تعقيباً على السؤال الذي طرحته «القافلة» في عدد يناير/فبراير 2010م (العدد 1 مجلد 59) السابق حول قدرة الإبداع على توفير العيش الكريم لصاحبه، يتطرَّق هنا أشرف فقيه إلى الأدوار المختلفة التي يمكن أن تلعبها الرعاية في هذا المجال، بدءاً بأشكالها الراقية كمسؤولية اجتماعية، وصولاً إلى صناعة النجوم في العصر الحديث.
بعدما فاز الروائي السعودي عبده خال بجائزة «بوكر» (Booker) المرموقة للرواية العربية، تم تكريمه مباشرة في أكبر محفل اجتماعي-ثقافي بجدّة، هو إثنينية الشيخ عبد المقصود خوجة. وكان من المدهش أن الصحف نقلت حواراً علنياً دار بين الحضور عن ضرورة تفريغ خال للكتابة الإبداعية.. ودار نقاش ساخن حول: «من يتحمل تكاليف هذا التفرغ؟».. أعيان المجتمع من الحاضرين؟ أم الدولة؟ أم غيرهم؟
يعبِّر هذا الموقف «المحرج» عن جوهر أزمة المثقف -في كل مكان- مع الحياة الكريمة. بل إن مصطلح «الحياة الكريمة» هذا يبدو ضبابياً وغامضاً. فهل يفترض أن يعيش الفنان أو الأديب فقيراً قريباً من نبض الشارع والطبقات الكادحة ليعبِّر عن همها؟ أم هل يكفيه أن يعيش «مستوراً»؟ وما المانع في أن يكون ثرياً؟
عند البعض، فإن المبدع الثري هو مبدع خائن لرسالته الفنية. سنذكِّر هنا أيضاً أن قائمة بأغنى المطربين العرب قد صدرت في 2009م.. فاجأت الكثيرين بوجود بعض الأسماء غير المتوقعة في مراكز متقدمة منها!
وقبل أن نتساءل عن قدرة الإبداع على ضمان حياة كريمة لصاحبه إذاً، علينا أن نحلِّل العلاقة بين شظف العيش والإبداع الأصيل. البعض سيجادل بأن المعاناة هي الرحم الأوحد الذي تولد منه عبقرية المبدع. وهذه نظرية تستحق التأمل. ولها أمثلة لا نهائية عبر التاريخ: فنسنت فان جوخ، وإدغار آلان بو، وعبد الحليم حافظ، ومحمد شكري وغيرهم الكثيرون.
الحاجة إلى الرعاية
والتأمل في الأسماء الواردة أعلاه بالذات سيعيدنا إلى استنتاج آخر: فالمبدع هو بحاجة أكيدة لـ «راع» أو «عرّاب» لأدبه ولفنه ولإبداعه. إنه مهما بلغ مستوى عبقريته لن يحلّق في سماء النجومية لو لم يجد من يتبناه ويروِّج له ولمنجزه الإبداعي. سواء في حياته أو بعد مماته. هذا الترويج قد يصدر من لدن ناقد أو ندّ أديب أو فنان، وفي هذه الحالة فإن مبدعنا سيحظى بنجومية معنوية.. ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع!
أما إذا كانت الرعاية والاحتضان مقدمة من لدن شخصية اجتماعية أو رسمية ثرية ونافذة، فإن إبداع هذا المبدع سيتحول إلى «موضة». وسيحرص الخاصة ومن ورائهم العامة على اقتناء «منتجه» الإبداعي فتروج سلعته ويتحصل على الثروة والشهرة معاً.. وهذه غاية المراد.
حتى الأمثلة التي ذكرها الأستاذان إبراهيم العريس وناصر سعد الأخرس تصب في هذا السياق. فالرسام سلفادور دالي بكل قدِّه وقدره احتاج لراعٍ اسكتلندي كي ينفق على إبداعاته المدهشة -وهذه صفة تحتمل المعنيين-. ولو عدنا إلى بدايات عصر النهضة الأوروبية مثلاً فسنجد أن طبقة حاكمة نبيلة مثل أسرة ميديتشي الإيطالية كانت وراء إبداعات ليوناردو دافينشي وسواه من أعلام الفن في ذلك الزمان، وكرست لتوجه في رعاية الإبداع رسم ملامح الثقافة الأوروبية لقرون تلت.
وحتى عبر مطالعة سريعة للعصر الإسلامي الذهبي، سنجد أن بعض الخلفاء المثقفين -كالمأمون العباسي ابن هارون الرشيد- كانوا هم شخصياً وراء ازدهار الفنون والعلوم في عصورهم. وعبر الحقب المختلفة كان إنفاق الخلفاء والسلاطين على طلبة العلم وتفريغهم التام لإبداعهم الفكري عبر تخصيص المخصصات والأوقاف للنفقة عليهم، كل ذلك كان معلماً أساسياً للنهضة الفكرية كما يقرر المؤرخون.
دور الطبقات العليا في المجتمع
نستطيع أن نقول إذاً إن ازدهار الإبداع ورواجه في مجتمع هو شهادة لصالح الطبقة المخملية النافذة في ذلك المجتمع.. والعكس بالعكس صحيح. ذلك أن النخب الاجتماعية والاقتصادية هي الممرات التي من خلالها تظهر النخب المثقفة وتقدِّم أفكارها. تلك هي المسؤولية الثقافية للطبقة البرجوازية إن صح التعبير: أن تقدم لباقي الشعب نمطاً ثقافياًً معيناً.. وأن تكون هي مدرج إقلاع الفعل الإبداعي.
إننا نرى كيف يقوم الأثرياء بإنشاء المتاحف والإنفاق على كراسي الأبحاث بالجامعات وتدشين المراكز الفنية.. لكن ما يلي هذه المشاريع الآنية هو موجة من الاهتمام الفني والثقافي التي تمس المجتمع ككل. الإغداق على الفكر والفن ليس محض نزوة تصيب الثري. إنها خطوة في المسيرة الحضارية للمجتمع ككل. لنتذكر ما فعله طلعت حرب بإنشاء «ستوديو مصر» في أوائل القرن الماضي مثلاً.
بعد توافر الراعي الرسمي.. تأتي موهبة الفنان نفسه وعبقريته في تكوين شبكة علاقات عامة تضمن رواجه. السياسة هي ركن أصيل في خلق صورة النجم المبدع. وليس من الغريب أن المبدعين محدودي الذكاء الاجتماعي أو الانطوائيين قد نالوا إما الشهرة المطبقة والمجد لكن بعد موتهم، وإما نالوا المجد أحياء إنما بدون مردود مادي مجزٍ.
أحياناً، وكحالة استثنائية تتكفل الدولة بدور الطبقة البرجوازية، وتتحمَّل كلياً هَمْ الترويج للإبداع. وهذه الحالة على استثنائيتها تظل شاذة وغير متسقة مع الفعل الإبداعي ككل. لأن المبدع حينئذ يكون محصوراً ضمن الخط السياسي لراعيه. وهذه معلومة تظل صحيحة مع رعاية الثري الفرد أيضاً. لكن التملص من سلطة الفرد هي أهون بكثير من سلطة الدولة. وإذا ما عارض المثقف السلطة التي تنفق عليه فإنه سيخسر نفقتها.. وإن كان سيتحوَّل إلى رمز نضالي. وما أكثر المناضلين الفقراء.
هناك إذاً منظومة لصناعة النجوم. والإقرار بهذه الفكرة سيقودنا إلى سؤال حول مدى أخلاقيتها أيضاً. لأن سوق النجوم خاضع لشروط العرض والطلب، وخاضع لشروط السماسرة والمعلنين والخبراء في تشكيل الذائقة الجماهيرية وفق مصلحة السوق.
لهذا، فإن الإبداعات الشاطحة في غرابتها تُرفض مبدئياً، لأن السوق لن يستوعبها. أحياناً، لا يمكن للعرَّاب أو الداعم للفنان أن يفرض ثمة بضاعة على المتلقي.. وأحياناً ينجح في ذلك فيخلق فرقعة عظيمة ويجعل من فنانه نجماً ثرياً.
وأحياناً يجد الجمهور نفسه مجبراً على «ازدراد» فن عجيب غير مفهوم وصادم.. لكنه مفروض عليه ومنصوص على «عظمته» من قبل سدنة -أو سماسرة- سوق الإبداع!
نظرية «صناعة النجم» هذه قائمة اليوم في عالمنا العربي، وتحمل رايتها القنوات الفضائية وشبكات الإعلام الرقمي. فنحن نجد فنوناً وفنانين بلغوا من الشهرة والثراء مبلغهما، رغم أن هؤلاء يقدِّمون فنوناً «هابطة» كما يصر النقاد والذواقة.
لكننا لا نتناول القيمة الإبداعية هنا. إننا نتكلم عن المبدع الثري الذي تمكن من أساليب الثراء. وكما نرى، فإن ملاَّك الفضائيات والقائمين على الإعلام الفني العربي اليوم هم من يرسمون خطوط الإبداع وهم من يصنعون النجوم. إنه ليس ذنب المبدع إذاً ولا هي مهارته.. إنه الحظ الذي قد يلقيه أمام راع أوعرَّاب نافذ فيصنع منه ومن إبداعه سلعة يدفع الناس لأجل اقتنائها الأموال!