ما القاسم المشترك بين المصانع والمتاحف؟ ولزيادة اللغز تعقيداً، نشير إلى أننا نجد هذا القاسم المشترك نفسه في محطات توليد الطاقة النووية وفي المكتبات الوطنية، تماماً كما نجده حاضراً في العمارات التي نسكنها وفي المصاعد الكهربائية والمواقع الأثرية والمراكز التجارية..
الجواب هو: الصيانة.
فكل هذه المنشآت والمنجزات، الكبيرة منها والصغيرة، التي تشكِّل مجتمعة محيطنا الحضاري (بمعناه الشامل)، والتي ظهرت بفعل قدرة العقل على الاختراع والابتكار والإبداع، ما كان يمكنها أن تؤتي ثمارها وتؤدي الوظيفة المفيدة المرجوة منها لولا الصيانة الدائمة لها.
عبود عطية يتناول هنا مسألة الصيانة، ليس فقط كميدان عمل بل كعنصر من العناصر الأساسية التي باتت تقوم عليها حياتنا المعاصرة.
المقالة التي نشرتها القافلة في عدد (مايو- يونيو) بعنوان «العالم من بعدنا» ترسم صورة قاتمة للسرعة المريعة التي ستتدهور بها كل معالم الحضارة الإنسانية ومنجزاتها فيما لو اختفى الإنسان فجأة عن وجه الأرض. وبالتمعن قليلاً فيما قاله لنا الخيال العلمي في هذا المجال، نكتشف خلاصة الحقيقة: أننا ننأى بحضارتنا عن الهلاك على هذه الصورة، بفعل الصيانة الدائمة لمنجزاتها.
فمنذ فجر التاريخ والتكريم الاجتماعي يتمحور حول المبدعين والمبتكرين والمخترعين. ومع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وثورة الاختراعات في القرنين التاسع عشر والعشرين، تحوَّل المبتكر والمخترع إلى «بطل». ونحن لا نقول إن الابتكار والاختراع لا يستأهلان تركيز المجتمع عليهما وتكريمهما. ولكن الانجراف في التكريم الاجتماعي للابتكار تضمِّن، بشكل غير مباشر، إجحافاً بحق مفهوم الصيانة.. هذه الصيانة التي وحدها تجعل الاختراع والمنجز الملموس قادراً على تأدية وظيفته وبقائه، ومع ذلك فإنها بقيت في الظل إن لم نقل في الظلام على الصعيدين الاجتماعي والإعلامي على الأقل. وتصبح الهوة بين الضجيج المصاحب للابتكار والصمت المحيط بالصيانة مدعاة للحيرة عندما ننطلق من مقاييس فرص العمل، فمقابل كل مبتكر، هناك الألوف ممن يوقفون مهاراتهم على صيانة منجزات الابتكار، وفي حين أن عوائد الابتكارات والاختراعات غالباً ما تصلنا عبر طرق ملتوية ذات محطات عديدة، فإن الصيانة هي على تماس أكبر بكثير مع مسارات الحياة اليومية، ومع تطلعات ذوي الكفاءات العملية غير الخارقة في البحث عن فرص عمل والعثور عليها فعلاً.
الصيانة الصناعية
صناعة مستقلة لا تنتج شيئاً
تهدف الصيانة إلى تأمين قدرة منجز ملموس على أداء وظيفته. وهي تنقسم بشكل عام إلى قسمين: صيانة وقائية تستطلع دورياً حال المنجز سواء أكان مفاعلاً نووياً أم مصعداً كهربائياً، وتدعمه بجملة أعمال تقيه من الأعطال. وصيانة طارئة تتدخل حينما يقع عطل يؤدي إلى تخريب مسار الأداء أو يوقفه.
وبشكل عام، يمكن القول إن الصيانة بمفهومها الواسع ظهرت مع المنجزات الإنسانية الأولى. فمحراث الفلاح كان بحاجة إلى صيانة، وسقف منزله الترابي كذلك، وأيضاً أدوات الحدَّاد والنجَّار.. غير أن تحوُّل الصيانة إلى عمل محوري يحافظ على تماسك كل المنجزات الإنسانية ظهر مع ظهور الصناعة، وتطوَّر بتطورها، فأصبحت الصيانة في المصانع توأماً للإنتاج، ورفيقاً يخرج مع المنتج من المصنع إلى المستهلك.
فمنذ نشوء المصانع على اختلاف أنواعها، وعي أصحابها دور الصيانة في الحفاظ على سلامة أداء الآلات في هذه المصانع، وبالتالي ضمان استمرارية العمل والإنتاج.
وإذا كانت المصانع الكبرى والمتوسطة قد ضمّنت هيكليتها قسماً خاصاً بالصيانة يكبر أو يصغر حسب حجم المصنع وآلياته، فإن المصانع الصغيرة تعاقدت مع جهات خارجية (قد تكون المزوِّد بالمعدات والآليات أو غيره) للقيام بأعمال الصيانة الوقائية أو الدورية. الأمر الذي أدى إلى نشوء صناعة خارج المصانع، ألا وهي صناعة الصيانة، التي لا تنتج شيئاً، ولكنها تضمن حسن الإنتاج في الصناعات الأخرى.
وشهدت العقود الأخيرة تضخماً في حجم صناعة الصيانة المستقلة بفعل كثرة المنتجات الصناعية التي دخلت الحياة الاستهلاكية: سيارات، مصاعد كهربائية، مولدات كهرباء، مكيفات هواء، معدات طبية، أبنية كبيرة، أجهزة كمبيوتر وغير ذلك مما يستحيل حصره. كل هذه المنجزات التي دخلت حياتنا أدت إلى قيام ورش متخصِّصة لصيانتها.
فاللافت أن السمة العامة التي تميِّز غالبية المنتجات المبتكرة أو المصنَّعة حديثاً (وبشكل خاص تلك العاملة على الكهرباء، أو تتضمَّن محركات حتى ولو كانت هذه المحركات ميكانيكية) هو أنها سريعة العطب، سواء أكان هذا العطب ناجماً عن حادث أو سوء تشغيل، أو بفعل الأداء لوقت طويل.
فمن جهاز الكمبيوتر إلى الخلاَّط في المطبخ مروراً بالسيارة ومكيف الهواء وجهاز التلفزيون وآلة التصوير والساعة وآلة التمارين الرياضية والمصعد الكهربائي وغير ذلك مما لا يُحصى ولا يُعد، هناك أمرٌ مشترك في انتقال هذه الأشياء من مصانعها إلينا: أنها تأتي مع «ضمانة» تكفل حسن أدائها لمدة معيَّنة من الزمن تراوح عادة ما بين سنة وثلاث سنوات على الأكثر.
ولكن ما علاقة الضمانة بموضوع بحثنا؟
تشكِّل الضمانة الممنوحة مع السلعة إعلاناً صريحاً يقول: إن عمر هذه السلعة «بصحة جيدة» هو لهذا الوقت فقط. ولكن طالما أننا نتوقع أن تخدمنا هذه السلعة لفترة أطول، فهذا يعني أن إطالة عمرها سيعتمد على صيانتها وعلى وجود من يتولى هذه المهمة كعمل مستقل عن المنتِج والمستهلك.
ومن المرجح أن شيوع اللجوء إلى الصيانة وتوافرها المتزايد أينما كان في العالم، حفَّز المصانع على التراخي فيما يتعلق بمواصفات المنتَج، مقابل زيادة جاذبية ثمنه. وهذا ما يفسِّر صحة الملاحظة الشائعة عالمياً، القائلة بأن المنتجات القديمة كانت أطول عمراً من المنتجات المشابهة المصنَّعة حديثاً.
وإن تعذّر علينا العثور على إحصاءات تتحدث بالأرقام عن حجم هذه الصناعة (نظراً لاتساع الفروع والتخصصات التي تندرج في إطارها)، يكفينا أن نضرب مثلاً صناعة السيارات التي نعرف جميعاً أن العاملين في ورش إصلاحها وصيانتها هو أكبر بأضعاف مضاعفة من عدد الذين أنتجوا هذه السيارات في المصانع. إذ ما من مدينة في العالم، إلا وتحوي مئات ورش صيانة السيارات، حتى في البلدان الكثيرة التي لا تصنِّع أية سيارة. إذن يمكن الجزم أن مقابل كل فرصة وظيفية في مصنع لإنتاج السيارات، هناك مئات الفرص الوظيفية في ميدان العمل على صيانتها.
الأمر نفسه ينطبق على أجهزة الكمبيوتر التي اقتحمت حياتنا في السنوات الأخيرة وباتت ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. فكل متجر يحظى بوكالة بيع أجهزة من ماركة معينة، لا بد وأن ينشئ بجوار متجره ورشة صيانة متخصصة في هذه الماركة. وأكثر من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التي تتعاطى شتَّى أنواع الأعمال باتت تتعاقد مع ورش متخصصة لصيانة ما تستخدمه من أجهزة كمبيوتر، إذا كانت محدودة العدد. أما عندما يصبح عدد الأجهزة كبيراً ويبلغ العشرات أو المئات كما هو الحال في المصارف والشركات الكبرى، فإن مثل هذه المؤسسات تلجأ إلى إنشاء وحدات صيانة ضمنها، لا لتوفير كلفة الاستعانة بجهات خارجية والتي ستكون أكثر كلفة من رواتب بضعة فنيين، بل أيضاً للتمتع بالقدرة على التحكم بمواجهة الأعطال وتأمين حسن سير العمل في وقت أقل. الأمر الذي يدعو إلى وقفة تأمل من قبل المخططين للتوجيه التعليمي والمهني.
والواقع، أنه بعدما اعتمد أصحاب المنشآت الكبرى على خليط من الكفاءات الجامعية والمهارات اليدوية التي هي على تماس مع الشيء الذي يحتاج إلى صيانة، مثل الاعتماد على مهندس الميكانيك وبضعة عمال لصيانة المحركات، أو مهندس معماري لترؤس قسم الصيانة في ناطحة سحاب، بعد أن يتلقى هؤلاء دورات تدريبية تراوح مدتها بين الشهر والسنة، انبرت الجامعات والكليات إلى إنشاء أقسام خاصة بتعليم الصيانة، لتخرِّج اختصاصيين في هذا المجال. فلو أخذنا صيانة المباني مثلاً، لوجدنا أن عدداً من الجامعات الأمريكية صارت تمنح شهادات في هذا المجال، تؤهل الخريج للعمل، ليس كمهندس بناء أو كمهندس مدني، بل كمهندس صيانة مبانٍ فقط، ومن هذه الجامعات نذكر: معهد نيوكاسل، جامعة استورت، كلية ويستور، كلية ردستون، معهد ستراتفورد، جامعة دوفري وغيرها…
ومنذ ما قبل ظهور صيانة المباني كتخصص جامعي، كانت الصناعات الثقيلة والمتطورة قد خطت بعيداً في تطوير الصيانة كاختصاص لمختلف المستويات التعليمية، بدءاً بالمهندسين ووصولاً إلى الأيدي العاملة الماهرة. فصيانة الطائرات ومحركاتها على سبيل المثال والكفاءات البشرية اللازمة لها، تدخل في صلب عملية إنتاج الطائرات، ولا تُترك لمشيئة شركات الطيران التجارية أو تقديراتها. ولكن هذه الأنواع من الصيانة هي، على الرغم من ضخامتها، مجرد الجزء الظاهر من جبل الجليد. لأن ما يشهده عصرنا هو تحوُّل في أسس أنماط الإنتاج والعمل، ذو آثار بالغة الأهمية على الاقتصاد وفرص العمل أولاً وبشكل مباشر، ومن ثم على حال كل منجزات الحضارة المعاصرة.
المنعطف الكبير 2003-2004
شهد العامان 2003 و2004م بعض الأحداث التي كانت ذات أصداء عالمية، حتى أنها دفعت بعض البلدان إلى مراجعة مفهوم الصيانة بما يتلاءم مع الإقرار بخطورة دورها.
من هذه الأحداث الكبرى كان هناك انفجار المكوك الفضائي كولومبيا خلال عودته إلى الأرض. وأظهرت التحقيقات النهائية أن سبب الكارثة يعود إلى «إهمال صيانة» الألواح الواقية من الحرارة في أسفل المكوك. وفي أغسطس 2003م انقطعت الكهرباء عن مناطق واسعة في مدينة نيويورك لمدة 24 ساعة بسبب «تقصير في الصيانة»، وتكرر انقطاع الكهرباء بعد ذلك بقليل في كل من بريطانيا وإيطاليا للأسباب نفسها.
في أغسطس 2004م، احتدم النقاش في بريطانيا حول «القتل على أيدي الشركات» عندما أسقط القضاء أربع تهم بالقتل عن مسؤولين عن إدارة خطوط الحديد في بريطانيا وصيانتها، بمن فيهم رئيس مجلس إدارتها السابق، إثر التحقيق في كارثة قطار هارتفيلد.
ولكن، على عكس ماهو عليه الحال في بريطانيا، بدأت كندا منذ مطلع العام 2004م، بتطبيق قانون جديد يحمِّل القائمين على المصانع مسؤوليات «جنائية» في حال تعرض أحد العاملين لديهم لأي حادث بسبب الإهمال أو نقص الصيانة. وفي حال الوفاة بات يمكن توجيه تهمة «القتل غير المتعمد» للمسؤولين عن مكان العمل، بحيث باتت العقوبات تصل إلى السجن لمدة 25 سنة للأفراد، أو 100000 دولار غرامة للشركات. وحذت بلدان عديدة في الاتحاد الأوروبي إضافة إلى أستراليا والولايات المتحدة حذو كندا في تشديد العقوبات على إهمال الصيانة، حتى ولو لم تصل هذه العقوبات إلى مستوى الاتهام بـ «القتل غير المتعمد».
الصيانة في ميزان الأرباح والخسائر
لا أحد يجرؤ على التطاول على دور الصيانة في بعض الصناعات الحساسة، حيث يمكن لعطل فني طارئ أن يؤدي إلى كارثة مدمِّرة للمؤسسة ككل، كما هو حال صناعة الطيران ومصافي النفط وسكك الحديد ومحطات توليد الطاقة النووية… ففي شركات ومؤسسات تتعاطى مثل هذه الأعمال، تشكِّل الصيانة بأقسامها وأنماطها وإداراتها جزءاً أساسياً من هيكلية المنشأة، يتشكَّل بتشكل المنشأة ولا يغيب للحظة عن أدائها وإنتاجها. ولكن، ماذا عن الأعطال الطارئة أو غير الطارئة في الصناعات الأخرى، والتي تبقى عادةً دون مستوى الكارثة؟
يقول مايكل ليبينغ، وهو مدير تطوير الأعمال في شركة «إيدكون» إن كل من عمل في مصنع اكتشف يومياً، وأكثر من مرة، كلفة «عدم التدخل»، وهو التعبير الذي يشير إلى التقاعس عن الصيانة. ويضرب الرجل أكثر من مثل لا يفاجئ في شيء، مثل حادث بسيط وقع في أحد المصانع الكندية عندما اختل أحد أحزمة رصف المنتجات، ولكن لا أحد أقدم على اتخاذ القرار غير المستحب بوقف العمل (وتأخير الشحن) الأمر الذي كان سيكلِّف المصنع نحو 60 ألف دولار كندي، فاستمر العمل عليه إلى أن تعطل نهائياً، وارتفعت كلفة إصلاحه عندها إلى 500 ألف دولار.
ولكن الكاتب نفسه يسوق أمثلة مدهشة إلى درجة غير قابلة للتصديق، عندما يقول إن تسرب البخار مثلاً عبر ثقب يصل قطره إلى 2 ملم، يكلِّف المصنع نحو 2000 دولار سنوياً. والمدهش أن الكاتب يؤكد أن من المألوف جداً في بعض المصانع الأمريكية أن يكون في الواحد منها نحو عشرة مواضع تسرب مماثلة، ومع ذلك
لا ترى ضرورة ملحة لإصلاحها، لأنه قد يكون أكثر كلفة من وقف الإنتاج، في حين أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً.
فمشكلة الصيانة على الصعيد الاقتصادي هي أنها لا تزال تصنَّف على أنها جزء من الكلفة، وليس من الأرباح، ومع ذلك نجدها فارضة نفسها حيثما كان هناك إنتاج.
مشكلتها الكبرى: الدونية
غير أن المشكلة الكبرى التي عانت الصيانة منها طويلاً رغم الإقرار بأهمية دورها، هي في الدونية التي كان يُنظر بها إلى هذا الدور وإلى القائمين بأعمال الصيانة. وإن تغيرت هذه النظرة تماماً فيما يخص الصيانة الداخلية القائمة داخل المصانع والمنشآت، فإنها لاتزال واقعاً ملموساً في ورش الصيانة الخارجية المتخصصة التي تخدم زبائن متفرقين.
فبغض النظر عن المدخول الذي يجنيه عامل صيانة المكيفات مثلاً والذي نستدعيه إلى منازلنا، لا تزال النظرة إليه على أنه «أقل شأناً» من صانع المكيفات، أو حتى من بائعها.. الأمر نفسه ينطبق على عمال صيانة المصاعد وصيانة السيارات والكثيرين غيرهم.
فالصورة النمطية الشائعة والصحيحة إلى حد ما حول عامل الصيانة، هو أنه شخص ذو مظهر رث إلى حد ما، يأتينا حاملاً صندوقاً معدنياً يحوي أدواته، تبدأ علاقتنا به بالإشارة إلى ما يتوجب عليه معالجته وتنتهي بتسديد بدل أتعابه. وإذا ما بدت لنا كلفة أتعابه مرتفعة، وخاصة إذا طلب مبلغاً محدداً كبدل زيارة (غير العمل)، لتهكم عليه الكثيرون بالقول «وكأنه طبيب!».
وتقر النشرة الدورية التي يوزعها موقع «عالم الصيانة» على الإنترنت بوجود هذه «العقبة الاجتماعية» أمام العاملين في الصيانة، والنظرة العامة إليهم على أنهم أقل شأناً من «المنتجين»، وتدعوهم إلى تغيير النظرة إليهم من خلال بعض الخطوات المحددة التي عليهم أن يقوموا بها.
تقول النشرة غير الموقَّعة، إن عامل الصيانة يتصرف وفق أربعة منطلقات تحتاج إلى مراجعة وتصويب وهي الآتية:
– إن عملي هو إصلاح الآلات.
– إنني غير معني بما قد يعتقده قسم الإنتاج حول أدائي.
–
إنني لست بحاجة إلى استخدام الكمبيوتر، لأن عملي هو في القدرة على استخدام المفكات الحديدية.
–
لماذا عليَّ أن أهتم بمظهري، طالما أن مهمتي هي في جعل الآلة تعود إلى العمل؟
ويوضِّح كاتب النشرة إلى هؤلاء أن الآلات ليست هي من يدفع بدل أتعابهم، بل الناس. وإن على عمال الصيانة أن يكونوا أكثر حساسية تجاه رغبات زبائنهم وميولهم.
من المصانع إلى.. الأونيسكو
يستحيل لمقالة، أية مقالة، أن تحيط بعالم الصيانة الصناعية بشكل شامل، ولكننا سقنا الحديث حولها فقط حتى الآن، لأنها تشكِّل المثال المألوف أكثر من غيره حول مفهوم «الصيانة» في أذهاننا، ولهدف واحد، هو تحريك وعي القارئ حول عالم الصيانة، وليس الإجابة عن كل أسئلته. ومن نافذة الصيانة الصناعية، يمكننا أن نطل على عالم الصيانة الأرحب.. صيانة العالم.
فلو عدنا إلى مقالة «العالَمْ من بعدنا» التي أشرنا إليها في بداية حديثنا، لوجدنا أن المصانع، وإن كانت الأولى التي ستتوقف باختفاء الإنسان من الأرض، فإن كل المنجزات المادية لحضارتنا ستبدأ بالتداعي والزوال. واللافت أن المنجزات الحديثة هي الأكثر عرضة للهلاك السريع. بدليل أن المباني الأثرية الحجرية هي وحدها التي ستبقى قائمة لمئات السنين بعد اختفاء الإنسان. الأمر الذي يدعونا إلى وقفة تأمل أمام جوهر حضارتنا من خلال التفكير بالمنجزات المادية والمعنوية التي تتألف منها.
حتى القرن الثامن عشر، كان تراكم «الأشياء» التي تشكِّل المحيط الحضاري في أي مجتمع محدوداً إلى حدٍ ما: قصور ومعابد ومنشآت عسكرية ومنازل ذات محتويات يمكن احتساب عدد محتوياتها ووظائفها، وبعض الورش الحرفية لصناعات محدودة العدد. ولكن منذ النهضة الصناعية، راحت وتيرة إنتاج «الأشياء» المختلفة تتسارع بشكل صاروخي: فاختراع المحرك أدى إلى ظهور آلاف المنتجات الجديدة، واكتشاف الكهرباء كذلك، وغيَّر الأسمنت شكل المدن جذرياً بناطحات السحاب التي جعلت المدن «أكثر اتساعاً» وذات متطلبات مختلفة تماماً عن متطلبات المدن القديمة. وفي كل يوم من أيامنا هذه، تغدق علينا المصانع باختراعات وابتكارات جديدة أو مطورة سرعان ما تصبح جزءاً من حياتنا اليومية وضرورة لا غنى عنها.
وبخلاف ما كان يجري في الحضارات والمجتمعات قديماً، حين كان يحل «الطراز» الجديد مكان القديم ويلغيه، يشهد عصرنا هذا تراكماً للمنتجات والمنجزات وحرصاً على الإبقاء على تعايشها مع بعضها البعض.
ومما زاد الطين بلّة (من دون سلبية مضمون هذا المثل) هو رسوخ الوعي على المستوى العالمي، لأهمية الحفاظ على التراث الثقافي والحضاري لكافة المجتمعات. وهكذا بات الإنسان المعاصر يعيش في عالم تزدحم فيه المنجزات على اختلاف أنواعها بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ بأسره. وعلى هذا الإنسان أن يعنى بكل منجز، مادياً كان أو معنوياً، على حدة: بدءاً بالمصعد الكهربائي الذي يؤمِّن له الوصول المريح إلى منزله في أحد المباني، ووصولاً إلى المخطوطات الأثرية القابعة في إحدى خزائن المكتبة الوطنية، مروراً بكل شيء تقريباً…
وللدلالة على أن تعبير «كل شيء تقريباً» لا يتضمَّن أية مبالغة، يمكننا أن نشير إلى ما هو بعيد عن أعيننا في عالم الصيانة والذي لا يقل أهمية وخطورة من الصيانة على مستوى محيط الفرد في المنزل والعمل الذي استقينا منه معظم الأمثلة السابقة.
فكل المنشآت العامة المبنية من الحديد (الجسور على سبيل المثال) تحتاج إلى صيانة دورية حماية لها من التآكل والانهيار. الأمر نفسه ينطبق على الطرق وإشارات السير، والمطارات، وسكك الحديد، والأنفاق حيثما وُجدت. ومن الأمثلة المدهشة التي وردت في مقالة «العالم من بعدنا» أن مدينة نيويورك تعتمد على 1700 مضخة لتخليص الطبقة الأرضية تحت شوارعها من 130 مليون جالون من المياه الجوفية كل يوم، وحماية أنفاق المترو من الغرق. ويمكننا أن نتخيل حجم الجيش من الفنيين وعمال الصيانة الذين يسهرون على هذا العمل الضخم ومستلزماته.
هذه «العناية»، أياً كان شكلها أو «الشيء» الذي تحظى به هي في جوهرها عملية صيانة، لأن هدفها الأول والأخير هو الحفاظ على سلامة هذا الشيء وإبقائه قادراً على أداء وظيفته، مهما طرأ على هذه الوظيفة من تحولات كما هو حال المباني الأثرية على سبيل المثال. وإذا انطلقنا من هذا المفهوم الشامل للصيانة، لأذهلنا حجم ما تستهلكه من جهود الإنسان المعاصر، التي تبلغ أضعاف الجهود المبذولة على الابتكار وإنتاج الجديد.
فلو شطحنا بعيداً جداً عن عالم الصناعة (مهد فن الصيانة) إلى عالم الفنون والثقافة والأدب، لوجدنا أن الأمر يبقى هو نفسه في جوهره. فمهمة المتاحف التي أنشئت في العالم خلال القرنين الماضيين هي صيانة الموروث الثقافي والفني. والذين يتولون هذه المهمة فيها، هم على اختلاف درجاتهم العلمية «عمال صيانة» يحظون بلقب فخم «المحافظون».. ودور النشر التي تعيد طبع الأعمال الأدبية الكلاسيكية، لا تقدِّم نتاجاً جديداً في الجوهر، بل «تصون» العمل الأدبي الذي ظهر في زمن غابر، وتحميه من الضياع والاندثار.. ولو قارنا الجهود والأعمال التي تستحوذ على اهتمامات منظمة عالمية مثل «الأونيسكو»، لوجدنا أن جانب صيانة الموروث الثقافي والحضاري يشغل حيزاً من أعمالها يبلغ أضعاف حيز أوجه النشاط المبذولة على الأنشطة الإبداعية المعاصرة..
وأكثر من ذلك، يمكننا القول إن عالم الثقافة سبق عالم الاستهلاك إلى «تكريم» الصيانة والاعتماد عليها. فمنذ ظهور علم الآثار الحديث في القرن التاسع عشر، كان ترميم المباني الأثرية ووقايتها من المؤثرات المسيئة إليها في صميم هذا العلم. وبذلك تكون صيانة المباني القديمة قد ظهرت كاختصاص جامعي قبل صيانة المباني الحديثة بنحو قرن من الزمن.
واستطراداً نشير إلى أن صيانة الموروث الثقافي قد تفرعت إلى عدد كبير من الاختصاصات الجامعية منذ زمن طويل. فصيانة الكتب النادرة باتت علماً قائماً بحد ذاته، وأيضاً اللوحات الزيتية، والرسوم الجدارية، والمنحوتات المعروضة في الهواء الطلق وما إلى ذلك.
فإن كانت مقالة «العالم من بعدنا» قد دفعتنا عن طريق الخيال العلمي إلى الالتفات صوب المكانة التي باتت تحتلها الصيانة في الحضارة المعاصرة، فإن «الخيال الاجتماعي» المنطلق من معطيات واقعية لا تعد ولا تحصى يدفعنا إلى تصور تقسيم طبقي جديد.
ترتيب هذا التقسيم إلى رأسماليين وعمال، تبدو حضارة القرن الواحد متجهة إلى تقسيم مجتمعات العمل إلى شريحتين متوازيتين أفقياً، (ومتساويتين مكانةً): المنتجون والعاملون على صيانة المنتج.
وإن كان هذا التقسيم لا يزال بعيداً عن انتزاع الاعتراف الواعي بحقيقته، فإن الواقع القائم اليوم بات يدعونا وبشكل ملح إلى الاعتراف بأن تحولاً جذرياً وتاريخياً قد طرأ على عالم العمل. وهذا التحول لا بد وأن يفرض نفسه تدريجاً على عالم التعليم، من خلال فرض نفسه على تشكيل فرص عمل جديدة ومختلفة عن نوعية فرص العمل القديمة ذات الجاذبية المألوفة. ولعل بداية التعامل السليم مع هذا التحول التاريخي، تبدأ بالتوقف عن طرح السؤال المتهكم عند تقدير جهود عامل الصيانة: «وهل هو طبيب؟»، لأن المستقبل يتجه إلى تعزيز جواب بدأ يطل برأسه اليوم: «نعم، إنه بمكانة الطبيب».
العالَمْ من دون صيانة
نشير إلى من فاتهم الاطلاع على مقالة «العالم من بعدنا» التي ورد ذكرها في سياق هذا الحديث عن الصيانة، تصور بشكل متخيَّل ما سيحل بالعالم لو أن الإنسان اختفى فجأة عن وجه الأرض.
وعلى الرغم من أن المقالة المذكورة تحرِّك الوعي في أكثر من اتجاه واحد مثل العلاقة بين الإنسان والموارد الطبيعية، وارتباط الحياة الحيوانية بوجود الإنسان، وغير ذلك. فإن اندثار العالم بمنجزاته ومعالمه التي نعرفها اليوم، سيتم بسرعة لغياب الصيانة بغياب الإنسان الذي يقوم بها اليوم. ونذكر من جدول المتغيرات الكثيرة التي وردت في المقالة وفق ترتيب زمني يبدأ فور اختفاء الإنسان، ما يأتي:
بعد اليوم الأول: محطات الكهرباء والمصانع الذاتية التشغيل ومحطات الطاقة النووية ستتوقف.
بعد يومين تقع حوادث وحرائق عملاقة في آبار النفط والمصافي. وتبدأ الأنفاق في باطن المدن الكبرى بالغرق نتيجة تسرب المياه الجوفية إليها.
خلال أول ربيع يمر على العالم «من دون صيانة» يكون الشتاء قد سدَّد ضربته للمباني والهياكل المعمارية فاسحاً المجال للمملكة النباتية لتكتسح كل ما في طريقها. وخلال سنة واحدة ستكون النباتات البرية والحشائش قد أطلت من كل فجوة تسقط عليها أشعة الشمس في مدن العالم بأسره.
بعد عشرين سنة يبدأ التآكل في الهياكل الخرسانية في المباني.
بعد أربعين سنة، تكون كل البيوت الخشبية (%90 من بيوت أمريكا) قد انهارت تماماً وسويت بالأرض بفعل الحشرات الآكلة.
خلال 100 سنة ستكون كل كنوز المكتبات والمتاحف قد أتلفت جزئياً أو كلياً.
ما بين 100 و300 سنة تبدأ الأبراج المعدنية وناطحات السحاب بالانهيار.
بعد 500 سنة يبدأ انهيار المباني الإسمنتية.
بعد ألف سنة لا يكون قد بقي من الإنسان أي شيء يشير إلى أنه كان موجوداً على سطح هذا الكوكب.