تتلألأ اليوم في فضاء الإبداع ومضتان، وفي الوميض ما هو جديد ومدهش، وفيه التميُّز والاختلاف، وفيه السرعة والإيجاز، كشرارة البرق، تنير وتصعق، وهذه هي سمات هاتين الومضتين، فما هما؟
الومضة الأولى هي قصيدة النثر، وقد ثار حولها جدل
ولا يزال، كيف هي قصيدة؟ وكيف هي نثر؟ ونسي القوم أن التركيب يعني ولادة ما هو جديد ومختلف، ولا بد لفهمه والتعامل معه من امتلاك معايير ومفاهيم تناسبه وتنبع من داخله. وعلى الرغم من الرفض، تبوّأ هذا النوع مكانه، وتبيّن أن كتابة قصيدة النثر لا ترجع إلى ضعف أو استسهال، فهي صعبة ومتميِّزة، وقد استقرت، وكتبها شعراء كثر، ربما كان أشهرهم محمد الماغوط، ولكنه ليس آخرهم، وتأكد أنها ليست على حساب شعر التفعيلة أو قصيدة البحر، وأنها لا تلغي أياً منهما، بل تتكامل معهما، لتخلق معهما تطويراً في الشعر، ففي عصر لاهث سريع الإيقاع صاخب بدت الحاجة إلى شعر هامس هادئ. وفي عصر سريع التغير متقلِّب مفاجئ مدهش، بدت الحاجة إلى شعر لا يكرر إيقاعاً ثابتاً، ولا يخضع لقوانين وقوالب، وكانت قصيدة النثر، بما فيها من مفاجأة وإدهاش وتوتر، مثلها مثل هذا العصر الصاخب المتوتر.
والومضة الثانية هي القصة القصيرة جداً، وهي لا تنافس الرواية ولا القصة القصيرة، ولا تقوم على حسابهما، ولا تحاول إلغاءهما، بل تتكامل معهما، وهي تنتمي إلى السرد، وقوامه الحدث والشخصية والزمان والمكان، وما يكون من تقانات وأساليب، ولكنها تتميَّز عن غيرها بالقصر الشديد والاختزال والتكثيف، لا في عدد الصفحات أو الأسطر أو الكلمات، بل في كل شيء، وهي أبعد ما تكون عن الاسترسال والإسهاب والتطويل، ولا بد فيها من الإدهاش والمفاجأة وتقديم ما هو غير متوقَّع وبأساليب جديدة، وبسرعة وتحوّل وانقلاب واختلاف وبإيقاع سريع، كل شيء فيها هو مثل ما في هذا العصر، وهي مثله ترفض كل ما هو جاهز أو ثابت، وقد تعرضَّت في البدء للرفض، ولكن سرعان ما أقبل عليها الأدباء، لا عن عجز أو استسهال أو ضعف، بل لما فيها من تميّز؛ فملأت الرفوف مجموعات خاصة بالقصة القصيرة جداً، وملأت الصحف قصص قصيرة جداً، بل بدأت تُقام لأجلها ملتقيات، وتصدر عن المجلات أعداد خاصة بها، كالعدد الخاص بالقصة القصيرة جداً من مجلة “المجرة” في المغرب العربي، وكالملتقى الخاص بالقصة القصيرة جداً الذي يقام كل عام منذ سنوات ست في مدينة حلب بسوريا، يحضره مشاركون من الوطن العربي، وقد اقترح القاص الليبي جمعة الفاخري تسمية حلب عاصمة القصة القصيرة جداً لأجل هذا الملتقى، ولأن كاتباً من حلب أصدر أول مجموعة قصص قصيرة جداً عام 1979م عنوانها الرصاصة، وكان قد نشر في مجلة الطليعة عام 1966م قصة قصيرة جداً عنوانها الفدائي، وهو الشاعر والقاص محمود علي السعيد.
وللومضتين أصول وجذور، لمن يصر على البحث عن الأصول والجذور، ففي فن الخبر العربي جذور القصة القصيرة جداً، ولها أشباه ونظائر في كتب كثيرة، ومنها كتب الأصفهاني والجاحظ وأبي علي القالي، وتبقى القصة القصيرة جداً أصيلة بحد ذاتها؛ لأن الأصالة لا تعني العودة إلى الأصول بقدر ما تعني الابتكار والخصوصية والاستقلال، وفي قصيدة النثر جذور ضاربة في النثر الفني عند أبي حيان التوحيدي وابن عربي والنفّري، وبعض ما كتبوه شعر قائم بحد ذاته، وإن كان من غير وزن، وليس بالوزن وحده يقوم الشعر.
وبهاتين الومضتين يتحدى المبدع حدود النشر وأسواره ومشكلاته، فيرسل ومضاته لتعبر الآفاق في عالم أضحى رحباً واسعاً، لا حدود فيه ولا سدود بفضل الشبكة العالمية والنشر الإلكتروني. وما تطوُّر هاتين الومضتين واستقرارُهما وانتشارُهما إلا نتاج هذا الفضاء.
هما ومضتان، فيهما من الومضة كل صفاتها، وفيهما بخلاف الومضة الاستمرار والتطور، لأن المجتمع الساكن الراكد بحاجة إليهما، وقد غدت الومضتان ومضات، بل مصابيح ومنارات.