونية (الترانزستورات) التي من الممكن إضافتها على شريحة المعالج قد تضاعف تقريباً كل عام خلال السنوات العشر الماضية، وعليه فقد توقَّع أن يستمر هذا المعدل خلال السنوات العشر المقبلة أيضاً، لكن مُور عاد في عام 1975 وعدّل توقعاته، وقال إنه يعتقد أن التضاعف سيتحقق كل ثمانية عشر شهراً. وهذا ما كان بالفعل، واستمرت الوتيرة على هذا الإيقاع لمدة نصف قرن.
قيمة السرعة من قيمة السعة
الارتباط بين ازدياد قوة المعالجات والتقدم المذهل في عالم الحواسيب هو ارتباط واضح، لكن هناك ارتباطاً وثيقاً أيضاً بينها وبين ازدياد السعة التخزينية للأجهزة الإلكترونية مع انخفاض تكلفتها بشكل مذهل، فالقرص الصلب الممغنط (الهارديسك) كما نعرفه اليوم الذي تم اختراعه من قبل رينولد جونسون في شركة “آي بي إم” عام 1956، كان في البدء يزن طنّاً، إلا أن سعته التخزينية كانت أقل من خمسة ميجابايت، ولكن على إثر هذا الاختراع انطلقت صناعة تقدَّر قيمتها ببلايين الدولارات، حيث تلت هذا القرص أجيال متعددة خلال فترة الستينيات والسبعينيات، وفي كل جيل كانت السعة التخزينية تتضاعف عن سابقتها.
أحد أهم روَّاد تقنيات التخزين ويدعى مارك كرايدر الذي بدأ حياته العملية في السبعينيات، ثم أصبح أحد أبرز مهندسي وموجِّهي صناعة الأقراص الصلبة عندما ترأس جهود الأبحاث في شركة “سيغيت” في مجال الأقراص الممغنطة. وتوصَّل كرايدر إلى قناعة مفادها أن زيادة سرعة المعالجات حسب قانون مُور لا يمكن أن تتكفل وحدها بالتقدم المنشود في عالم الحوسبة، ما لم يصاحبها تقدُّم مماثل في القدرة على تخزين عدد أكبر من البيانات في البوصة المربعة الواحدة. وفي توقُّع مشابه لما سمي بقانون مُور، توقَّع كرايدر أن السعة التخزينية للبوصة المربعة للقرص الصلب ستتضاعف كل ثلاثة عشر شهراً، وسمي هذا التوقع بقانون كرايدر.
هذا النمو في السعة التخزينية مع الانخفاض المهول في تكلفة تخزين البيانات، إضافة إلى الارتفاع في قدرة المعالجات، شكَّل قاعدة ثنائية اتكأت عليها انطلاقة ثورة هائلة في الحوسبة عندما بات تخزين البيانات وتحليلها أمراً رتيباً وقليل التكلفة. فعلى حد قول أحد روَّاد صناعة الحوسبة: “لقد قضينا السنوات الخمسين الأولى من تاريخ الحوسبة الحديثة في إتقان عملية تجميع وتخزين البيانات. ويبدو أننا الآن سنتفرَّغ للنظر في طرق الاستفــادة منها”. وهـذا هو المشاهد الآن مع ثورة البيانــات الزاخرة Big Data التي نعيشها اليوم.
فبعد أن انخفضت تكلفة تخزين البيانات، أصبحت كبريات شركات الاتصالات والبيع بالتجزئة والشبكات الاجتماعية لا تتوانى عن حفظ شتى أنواع المعلومات التي تحصل عليها. إذ إنَّ كل فرد منا يقوم يومياً بتوليد كثير من البيانات حوله سواء عبر هاتفه، أو عبر تصفحه للإنترنت أو حتى بمجرد مروره بمطار ما، أو دخوله إلى مطعم ما. وباتت تلك الشركات تمتلك “مزارع بيانات” تغذيها بكل أنواع المعلومات لاستخدامها في شتى المجالات حتى تلك التي يحتمل أن تطرأ مع الزمن. وحسب تصريح شركة البيانات الدولية “آي دي سي”، فإن كمية البيانات التي يتم تسجيلها ونقلها يتضاعف كل عامين، حتى إنه من المتوقع أن تصل كمية البيانات التي يولدها البشر المرتبطون رقمياًّ إلى نحو 44 تريليون غيغابايت (أو 44 زيتا بايت) بحلول عام 2020.
الكمّ أساس للذكاء الاصطناعي
إن القدرة على تخزين وحفظ هذا الكم الهائل من البيانات بتكلفة منخفضة نسبياً كان له أكبر الأثر في تطور مجال الذكاء الاصطناعي وخوارزمات التعلم (Machine Learning). وأقرب مثال يوضح هذه المعلومة هو النجاح غير المسبوق لمترجم “غوغل” الذي تفوق في كثير من اللغات وخلال سنوات معدودة على كل خوارزميات الترجمة التي قضى خبراء الذكاء الاصطناعي أعمارهم في محاولات لتحسينها وجعلها أذكى. ومن الأمثلة الأخرى نذكر نوعاً جديداً من الحوسبة طورته شركة “آي بي إم” يدعى “الحوسبة الذهنية”، حيث يحاكي الكمبيوتر طريقة المخ في التفكير. فيقوم بالخوض في مخزون هائل من المعلومات ثم يربط ما بينها ويستخلص معلومات جديدة منها. وهي التقنية التي اعتمد عليها “واطسون” الحاسوب الفائق الذي اشتهر بأنه تغلَّب على أفضل لاعبين من البشر في لعبة Jeopardy.
يتضح إذن الدور الذي لعبه توفر البيانات؛ كونها الركيزة التي اعتمد عليها التطور المذهل في مجال الذكاء الاصطناعي، مما حدا ببعض الخبراء إلى تصنيف شركة “غوغل” بأنها الجهة الرائدة في العالم في مجال الذكاء الاصطناعي، وتفوق خبرتها ضعفي إلى ثلاثة أضعاف أقرب منافسيها، وبالطبع ما كانت لتحصل على هذه الريادة لولا امتلاكها هذا الكنز الثمين من المعلومات في مراكز تخزين البيانات.
حدودٌ تفرضها قوانين الطبيعة
لكن إلى متى يمكن أن يستمر هذا التسارع المطّرد في سرعة المعالجات وانخفاض تكلفة المساحات التخزينية؟ يبدو أنه ليس لوقت طويل، على الأقل في حال عدم ظهور تقنيات جديدة مختلفة كلياًّ عن الحالية. فعلى عكس القوانـين الحقيقية القائمة على ملاحظات وقياسات تجريبية أو معادلات حسابية، فإن قانون كرايدر مثله مثل قانون مور ما هما إلا مجرد توقعات ثبتــت صحتها مرة بعد مرة فأصبح ينظر لها وكأنها قوانين لا تخطئ. لكنها في النهاية تبقى توقعـات. وبالفعـل، قد بدأت التقنيــات في الوصول إلى مرحلة واجهت أو ستواجه فيها حدوداً قصوى تفرضها القوانين الطبيعية.
فبعد الازدياد المطّرد في عدد الدوائر الإلكترونية التي يتم تصنيعها بطرق مبتكرة ليمكن إضافة مزيد منها على شرائح المعالجات، أصبحت هذه الدوائر متلاصقة إلى حدّ أنها في بعض المعالجات المتطورة أصبحت تبعد عن بعضها بعضاً مسافة لا تزيد على 13 نانومتراً، أي أقل من عرض عديد من الفيروسات المعروفة! ومن المتوقع أيضاً أن تتناقص هذه المسافة حتى تصل إلى ما بين 2 إلى 3 نانوميترات مما يعني أنها ستكون على بعد عشر ذرات فقط من بعضها بعضاً. وحين تتحرَّك الإلكترونات بسرعة عالية بين هذه الدوائر ونظراً لقربها من بعضها بعضاً يضطرد ازدياد درجات الحرارة فيها ولا يعود بالإمكان التحكم في درجة الحرارة المنبعثة منها.
وإضافة إلى ذلك، وفي هذه الأبعاد المتناهية في الصغر، تبدأ قوانين الفيزياء الكلاسيكية في التراجع لتحلّ محلّها قوانين الفيزياء الكميَّة بكل فوضويتها، حيث لا يعود بالإمكان التنبؤ بدقة بحركة الإلكترونات. وحتى الآن، ليس لدينا التقنيات التي تمكِّننا من تصميم أو تصنيع دوائر إلكترونية تحت مثل هذه الظروف، ولا يبدو أن هناك أي تقنيات بديلة جاهزة لتحلّ محلَّ الحالية. لهذه الأسباب يتوقَّع خبراء المجال ألَّا يعود بالإمكان إحراز التسارع الذي يتماشى مع قانون مور، بل إن مور نفسه كان قد صرَّح في عام 2010 بأن قانونه لن يصبح سارياً على المعالجات بعد جيل أو جيلين على الأكثر.
أما بالنسبة لكريدر فإنه قد وصل بالفعل إلى حدّه الأقصى. وعلى حدّ قول عديد من خبراء مجال الوسائط التخزينية فإن القانون لم يعد سارياً بالفعل منذ عدة أعوام، حيث إنَّ توقعاته للوصول إلى سعة 20 تيرابايت في شريحة بحجم 2.5 بوصة لن يتم الوصول إليه في الوقت الذي يتنبأ به القانون، لأن ذلك يحتاج إلى تسارع أكثر من ضعف المعدل الحاصل الآن.
ولكن نهاية هذه القوانين لا تُقلِّل من شأنها، فأهميتها الحقيقية تكمن في كونها أصبحت معايير للنمو تشابه في دورها البوصلة التي يضعها القائمون على الصناعة لتوجيهها إلى المسار الصحيح، وللدفع بها لتحقيق أقصى درجات التطور الممكنة. فلولا هذه المعايير الطموحة لم تكن السعة التخزينية لمساحة القرص الصلب نفسها لتتضاعف من ألفي بت في البوصة المربعة حتى تجاوزت مؤخراً المئة مليون بت (جيجابت) أي خمسين ألف ضعف، وما كان أيضاً لعدد “الترانزستورز” التي يمكن رصها على شريحة السيليكون أن يتضاعف من عدة مئات إلى عدة بليونات، وهذا في حدّ ذاته إنجاز عظيم تصعب محاكاته.
سيرة قرص التخزين
• رينولد جونسون: مدرس علوم في مدرسة ثانوية في ولاية ميشيغان، اخترع في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي جهازاً لتصحيح أوراق الاختبارات الموحَّدة بشكل أتوماتيكي-الاختبارات التي يختار الطالب الإجابة من بين عدة خيارات. وسمعت شركة (آي بي أم) باختراعه فاشترت منه حقوق ملكية الاختراع، وعيَّنته مهندساً في أحد معاملها. في عام 1937 باعت الشركة الجهاز بشكل تجاري ولاقى رواجاً كبيراً.
• في عام 1956 قاد رينولد جونسون فريقاً بحثياً في معامل شركة “آي بي إم” لاخترع أول قرص صلب في العالم. وفي ذلك العام باعت الشركة أول قرص صلب بشكل تجاري كان وزنه طناً وسعته أقل من خمسة ميغابايت فقط لا غير.
• أول قرص تخزين وصل لسعــة الجيجابايــت صنع من قبل “آي بي إم” في عام 1980، وكان حجمه بحجم الثلاجة المنزلية ويفوق وزنه المئتي وخمسين كيلو جراماً، وبيع بسعر أربعين ألف دولار أمريكي.
حتى الآن ليس لدينا التقنيات التي تمكِّننا من تصميم أو تصنيع دوائر إلكترونيَّة تعمل تحت مثل هذه الظروف، ولا يبدو أن هناك أي تقنيات بديلة جاهزة لتحلَّ محلَّ الحالية
• عند الحديث عن السعة الاستيعابية لوسائط تخزين البيانات فإن مضاعفات وحدة القياس هي مضاعفات الرقم عشرة في النظام العشري. فالكيلو هو عشرة مرفوعة للقوة الثالثة، والميغا عشرة مرفوعة للقوة السادسة وهكذا. بينما عند الحديث عن سعة الذاكرة فإن الوحدة تصبح مضاعفات النظام الثنائي للرقم 2 فالغيغابايت في الذاكرة تعادل 1,073,741,824 بايت وليس 1,000,000,000 بايت.