فنان و مكان

ليوناردو دافنشي وإسطنبول

لم يزر ليوناردو دافنشي مدينة إسطنبول التي كانت على عهده عاصمة السلطنة العثمانية. ولكن ثمة صلة نشأت بينه وبين هذه المدينة، وما زالت تتوالى فصولاً حتى عصرنا هذا.

في عام 1500م، احتل الفرنسيون دوقية ميلانو، ففرّ منها ليوناردو دافنشي، بعدما خسر راعيه وحاميه الدوق لودوفيكو سفورزا الذي وقع أسيراً في قبضة الفرنسيين. واستقر الفنان في البندقية لمدة سنوات ثلاث، حيث عمل مهندساً عسكرياً. وفي البندقية، تعرّف على التجّار العثمانيين وبدأ بنسج بعض الخيوط مع السلطنة.

هناك رواية متوارثة في تركيا تقول إن السلطان محمد الفاتح وجَّه دعوة إلى ليوناردو لزيارة إسطنبول. ولكن هذه الرواية غير مثبتة ولا وثائق تدعم صحتها. الثابت والمؤكد بالوثائق هو أن ليوناردو تقدَّم من السلطان (وعلى الأرجح بمبادرة شخصية منه) بأربعة مشاريع هندسية، عدّدها باختصار في رسالة وجهها إلى السلطان، مكتوبة بالتركية وبأحرف عربية (ربما على يد مترجم)، ومحفوظة اليوم في متحف توبكابي. وهذه المشاريع الأربعة هي حسب تسلسلها في الرسالة: طواحين هوائية، نظام مضخات لسحب المياه من الآبار من دون حبال ولا قوة شدّ، وبناء جسر من الحجر فوق «القرن الذهبي» يسمح للسفن بالمرور من تحته، وبناء جسر فوق البوسفور. والرسم الأولي للجسر فوق القرن الذهبي محفوظ اليوم في المعهد الفرنسي في باريس.

المشروع الذي بدا مستحيلاً
«القرن الذهبي» هو الاسم القديم الذي كان يُطلق على قناة مائية طبيعية متفرعة من مضيق البوسفور في الشطر الأوروبي من إسطنبول، وتُعرف اليوم باسم «هليج» (بالعربية: الخليج). ويبلغ طول هذه القناة نحو 10 كيلومترات، وعرضها عند مدخلها نحو 240 متراً. ويتألَّف الجسر الذي صممه دافنشي ليُبنى فوق هذه القناة من قوس واحد، يسنده من الجانبين قوسان مائلان. وعلى الرغم من أنه أكَّد في رسالته استعداده للحضور إلى إسطنبول للإشراف على بناء الجسر بنفسه، فإن السلطان بايزيد الثاني رفض المشروع فور الاطلاع عليه، لأنه بدا له غير قابل للتنفيذ. إذ لم يسبق أن أنشئت أي قنطرة حجرية يبلغ طولها أكثر من مئتي متر في أي مكان من العالم. وما بين رفض المشروع من العميل، وتمكّن ليوناردو من الحصول على راعٍ جديد هو الأمير سيزار بورجيا في روما، بقي هذا الجسر حبراً على ورق، حتى مطلع الألفية الجديدة.

النموذج النرويجي المصغّر
بخلاف مشروع دافنشي لجسر البوسفور الذي كان بالفعل غير قابل للتنفيذ قبل عصر تصنيع الكابلات الفولاذية، فإن تصميمه لجسر القرن الذهبي، حظي في القرن العشرين بدراسة مستفيضة أكدت إمكانية بنائه. وبالفعل قام الرسام والنحات النرويجي فيبيورن ساند ببناء جسر للمشاة فوق الطريق السريع الذي يربط مدينتي أوسلو وبيرغن، اعتماداً على تصميم ليوناردو لجسر القرن الذهبي. وفي عام 2001م، تم تدشين هذا الجسر الذي بلغت مقاييسه ما بين 25 و30 في المئة من مقاييس الجسر الأصلي كما وضعها دافنشي. وكان الأمر دليلاً إضافياً على أن دافنشي كان بالفعل سابقاً لعصره في علمه ونظرته إلى الأمور.

العودة إلى تركيا
في 21 أكتوبر من عام 2012م، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكان آنذاك رئيساً للوزراء، عن عزم بلاده على إنشاء الجسر الذي صممه ليوناردو دافنشي فوق القرن الذهبي. وأضاف خلال كلمته في حفل تدشين مشروع مائي في القرن الذهبي، أن الجسر لن يكلِّف بلدية المدينة شيئاً، بل سيكون هدية من رعاة متطوعين يعملون لتقديمه هدية للمدينة. وبالفعل كانت هناك لجنة قد تشكَّلت، وبدأت دراسة المشروع منذ ما قبل سنوات ثلاث على ذاك الإعلان الرسمي. وضمت هذه اللجنة الفنان النرويجي ساند نفسه، وعالم الفيزياء التركي المقيم في أمريكا بولنت أتامان، ومؤلف الأوبرا الهندي دانيال نازاريت وغيرهم من الشخصيات العالمية المرموقة. وسيبلغ طول الجسر عند إنشائه نحو 220 متراً، وعرضه 10 أمتار، وسيعلو عن سطح الماء في وسطه 25 متراً، مما يسمح للسفن بالمرور من تحته، كما وعد ليوناردو دافنشي قبل أكثر من خمسة قرون.

 

أضف تعليق

التعليقات