ويبقى من نجيب محفوظ الكثير. ويبقى اسمه لطالما بقي هناك حديث عن الأدب العربي في القرن العشرين.
وعلى الرغم من طوفان المقالات التي تناولت أديبنا العربي الكبير يوم حاز جائزة نوبل للآداب، والطوفان الثاني منذ انتقاله إلى المستشفى حتى ما بعد انتقاله إلى جوار ربه، تبقى سيرة هذا العملاق وأدبه وآثاره أكبر من أن تُستنفد سرداً ونقداً وتقديراً.
الناقد جهاد فاضل، الذي عرف نجيب محفوظ عن قرب، يروي لنا صفحات من علاقة الأديب الراحل بعصره بدءاً من ثورة 1919م وحتى ما بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب في عام 1988م، مؤكداً أن الروائي نجيب محفوظ كان بالفعل الراوي العبقري لمصر وللعرب جميعاً.
في خريف 1988م، وبعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، التقيت في القاهرة الدكتور يوسف إدريس فقال لي إنه أجدر من نجيب محفوظ بالجائزة لأسباب كثيرة، وإنه لو فاز بها لحولَها إلى أداة للنضال ضد الإمبريالية والاستعمار، في حين أنهم عندما أعطوها لنجيب محفوظ، فقد أعطوها في الواقع لميوله السياسية.
وأضاف: إن من المتعارف عليه في كل مكان أن الرواية هي فن المدينة ، ولكن نجيب محفوظ حوَلها إلى فن الحارة … ثم أن روايته بوجه عام رواية بلزاكية تقليدية في العمق، لا رواية حديثة أو فنية.. .
على أن يوسف إدريس لم يكن وحده يومها في مثل هذا النقد القاسي والجائر لتجربة نجيب محفوظ، وهي تجربة تضع صاحبها ليس فقط في موقع المؤسس للرواية المصرية والعربية، بل وأيضاً في موقع المطور لهذه الرواية، والبالغ بها قمماً عالية بالمقارنة مع الرواية الحديثة في العالم. فهناك كثيرون حاولوا النيل مما صنعه محفوظ، منهم على سبيل المثال، الدكتور لويس عوض الذي لم يَرَ في روايات محفوظ، سوى أنها وصف آخر لمصر، على غرار كتاب وصف مصر الذي وضعه مثقفون وباحثون فرنسيون رافقوا حملة بونابرت على مصر. فالواقع الذي لا يختلف عليه أحد أن من العسير فهم مصر وتاريخها الحديث خلال القرن العشرين كله، وهو قرن مليء بالأهوال والأحداث الكبرى، من دون أن نقرأ نجيب محفوظ، حتى لو قرأنا مئات الكتب في التاريخ والسياحة والاقتصاد، وغير ذلك. ولكن هذا شيء، والقول إن نجيب محفوظ كان مجرّد وصّاف مصر شيء آخر. لقد كان فعلاً هذا الوصَّاف، ولكنه كان وصَّافاً فذَّاً، ولدرجة القول إنه لو جرى حذف أدب نجيب محفوظ من المكتبة العربية المعاصرة لفقدت هذه المكتبة ركناً أساساً فيها لا يمكن لأي ركن آخر فيها أن يعوضه..
لم تكن الحارة التي اهتم بها نجيب محفوظ وآخذه على اهتمامه بها يوسف إدريس، مجرد حي من أحياء القاهرة القديمة، كالجمالية، قلب القاهرة القديمة التي تربى فيها محفوظ، وإنما كانت صورة حيّة لمجتمع مصر في صراعاته وتطوراته المختلفة مع كل جديد في الحضارة الحديثة. فالحارة تصبح صورةعن المجتمع، بل صورة للعالم كله وما فيه من أفكار ومصائر وصراعات. وهذا ما نجده بوضوح في روايتين من أهم روايات محفوظ هما أولاد حارتنا ، و الحرافيش التي يعتبرها كثيرون من النقَّاد ملحمة روائية بالغة القيمة والمتعة.
الوفدي والسلام
ولم يكن اتهام يوسف إدريس، أو سواه، لنجيب محفوظ بالدعوة إلى السلام كسبب مهم لمنحه جائزة نوبل، بالاتهام الذي صمد مع مرور الزمن. فقد تهاوت هذه التهمة كما تتهاوى أية تهمة لا تستند إلى أساس سليم. ذلك أن محفوظ مُنح الجائزة لعدة أسباب منها كفاءته ومنها مصريته. لقد كانت الجائزة بمثابة التحية لعبقرية القصة ولعبقرية المكان، على حد تعبير جمال حمدان، أي التحية لمصر ونهجها المعتدل في بيئتها ومحيطها. وقد لا يعلم كثيرون أن نجيب محفوظ الذي عاش نصف عمره في مصر الملكية ونصف عمره الآخر في مصر 23 يوليو، كان وفدياً متعصباً للوفد، أي وطنياً منحازاً بلا حدود إلى الحركة الوطنية في بلاده. وإذا كان قد دعا يوماً إلى انخراط مصر والعرب في عملية السلام، فهناك كثيرون رأوا رأيه، ولم ينقص هذا الرأي من وطنيتهم.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن نجيب محفوظ، سواء كإنسان أو كروائي، كان عاشقاً خالداً لمصر. وهذا ما يتبدَّى بوضوح في رواياته. وقد قال لي مرَّة إن سعد زغلول كان مثله الأعلى، وإن وفديته سترافقه إلى قبره. أي أنه رغم كل ما حصل في مصر منذ 23 يوليو وصولاً إلى وقتنا الراهن، فقد ظلَّ وفياً إلى ثورة 1919 وقيمها ومبادئها. ولا شك في أن كل من قرأ رواياته يعيش مذاق مصر الحقيقي، ويضع يده على مفاتيح الشخصية المصرية، ويدخل بها إلى خفايا الروح الأصلية لمصر.
وقد ذكر نجيب محفوظ مرة أن الصهيونية لو أرادت أن تكافئ كاتباً على موقف تشجعه هي، فقد تضع في يده، أو في حسابه بالبنك، مبلغاً من المال على سبيل الرشوة، لا أن تسعى في حصوله على جائزة أدبية هي الأولى في مجالها في العالم. ولو كانت جائزة نوبل جاءتني لموقفي من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، فإن بالجائزة فرعاً آخر يناسب هذا الموقف، وهو جائزة نوبل للسلام وليس الأدب. بل إدونيس أو توفيق الحكيم يستحقّانها. فهما مؤيدان للسلام مع إسرائيل أكثر من تأييدي أنا له عشرات المرات !
ووصف نجيب محفوظ نفسه مرة بأنه من براعم ثورة 1919م. فإذا كان للثورة رجالها الذين قادوها، وشبابها الذين اشتركوا فيها، فأنا من البراعم التي تفتحت وسط لهيب الثورة وفي سنوات اشتعالها، ولم يكن عمري حين قامت ثورة 1919م يزيد على سنوات سبع . ولكن نجيب محفوظ لم يكن بتاع سلطة أو سياسة. فلم تكن السلطة في يوم من الأيام هدفه ومأربه، وذلك لسبب بسيط، هو أنه لم يكن يستطيع الجمع بين السلطة والأدب. فالأديب الذي يقدِّس مهنته ويعشق قلمه، يفضِّل أن يبتعد عن السلطة بهمومها ومتاعبها والتزاماتها. وفي خلال المدة التي عمل فيها بمؤسسة السينما -وتبلغ حوالي عام ونصف العام- لم يقرأ أو يكتب كلمة. وكان كل وقته محصوراً في الوظيفة وما يتصل بها من متاعب وقيود.
مع السلطة.. مدّ وجزر
وعندما تزوج في عام 1954م بعد أن ظل لسنوات عازفاً عن الزواج، بسبب تفرغه للأدب، توقع العديد من أصدقائه أن تتراجع جرأته في تناول قضايا المجتمع، وتقل شجاعته في نقد الأخطاء والسلبيات خوفاً على أسرته. كما توقعوا أن تدفعه مسؤولياته العائلية الجديدة إلى أن يكون مسالماً وبعيداً عن الصدام مع السلطة الجديدة، سلطة عبدالناصر ورفاقه. ولكن توقعاتهم خابت. فقد ازدادت كتاباته عنفاً وجرأة. ولهذا الأمر أسبابه، ويأتي على رأسها أنه عندما كان يمسك بالقلم، كان ينسى كل شيء: خوفه، مسؤولياته، وأسرته، وحتى نفسه. ثم إن انتقاداته كانت موضوعية ولا تحيط بها أية شبهات. وكان يقول: إن ثورة يوليو أدركت تمام الإدراك أنني لست من بين خصومها، وقد أعلنت عن تأييدي للكثير من القرارات التي اعتبرت وقتذاك أنها سلمية وحتمية مثل تأميم القناة، ومجانية التعليم.. فأنا إذن لم أكن ضد النظام، وكنت في نادي القصة أعمل مع يوسف السباعي أحد رجال النظام، وأعمل مع محمد حسنين هيكل في الأهرام . وفي عهد الثورة حصلت على جائزة الدولة في الآداب عام 1957م. كما منحني الرئيس عبدالناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى وقد تسلمته منه شخصياً.
قصص تودي في داهية
على أن علاقاته مع ثورة يوليو لم تخلُ من متاعب كادت توصله أحياناً إلى حافة الخطر. فقد انتقد غياب الديموقراطية في مصر في تلك الفترة. إذ نشر مرة في الأهرام قصة بعنوان سائق القطار . وبعد النشر سرى همس في أوساط المثقفين أنه كان يقصد عبدالناصر. وتدور القصة حول سائق قطار يفقد صوابه، ويتسبب في حادث مرور مروّع. كان التفسير الذي أعطي للقصّة هو أن نجيب محفوظ يشير إلى أن عبدالناصر يقود مصر إلى الكارثة.. وكادت الكارثة تحلّ بمحفوظ لولا أن محمد فريد أبو حديد رئيس تحرير مجلة الثقافة (الذي لم يكن يعرفه) كتب مقالاً في مجلته توصل فيه إلى أن كاتب القصة يرمز إلى الصراع بين الشرق والغرب!
ويقول نجيب محفوظ إنه حمد الله لأن محمد فريد أبو حديد توصل إلى هذا التفسير فشعر بالراحة لأن المقال أزاح عن صدره هماً ثقيلاً، لدرجة أنه -وبشيء من الحماقة- اتصل به لكي يشكره، دون أن يلتفت إلى أنه بهذا الاتصال الهاتفي يؤكد التهمة!
أما الورطة الثانية -زمن ثورة يوليو- فكانت بسبب روايته ثرثرة فوق النيل . فبعد نشرها ثار المشير عبدالحكيم عامر. وبلغني أنه هدَّد وتوعَّد بإنزال العقاب بي بسبب النقد العنيف الذي ضمنته الرواية، حول سلبيات قائمة في المجتمع. وسمعه البعض يقول: نجيب زوَّدها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حدّه . وتدور الأيام ويحضر ثروت عكاشة ليهنىء نجيب محفوظ بفوزه بجائزة نوبل، فيحكي له عكاشة تفاصيل ما دار في كواليس السلطة عن أزمة رواية ثرثرة فوق النيل . فقد كان عكاشة وقتذاك وزيراً للثقافة. وبينما كان يستعد لرحلة عمل في إيطاليا، استدعاه الرئيس عبدالناصر وسأله عما إذا كان قد قرأ رواية محفوظ. ولما لم يكن قد قرأها طلب منه عبدالناصر أن يقرأها وأن يبدي رأيه فيها بعد العودة. ولكنه في أول لقاء له مع عبدالناصر، دافع عن الرواية وفنَّد اتهامات المهاجمين لها وأكد للرئيس أن محفوظ ينبِّه إلى أخطاء موجودة ولكن ليس لديه سوء نية في مهاجمة نظام الحكم!
على أن كل تلك المتاعب لا تذكر بجانب تلك التي حدثت بعد ما سمِّي بالنكسة. فقد رفض محمد حسنين هيكل نشر رواية المرايا ، فنشرها رجاء النقَّاش في مجلة الإذاعة والتلفزيون. ورفض أحمد بهاء الدين عندما كان رئيساً لتحرير الأهرام نشر روايته الحب تحت المطر فنشرها رجاء النقَّاش أيضاً في مجلة الشباب ، بعد أن حذفت منها الرقابة أشياء كثيرة. أما روايته الكرنك فقد كانت أكثر الروايات التي عانى محفوظ في نشرها حيث قدَّمها بدايةً إلى محمد حسنين هيكل الذي بعد أن قرأها ظن أنها هجوم مباشر على عهد جمال عبدالناصر، فحمل أصول الرواية، وذهب إلى مكتب توفيق الحكيم يشكو محفوظ إليه. وقد حكى الحكيم لمحفوظ استنكار هيكل لما جاء في الرواية، وقال له: يرضيك كده.. خد شوف نجيب باعت لي إيه !
ومن أطرف ما رواه نجيب محفوظ أنه لم يقابل عبدالناصر سوى مرة واحدة في حياته حيث كلَّمه فيها وجهاً لوجه. جاء عبدالناصر ليزور مبنى الأهرام الجديد. مرَّ على غرفة يجلس فيها أدباء الأهرام وكان هيكل برفقته. وعندما جاء دوره ليصافح عبدالناصر، قال له وهو يبتسم: إيه يا نجيب.. بقى لنا زمان ما قريناش لك حاجة.. فرد عليه هيكل: ستنشر له الأهرام قصة غداً.. وأردف: ولكنها من النوع الذي يودِّي في داهية.. فعقَّب عبدالناصر على الجملة الأخيرة موجهاً حديثه إلى هيكل: يودِّيك إنت .
أما حكاية أولاد حارتنا فمعروفة بما فيه الكفاية. وقد روى نجيب محفوظ مرَّة أن الدكتور حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبدالناصر قال له عندما نشرت الرواية مسلسلة في الأهرام إن من غير الممكن إصدار الرواية في كتاب في مصر بعد ذلك نظراً لاحتجاج الأزهر عليها. ولكنه وعده بترتيب لقاء لمحفوظ مع شيوخ الأزهر لمناقشة الرواية. وقد اتفق معه على أن يحضر إلى مكتبه في يوم محدد، يحضر فيه أيضاً شيوخ الأزهر، يومها حضر نجيب ولكن علماء الأزهر لم يحضروا. وظل نجيب محفوظ يردد إلى أن مات، أنه ما زال بانتظار هذه المقابلة منذ حوالي النصف قرن!
وقد لا يعلم كثيرون أن نجيب محفوظ كان رجل نكتة ومقالب درجة أولى كما يقولون، أي بعكس الصورة التي تظهره رجلاً بالغ التقليدية. وقد ذكر مرَّة أنه عقب سقوط الملكية في مصر، وقيام الثورة، كان يلتقي توفيق الحكيم يومياً في ركن خاص به في مقهى بترو بالإسكندرية، وهو مقهى يؤمه الباشاوات والإقطاعيون من المهتمين بالأدب والثقافة. كان من هؤلاء شمس الدين باشا عبدالغفار وبرهان باشا نور. وعندما انضم نجيب محفوظ إليهم شعر بتحفظهم نحوه وخوفهم من وجوده. ولاحظ الحكيم ذلك فحاول إزالة هذه التحفظات والمخاوف ونجح في ذلك. ويقول نجيب محفوظ: بعد قيام الثورة استمرت لقاءات شلة الحكيم وأصبح روَّادها من الباشاوات السابقين. كنت أستغل تحفظهم في أحاديث السياسة لأداعبهم وأسخر منهم. أتحدَّث مثلاً عن أحد الأفلام السينمائية المعروضة، وأستخلص منه مغزىً سياسياً خطيراً، وأشير إلى اتفاق شمس الدين باشا معي في الرأي الذي توصلت إليه. فيقفز شمس باشا من مقعده وهو في حالة من الهلع مؤكداً أنه لا رأي له في شيء. وكان الإقطاعيون والباشاوات القدامى في تلك الأيام يعيشون في حالة خوف وذعر بعد قيام الثورة خشية الاعتقال والمطاردة.
اهتمامه بالموسيقى والغناء
كما كانت لمحفوظ عناية خاصة بالغناء والطرب، وحديثه حولهما كان مليئاً بالكلمات المعبِّرة. فقد قال مرَّة إن شخصية الشيخ زكريا أحمد الذي عرفه عن قرب، كانت شخصية طريفة. فكثيراً ما كنَّا نفاجأ به وهو يسرد الحكاية مندمجاً ومنفعلاً وفي منتهى التركيز، فإذا به يترك حكايته من دون مقدمات ويمسك عوده ويغنِّي. وقد يترك العود ويعود لحكايته من النقطة التي توقف عندها! .
وله رأي خاص بصوت أسمهان وشقيقها فريد الأطرش: كانت هناك أسمهان بصوتها القوي المعبِّر الذي لا تستطيع أن تجد فيه عيباً واحداً. ومع ذلك لم أتعاطف مع هذا الصوت. بالضبط كما تلتقي بشخص جميل ولا تميل نفسك إليه رغم جماله. وكان إحساسي بصوت شقيقها فريد الأطرش هو نفس الإحساس. فهو يمثل نوعاً من الجمال لا تميل إليه نفسي. هذا على الرغم من إعجابي بالغناء الجبلي الشامي، خاصةً أصوات صباح فخري ووديع الصافي ومن قبلهما فيروز. صوت فيروز يسحرني ويترك في نفسي تأثيراً عميقاً .
وقد أدرك المطربة منيرة المهدية قبل زوال عصرها. فعندما سمعها مرة في آخر حفلاتها بالغناء العلني، قال إنه بان عليها التأثر بتقدم العمر فكانت تغنِّي قليلاً وتسعل كثيراً إلى أن أتمت الحفل، وأعلنت بعده اعتزالها الغناء.
نصف عمري في المقاهي
وإذا كان نجيب محفوظ قد قضى نصف عمره في مصر الملكيَة ونصفه الآخر في مصر الجمهورية، فقد قضى أكثر من عمره بالكامل في المقاهي. فقد ظل يتردد لأكثر من عشرين سنة على مقهى عرابي في حي الجمالية.
وظل أكثر من سنوات عشر يتردد على كازينو الأوبرا . وظل سنوات عشر أخرى يتردد على مقهى ريش . ولا أدري كم سنة ظل يتردد على مقهى علي بابا في ميدان التحرير، وكم سنة تردد على كازينو قصر النيل الواقع بين ميدان التحرير وشيراتون القاهرة، وهما المقهيان اللذان التقيت معه فيهما لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة.
وقد ارتبط اسمه بمجموعة الحرافيش . والكلمة تعني أبناء الشعب، كما هي كلمة شعبية. وكان الحرافيش أصدقاء محفوظ، كما كان هو نفسه واحداً منهم. وقد عُرف دائماً بوفائه لأصدقائه، وللناس جميعاً، وللأمكنة التي كان يرتادها، ويرتاح إليها. وقد ظل على الدوام ابن الجماليَة البسيط الذي يعمل بلا ملل، ويبتسم من قلبه، ويحب الجميع ويهرب من الأضواء والضوضاء، كما يقول رجاء النقاش.
نصير الفصحى الذي لا يلين
وكما قدَّم روايات خالدة، قدَّم مواقف مشرفة. فمنذ بدأ الكتابة سنة 1928م وعلى مدى سبعين عاماً، اختار أن تكون كتاباته بالعربية الفصحى، وظل متمسكاً بهذا الموقف حتى النفس الأخير. ولم يستجب للدعوات الكثيرة التي كانت تطالبه بأن يكتب حوار رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته باللهجة العامية المصرية.
وكان من هؤلاء الذين انتقدوا إصراره على الفصحى أحد مترجمي أعماله إلى الإنجليزية، وهو المستشرق ديزموند ستيوارت الذي علَّق على موقفه من العامية بقول يعكس الغيظ والغضب: إن التزام نجيب محفوظ للفصحى في كتابة الحوار مخل بمطلب الواقعية، وهو عند نجيب محفوظ نوع من العناد الطارىء، لا يؤدي وظيفة فنية صحيحة .
وقد دافع محفوظ مراراً عن هذا الموقف، أي عن اختياره للعربية الفصحى في أعماله الأدبية المختلفة. فذكر أن اللغة العامية من جملة الأمراض التي يعاني منها الشعب والتي سيتخلص منها حتماً عندما يرتقي. وأنا أعتبر العامية من عيوب مجتمعنا مثل الجهل والفقر والمرض تماماً. والعامية مرض أساسه عدم الدراسة. والذي وسَّع الهوة بين العامية والفصحى عندنا هو عدم انتشار التعليم في البلاد العربية. ويوم ينتشر التعليم سيزول هذا الفارق، أو سيقل كثيراً. ألم تر تأثير انتشار الراديو في لغة الناس، حيث بدأوا يتعلمون الفصحى ويفهمونها ويستسيغونها؟ أنا أحب أن ترتقي العامية، وأن تتطور الفصحى لتتقارب اللغتان. وهذه هي مهمَّة الأدب.
ومن أطرف ما ذكره مرة على هذا الصعيد أن انقسام اللاتينية إلى لغات متعددة هو كارثة حلَّت بأوروبا. ولولا ذلك لكانت أوروبا كلها الآن تتكلم لغة واحدة، وهو أمر أفضل لأوروبا وللعالم. وإذا كان ما حل باللاتينية هو كارثة على أوروبا، فلماذا نريد أن نقلِّد هذه الكارثة ونكررها بالنسبة للغة العربية؟
أدب الحياة المنفتح على تغيراتها
ويرى رجاء النقَّاش أن النجاح الكبير الذي حققه نجيب محفوظ بحصوله على جائزة نوبل لا بد أن يكون وراءه مجموعة من المبادىء الأخلاقية. فأدبه هو أدب النفس المفتوحة على الحياة، وليس أدب التراث المنغلق على نفسه. لذلك جاء أدبه تعبيراً عن الناس وهمومهم بحيث يجد فيه الكثيرون أنفسهم، ويحسُّون أنهم موجودون في هذا الأدب وليسوا غرباء عنه. وهذا الاندماج أتاح لنجيب محفوظ أن ينمي في شخصيته تلك الحاسة النادرة وهي حاسة الإدراك السريع لإيقاع العصر، وما يحدث فيه من تغيرات وتطورات. وهذه الحاسة هي التي أتاحت له أن يقوم بعملية تطوير مستمر لأدبه، فلا يتجمد عند مدرسة واحدة، ولا يتوقف عند شكل فني ثابت. وخلال حياته الطويلة تعرَّضت الأشكال الفنية كما تعرَّضت الأفكار، لتطورات أساسية، كما تعرَّض المجتمع المصري والعربي لهزات وأحداث كثيرة حادة. ولو أنه لم يكن يتمتع بهذه القدرة العالية على الإنصات الدقيق للتغيرات الفنية والاجتماعية والإنسانية، لتجمد أدبه عند مرحلة معينة، ومدرسة واحدة، وهو ما تعرَّض له الكثيرون من أبناء جيله الذين لم يستطيعوا استيعاب المتغيرات المتلاحقة، فتجمَّد أدبهم عند الأشكال والأفكار التي عرفوها في المرحلة الأولى من حياتهم. أما نجيب محفوظ فيكاد المرء يحسبه مجموعة من الأدباء وليس أديباً واحداً لأن هناك أربع مراحل على الأقل في أدبه. فقد بدأ بالقصة التاريخية، ثم انتقل إلى الرواية الواقعية، ثم انتقل إلى مرحلة الرمز والتكثيف الشديد في الأحداث والشخصيات. ووصل أخيراً إلى مرحلة امتزجت فيها الرواية بالشعر حتى لتكاد رواياته وقصصه الأخيرة تكون قصائد صافية مليئة بالموسيقى والإحساس الوجداني الغنائي بالناس والأشياء.
وما أذكره جيداً أن نجيب محفوظ حدثني مرة عن الشعر حديثاً ممتلئاً بالحب والتقدير. فقد قال لي إنه يتصور أن الشعر هو أساس الفنون كلها، بما فيها الرواية. وعندما كنت أحدق في وجهه مستغرباً صدور مثل هذا الحكم عن سيِّد من سادات الرواية في العالم، تابع قائلاً: ما هي الرواية؟ أليس أساسها هو التخييل والتصوير؟ أليس هذا الأساس هو أساس الشعر نفسه؟
كان نجيب محفوظ شاهداً على مصر القديمة، كما كان شاهداً على مصر أخرى. وقد كتب بحب، كما بصدق عنها، وكان بذلك أديباً كبيراً، وقمة من قمم النص والرواية في العالم الحديث. وإذا كان لكل أمة راويها العبقري، فنجيب محفوظ هو هذا الراوي العبقري لمصر وللعرب جميعاً، تماماً كشكسبير للإنجليز، ودوستويفسكي بالنسبة للروس، وفكتور هيغو ومارسيل بروست بالنسبة للفرنسيين.