باشر الدكتور معجب الزّهراني في شهر سـبتمبر الماضي إدارة معهد العالم العربي في باريـس، خلفاً للأستاذة منى خزندار التي شغلت المنصب نفسه منذ 2011م. وكان مجلس السّفراء العرب بباريس قد رشّح الزهراني لهذا المنصب، وحظي الترشيح بدعم من الرئيس الحالي للمعهد جاك لانغ، الأمر الذي علّق عليه المرشح السعودي بتغريدة على تويتر، جاء فيها: «كلنا في خدمة الثقافة العربية التي أضاءت العالم قروناً وستشع من جديد بكل تأكيد». وتعوّل الأوساط الثقافية في العالم العربي كثيراً على الزّهراني، خريج جامعة الملك سعود، والحاصل على الدكتوراة في الأدب المقارن من السوربون، لإعطاء دفعة جديدة وقوية لدور هذه المؤسسة الثّقافية الرّائدة.
عندما يدور الحديث في باريس عن جسر الثقافة بين الشرق والغرب، يتبادر فوراً إلى الذهن صرح ينتصب على ضفاف نهر السين، في مبنى معماري مهيب صممه المعماري الفرنسي الشهير جان نوفيل: إنه «معهد العالم العربي» أو «ليما» كما يسميه الفرنسيون اختصاراً، الذي افتتحه الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتيران في ديسمبر1987م، ليكون مؤسسة ثقافية تستقطب ثقافات العالم وتزاوج بينها، لتمنح الزائر والمثقف فسيفساء ثقافية متنوّعة، تتشكَّل في زخم حضاري مشرقي إسلامي، حاول قدر المستطاع تجاوز صدام الحضارات التي أسست له بعض الأقطاب الفكرية الغربية.
لطالما أُريد للمعهد أن يكون جسراً يربط بين العالم الإسلامي وأوروبا ليصبح مركزاً للثقافة الفرنكو عربية. وهذه الحقيقة البسيطة، التي تبدو واضحة للعيان، هي في الواقع نتيجة مخاض عسير من أجل أن يولد هذا المركز
وعندما نتحدّث عن معهد العالم العربي، فبالتأكيد سنخوض في ذلك التآلف بين ثقافات الشعوب في حوض البحر الأبيض المتوسط والعالم العربي وأوروبا. فلطالما أُريد للمعهد أن يكون جسراً يربط بين العالم الإسلامي وأوروبا ليصبح مركزاً للثقافة الفرنكو عربية. وهذه الحقيقة البسيطة، التي تبدو واضحة للعيان، هي في الواقع نتيجة مخاض عسير من أجل أن يولد هذا المركز الذي يقع عند تقاطع عالمين عاشا تاريخياً حالة من التوتر والصدام، ما جعل فكرة إنشاء مؤسسة تكون ملتقى لثقافة الضفتين، أمراً مستحسناً، في محاولة للتّخفيف من مخاطر الصدام بين العالمين العربي الغربي، عبر التبادل المعرفي والثقافي الذي يسهم بتكوين فكرة أوضح عند كل من الطرفين عن ثقافة الآخر.
تلعب هذه المؤسسة دور وسيط ثقافي بين شعوب تختلف في الحضارة والتاريخ والثقافة، وتقع عند تقاطع مهمّ لعالمين يتواصلان تارة، ويتنافران تارة أخرى. ومنذ تدشين هذا المعهد الذي أسهم في تأسيسه الدبلوماسي السّعودي المعروف جميل إبراهيم الحجيلان، طُرح عديد من التساؤلات حول دوره وإدارته وتوجهاته والأهداف التي أنشئ من أجلها. وبينما يعتمد المعهد في موارده الداخلية على المخصّصات السنوية التي تأتيه من قبل الأعضاء المؤسسين من الدول العربية والحكومة الفرنسية وبعض الدّول الإفريقية، فإنه في رأي كثير من المثقفين قد حجب بعض الشيء تظاهرات وفعاليات كان يجب أن يسعى إلى إقامتها أو تنظيمها، لتكون جسراً فاعلاً في التّعريف بالعالم العربي، خاصة في ظل الانتكاسات التي مسّت الجالية العربية المسلمة في الغرب جرّاء الأحداث التي شهدناها خلال السنوات القليلة الماضية.
الزهراني: الأحداث الطارئة لن تحرف
عمل المعهد عن مساره
ولأن تولِّي الدكتور معجب الزهراني إدارة المعهد يأتي في وقت يتسم بتحديات سياسية وعقائدية أخلَّت، ظاهرياً على الأقل، بالهدوء الذي ساد سابقاً التبادل الثقافي ما بين فرنسا والعالَمين العربي والإسلامي، توجهت إليه القافلة بالسؤال حول رؤيته لعمل المعهد في هذا الظرف بالذات. فقال: «إن المعهد يعمل منذ ثلاثة عقود لتنويع وسائل التواصل وتعزيز فرص التفاهم والحوار بين ضفاف المتوسط، لأن هذه هي وظيفته ورسالته الأهم. ولذا أقول إن الأحداث المأساوية الطارئة لن تحرِّف العمل الطويل عن مساره. بل أكاد أجزم أنها ستكرِّسه من حيث لا يدرك المجرمون، لأنها ستنبِّه الجميع إلى جديَّة التواصل الفاعل والخلَّاق وجدواه للجميع. فالحمقى لا يصنعون التاريخ، وإن عبروا بشكل فجٍّ وقبيح على مسرحه وأربكوا بعض مشاهده».
وحول رؤيته لدُور الثقافة ودورها في العلاقة بين الشعوب، يقول الزهراني: «الثقافة مفهوم جامع لكل أفكار البشر وقيمهم ومعتقداتهم وفنونهم. ولذا يصح أن نميِّز بين ثقافات حديثة وعتيقة، غنية وفقيرة، مرنة متفتحة وصلبة منغلقة، مسالمة وعدائية.. إلخ. ومن هذا المنظور، لا يسع المبدع الخلَّاق والمفكر النقدي الحر سوى الانحياز للخطابات الثقافية التي تنمِّي وتغذِّي الأفكار والقيم والسلوكيات الإنسانية الجميلة النبيلة التي تعين الأفراد والجماعات على تملُّك مزيدٍ من شروط وعي الإنسان بذاته وعالمه، بما هو كائن بشري عاقل حر مستقل قادر على التواصل مع الآخرين في إطار الاحترام المتبادل، والتعاون في سبيل ما من شأنه أن يشيع قيم السلام والحب فيما بين البشر».
مؤسسة من دون أموال
ومنافسات جديدة
ويرى كلود مولار، المستشار في معهد العالم العربي «أن فعاليات المعهد كانت دائماً تعكس التنوع والثراء الذي يزخر به العالم الإسلامي والعربي، وعلى الرغم مما يحمل من تناقض وتشنّجات، فإنه يمثّل حضارة عالم جدير بالتعريف».
ورغم ما يُقال عن العراقيل التي تواجه إدارته داخلياً، إلا أن نوعية البرامج التي يقدِّمها لجمهوره الزائر تكاد تكون متفرّدة ونوعية. ويعتقد رئيس معهد العالم العربي جاك لانغ أن العراقيل التي أحاطت بإدارة المعهد الداخلية، دفعت دائماً إلى النّقاش حول مضمون السّياسة الثقافية لهذه المؤسسة، التي ينبغي أن تكون من بين شبكة المؤسسات الثقافية الفرنسية الكبرى العاملة في الحقل الثقافي. ويضيف لانغ أن المفارقة في معهد العالم العربي هي في أنه رغم كونه «مؤسسة من دون أموال»، إذ إن الميزانية السنوية العامة للمعهد لا تزيد على 30 مليون دولار أمريكي، إلا أنه يقدِّم عروضاً ثقافية من الطراز العالمي.
غير أن ما يعتقده لانغ، وما يصبو إليه من خلال النشاطات التي تمرّ على جادة المعهد، تبقى تثير كثيراً من الجدل في الأوساط الثقافية الفرنسية والعربية. خاصة بظهور منافسة شرسة من خلال التطورات الحاصلة في المشهد الثقافي الباريسي والعربي. إذ إن افتتاح قسم الفنون الإسلامية بمتحف اللوفر في عام 2012م، وضع المعهد أمام تحدٍّ جديد، فأصبح المتحف المكان الأكثر جاهزية والمناسب لعرض الأعمال الفنية للعالم الإسلامي، مع كل ما لهذه النوعية من المعارض من بُعد فني ثقافي.
ولم تقتصر المنافسة أمام معهد العالم العربي على قسم الفنون الإسلامية في متحف اللوفر، ولكن بلدية باريس بادرت أيضاً إلى إنشاء «معهد الثقافات الإسلامية» (ICI)، في الحي الشعبي «باربيس»، في الدائرة الثامنة عشرة، والمخصص لاكتشاف تنوع الثقافات الإسلامية الحالية.
هذه المؤسسات الثقافية وثقلها على الساحة الباريسية، بالإضافة إلى تنوع مواردها المالية، رهنت إلى حدّ ما الاستراتيجية المعتمدة من قبل إدارة معهد العالم العربي، وهو ما دفع جاك لانغ للقول: «إن هذه المؤسسات الثقافية تعزِّز حاجتنا اليوم إلى مراجعة استراتيجية معهد العالم العربي».
الزهراني: «الأحداث الراهنة ستكرِّس أهمية المعهد ودوره، ونستعد لعام احتفالي تتواصل فيه النشاطات الفنية والمعرفية على مدى سنة كاملة»…
وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات تبدو في ظاهرها مكمّلة لمعهد العالم العربي، إلا أن برامج المؤسسات الثقافية التابعة لبلدية باريس تتداخل مع برامج معهد العالم العربي. وتبدو هذه المؤسّسات متفوّقة على المعهد، سواء في الاستراتيجية الثقافية أو في عامل الزمن، خاصة فيما يتعلَّق بتوقيت بعض التظاهرات التي تأتي متزامنة مع بعضها بعضاً. فافتتاح متحف الحضارات الأوروبية والبحر الأبيض المتوسط في مدينة مارسيليا الجنوبية في عام2013م، تطلَّب لجوء إدارة معهد العالم العربي إلى توضيح مهمات كل مؤسسة على حدة.
ولم تكن مسألة تداخل المهمات بين هذه المؤسسات الثقافية، عائقاً أمام نشاط معهد العالم العربي، لكن الأزمات التي عصفت به بدءاً بالأزمة المالية بعد تراجع اشتراكات بعض الدول العربية الأعضاء، إلى الأزمة القانونية التي أصبحت إلى حدّ ما تشكّل هاجس الدول الأعضاء في السنوات الماضية. فمعهد العالم العربي مؤسسة مشتركة، تقع على الأراضي الفرنسية وتخضع للقانون الفرنسي. ووضع هذا الواقع الدول العربية ذات العضوية الكاملة في وضع غير واضح المعالم فيما يتعلَّق بالقانون الأساسي للمعهد. ففي حال تعديله من طرف الدولة الفرنسية، تجد هذه الدول نفسها أمام الأمر الواقع وليس كشريك في المؤسسة. ولذلك، طلبت الدول العربية تعديل القانون الأساسي لمعهد العالم العربي ليكون «مؤسسة دولية»، وهو الأمر الذي عارضته الخارجية الفرنسية التي يقع المعهد تحت وصايتها، ورفضت تغيير القانون الأساسي للمؤسسة الثقافية، مبررة ذلك بما سيؤول إليه المعهد في حال خضوعه لقانون خارجي.
وإذا كان المعهد الذي يربط الشرق بالغرب، قد عرف هذه الأزمات، فإن الأهمّ من كلّ ذلك ما أجّجه الوضع الدولي للدول العربية التي تعصف بها الاضطرابات الداخلية، إذ مرَّ المعهد بأزمات سياسية، كان الأجدر ألَّا يقع بين مخالبها. فالدول الأعضاء غالباً ما اصطدمت واختلفت في وجهات النظر حول قضايا تتقاطع فيها مصالح كلّ دولة على حدة بما فيها فرنسا. وكشف الأمر تناقضات ومآزق مؤسسة وُجِدت لتكون حلقة وجسراً للثقافات. وهذا ما أدّى إلى التساؤل حول إمكانية اعتماد مؤسسة لأن تكون جسراً ثقافياً وتتخلَّى عن كل الأدوار لتحتفظ فقط بالدور الذي وجدت من أجله؟ وهل يمكن لمؤسسة ثقافية أن تتجاوز كل الاعتبارات المصلحية بين الضفتين، أمام المصلحة الثقافية العامة والمشتركة؟
يقول المثقف الفرنسي تيري فابر: «تكمن المفارقة في أن وراء تراكم الأزمات، ظلّ نشاط معهد العالم العربي والدور المنوط به قائماً، يستجيب لتوقعات متنامية، ويلعب دور المؤانسة الفكرية». وكأن فابر يودُّ التذكير بأن إنشاء هذا المعهد كان رهاناً، وأن هذا الرهان ظهر نتيجة لاتفاق تاريخي.
كان هذا الاتفاق عبارة عن فكرة مقترحة من قِبل فرنسا في عام 1974م، واندرجت ضمن توجهها نحو السياسة العربية بعد تداعيات حرب 1973م، ومحاولة الشروع في الحوار العربي الأوروبي، حيث كانت فرنسا تطمح للعب دور أكبر في العلاقة مع العالم العربي.
لم تقتصر المنافسة أمام معهد العالم العربي على قسم الفنون الإسلامية في متحف اللوفر، ولكن بلدية باريس بادرت أيضاً إلى إنشاء «معهد الثقافات الإسلامية» (ICI)، في الحي الشعبي «باربيس»، في الدائرة الثامنة عشرة، والمخصص لاكتشاف تنوُّع الثقافات الإسلامية الحالية…
وفعلاً، جاء في القمة العربية بالجزائر في نوفمبر عام 1973م «أن أوروبا ترتبط بالعالم العربي من خلال البحر المتوسط، ولها مصالح حيوية لا يمكن أن تتطور إلا في إطار التعاون الموثوق والمنفعة المتبادلة». وإنشاء مركز للثقافة يعزِّز التعريف بحضارة العالم العربي بشكل أعمق.
وفي داخل مبنى المعهد، يمكن للزّائر اليوم أن يقف على ثلاثة معارض فنيّة دائمة، هي: معرض العالم العربي قبل الهجرة النّبوية، معرض العالم العربي الإسلامي، وأخيراً معرض توسّع الإسلام في إيران وتركيا والهند، بالإضافة إلى معارض أخرى دورية. وتقدِّم المكتبة لمرتاديها أحدث الإصدارات العربية، وإصدارات أخرى مترجمة من العربية، ويقدِّم المطعم وجبات من فن الطبخ العربي، كما أن المعهد يُصدر مجلة دورية تحمل اسم: قنطرة.
من أجل تبادل ثقافي
كانت مهمة معهد العالم العربي في باريس، الحفاظ على علاقة تبادلية ثقافية فاعلة، وتتناغم في النقاش ومع التشكيلات والتركيبات الثقافية في العالم العربي، وليس اختراع ثقافة عربية أحادية الطرف.
هذه المهمّة التي لم ترقَ حتى اليوم إلى المصاف اللائق بها أو المرجو من إنشاء المعهد، رغم أنه حاول أن يرجّح الكفّة نحو العالم العربي، ولكن من دون أن يلتفت إلى العالم الإسلامي. فتيري فابر يرى أن البُعد الإسلامي الثقافي الذي كان يجب أن ينفتح عليه معهد العالم العربي لم يلتفت أحد نحوه، إذ إن البُعد الإسلامي هو بُعد ثقافي مهمّ في العالم العربي. فمن دون أن يتجاهل القائمون على إدارة المعهد هذا البُعد عمداً، فإنهم لم يولوه الاهتمام الكافي في استراتيجية المعهد وبرامجه.
وفي ظلّ هذا الوضع، فإن مهمة الرّئيس الجديد لمعهد العالم العربي الدكتور الزّهراني ستكمن في العمل على إرساء لبنة جديدة، تمكّن المعهد من أن يؤدي دوراً أكثر فاعلية في مجال التواصل بين العالمين العربي والأوروبي، وتقديم جرعة جديدة من الثقافة العربية للأوروبيين، ونشرها أيضاً في أوساط الجاليات العربية المقيمة هناك.
ولمناسبة احتفال المعهد في العام المقبل بذكرى مرور ثلاثين سنة على تأسيسه، يكشف الزهراني أن «هناك برامج احتفالية بهذه المناسبة ستتواصل على مدى عام كامل، وستشمل فعاليات فنية ومعرفية في غاية التنوُّع والثراء. وكل أملنا أن تجذب أكبر عدد من الجمهور، وأن تشكِّل مرحلة جديدة في حياة المعهد ليواصل رسالته التي أشرنا إليها سابقاً».