يكثر الحديث حول أزمة قراءة في العالم العربي، والواقع أن العالم العربي يعاني فعلاً من مشكلة تتعلق بالقراءة، لكن كثيراً من التحليلات لأسباب هذه الأزمة جانبت الصواب وابتعدت عن الحقيقة. والجهات المختلفة تتبادل الاتهامات حول هذه الأزمة، فدور النشر وقسم من المؤلفين يلومون ندرة القرّاء في العالم العربي، فيما يضع المهتمون بالقراءة وقسم آخر من المثقفين اللوم على دور النشر والمؤلفين باتهامهم بقلة الإنتاج وضعف مستواه.
إن الأزمة ليست أزمة قرّاء، ولعل الاهتمام المنقطع النظير الذي شهدته المملكة مؤخراً ببعض الإصدارات المحلية، هي مؤشر واضح على أن أفراد المجتمع على استعداد للدخول إلى عالم الكتاب متى ما وجدوا المحتوى القادر على جذب انتباههم. كما أن الأزمة ليست أزمة مؤلفين؛ لأن عالمنا العربي يحفل بالعديد من المثقفين والمفكرين الذين تحوي جعبتهم الكثير مما يمكن أن يضيف إلى المعرفة الإنسانية، متى ما أتيحت لهم الفرصة الكافية ووجدوا الرعاية اللازمة والاهتمام اللائق.
إن الأزمة عائدة إلى دور النشر، قبل أي شيء، وأكثر من كل شيء آخر. معظم دور النشر العربية لا تزال تعمل بعقلية قديمة ومتخلفة وسط كل هذا التطور الذي يعيشه عالمنا، ووسط كل المتغيرات والظروف التي ألمت بصناعة النشر حول العالم. تتذمر دور النشر العربية من تدني عوائد بيع الكتب، وكأن عملها هو صناعة الربح وليس صناعة الكتاب، في الوقت الذي تفتقر فيه طريقة عملها إلى العديد من المبادئ الواجب توافرها في هذا النوع من الصناعة. فعملية صناعة الكتاب تتألف من ثلاث مراحل أساسية، الأولى هي إيجاد المحتوى المناسب، والثانية هي الإنتاج الفني للكتاب، والثالثة هي عملية التسويق والدعاية. وأعتقد أن دور النشر العربية تعاني مشكلات وعوائق متعددة في هذه المراحل جميعاً.
في الغرب، لكل دار نشر مجموعة من المحررين الذين يتمتعون بعين ثاقبة وذوق رفيع يمكِّنهم من اقتناص الكتّاب الموهوبين التي يرون نتاجهم في الصحف والمجلات والإنترنت ووسائل الإعلام الأخرى. ويقوم هذا المحرر بطرح عرض على الكاتب يتضمن اقتراحاً بموضوع كتاب، وغالباً ما يتضمن العرض دفعة مالية مقدمة (بالإضافة إلى المبلغ الذي يحصل عليه الكاتب عن الكتاب من دار النشر، يحصل الكاتب عادة على نسبة محددة من أرباح بيع الكتاب). وإذا اتفق الطرفان، يبدأ الكاتب في العمل على الكتاب، فيما يقوم المحرر بمتابعة العمل أولاً بأول، مقدماً النصائح والاقتراحات، ومحفزاً الكاتب على إنهاء العمل بالشكل المطلوب.
بعد الانتهاء من الكتابة، تقوم دار النشر بعملية المراجعة، ثم طباعة الكتاب وتوزيعه. يلي ذلك مرحلة التسويق والدعاية، وذلك بطرق متعددة؛ أهمها إرسال نسخ إلى مسؤولي الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات لغرض العرض والتقييم، وكذلك السماح لهذه المطبوعات بنشر أجزاء محددة من الكتاب. ومن العادات المتبعة أيضاً أن تنظِّم دار النشر جولة للكاتب يقوم فيها بالتنقل بين مناطق مختلفة ليوقع على نسخ من الكتاب ويلتقي بالصحافة المحلية، كما يمكن أيضاً أن تستغل التظاهرات الثقافية كمعارض الكتاب وغيرها لهذا الغرض. بالإضافة إلى ذلك، يعمد الناشر إلى طرح الكتاب بصيغ متعددة لتناسب شرائح مختلفة من المستهلكين.
والآن إلى السؤال: هل تقوم دور النشر العربية بهذا العمل كما يجب؟ ما نعرفه هو أن عدداً كبيراً من الكتّاب والشعراء يقومون بنشر كتبهم بأنفسهم بمجهودات فردية من دون أية مساندة من أية جهة كانت، ويحملون على عاتقهم جميع الأعمال المتعلقة بصناعة الكتاب بما في ذلك توزيعه على منافذ البيع!
إن ذلك لأمر محبط بكل تأكيد.