سجل التاريخ المعجمي عند العرب أن الزمخشري صاحب أساس البلاغة، كان أول من خرج على شرعية عصر الاحتجاج اللغوي حين استشهد بأدباء وشعراء عصره وما قبلهم من المولدين. وكانت حجته في ذلك أن روح اللغة تكمن في تراكيبها الدلالية (سياق الجمل وترابطها النحوي)، لا في ألفاظها سواء العربية منها أو الدخيلة المقترضة فحسب. وإنَّ التدفق اللغوي المصاحب للتمدن والتكنولوجيا لا يشكِّل خطراً على اللغة، ما لم تزعزع النظام النحوي والصرفي لهذه اللغة؛ لأن الألفاظ هي في مستوىً أقل شأنًا من التراكيب الدلالية. واللغة ليست مجرد ألفاظ مفردة، بل هي بناء ملتحم قوامه الحروف والأفعال والأسماء تُبْرِزُ في مجموعها ما تنضوي عليه اللغة من فكر وذوق وحضارة. والألفاظ الدخيلة تسبك في هذا البناء من دون أن تؤثر على كيانه اللغوي، بل ربما زادته قوة وسعة.
إن العُرف العام هو الذي يسمح بدخول الدخيل إلى اللغة العربية، وإنَّ عنصر السماع في تقبله هو العامل الأهم، ولا بُدَّ له من الخضوع لطبائع العربية من حذف أو إضافة أو وزن أو إيقاع صوتي متجانس مع لغة العرب حتى إذا شاع استعماله واستشرى خطره صنف مع نظائره في الاستعمال اللغوي، وبعد ذلك يأتي دور الدرس اللغوي من قِبَل العلماء لتسويغ وجوده في لغة العرب إذ لا يعقل وضع مواصفات مسبقة للمعرّب كظاهرة لم تتضح معالمها أو تتعيَّن ملامحها.
وخضعت الألفاظ الحضارية العامة من المعرَّبات لظروف عفوية دعت إليها ضرورة الاستعمال، وكان من الصعب وضع معيار لضبطها، أو تقعيدها فهي أشبه بكيانات مستقلة تعامل كلّ لفظة منها في إطار ملابسات نقلها واستعمالها. ومن أمثال هذه المعرَّبات الحديثة ما نجده من اختلاف في نطقٍ مثل:
- تاكسي من الإنجليزية taxi، وعربيَّتها سيارة أجرة، وهي تلفظ بـ: طاكسي. تكسي. تكس.
- وتلفون من الإنجليزية telephone، وعربيته: الهاتف. يلفظ: تَلِيفُون. تيليفون. تلفون.
- والسَّلَطَة من الإيطالية salata، وهي مخلوط من الخضراوات والملح (حرفياً: مملحة)، تلفظ: سلاطة، زلاطة.
أقول: إن سبب تعدُّد نطق مثل هذه الألفاظ هو شيوعها على ألسنة العامة والخاصة على السواء، وأنها من ألفاظ الحضارة العامة التي تخضع للعُرف اللغوي السائد، والعوامل السماعية الأخرى.
أما الألفاظ والمصطلحات العلمية فهي لغة طائفة مخصوصة من أهل العلم، وهم يتفقون فيما بينهم على أسس وقواعد في التعريب. أهم ما يميز مسلكهم في تلقي الدخيل أنهم يعتمدون على الكتابة والنظر لا على السماع والنطق فحسب. وفي أروقة المجامع العربية ومن خلال جهود مجموعات اللجان المختلفة يقررون ما تكون عليه صيغة الدخيل والمصطلحات. من ذلك قرار المجمع اللغوي بمصر إساغة بعض اللواحق الأجنبية في اللفظ: عند تعريب أسماء العناصر الكيميائية التي تنتهي بالمقطع (ium) يعرّب بـ (يُوم)، (مالم يكن لاسم العنصر تعريب أو ترجمة شائعة)، كما في:
• أُلمِنيُوم وبوتاسيوم وكالسيوم
• و«نحاسوز تعريباً لقولهم cuprous
• ونحاسيك تعريباً لقولهم cupric
و«تترجم اللاحقة Logy للدلالة على العَلَم بـ (التاء) في آخرها. فيقال: جيولوجية. بيولوجية. سوسيولوجية»…
وغني عن البيان أن أمثال هذه المعالجات إنما تعالج كلمات علمية، والمعنيون بها يتعاملون مع هذه الكلمات في مراجعها ومعاجمها. والرمز (مج) في (المعجم الوسيط) يشير إلى طائفة الألفاظ المجمعية، وهي جانب من الألفاظ المُحدَثَة، غير أن هذه الألفاظ تتضمن ألفاظاً معربة ومولدة ودخيلة. وكان دور المجمع في الواقع دوراً أساسياً في وضعها الاصطلاحي، وتحديد مفهومها الجديد.