حياتنا اليوم

حديث عن الضيافة العربية

الكل نال نصيبه من دعوات العشاء والغداء وحتى الإفطار.. دعوات رسمية وغير رسمية.. إلى مائدة طعام طويلة تكفي لجلوس أكثر من عشرة أشخاص حولها، أو سفرة بسيطة على الأرض، أو بوفيه مفتوح لتذوق الضيوف مرة بعد أخرى.. وفي أذهاننا، خصوصاً عندما نلعب دور المضيف، تمثلٌ بالكرم العربي الحاتمي، وسباقٌ محموم يحمي ضيافتنا العربية من أي خلل أو تقصير قد تتعرض له على أيدينا.. ولكن عندما يتأمل المرء حاله وحال من يعرف بشأن العلاقة، التي تبدو واضحة جداً خصوصاً لنا كعرب، بين المضيف والضيف، قد يصل إلى أفكار تتفق أحياناً وتتعارض أحياناً أكثر مع ما اعتاد عليه في فهمه للضيافة كما ينبغي أن تكون..

يبدو أحياناً أن أصل الضيافة العربية كما قدَّمه لنا العرب الأوائل واستمر عبر العصور حتى وصل إلى أيدينا، قد اختلط بالمظاهر التراثية التي تنم عنه.. فالقهوة العربية مثلاً جزء من مظاهر ترحيبنا بالضيف، ثم هناك الذبائح، وهناك الموائد الطويلة والوجبات المتنوعة التي قد لا يتذوق الضيف نصفها.. وكلما أكثرنا من هذه المظاهر.. شعرنا بأننا أضفنا إلى التراث العربي العريق ولم نخذل تقليداً رُبِّينا على إكباره واحترامه. ولكن عندما نستبدل بالقهوة العربية مشروبات غازية مثلجة وصحون ممتلئة عن آخرها بأنواع شرائح البطاطس على اجتماع ضاحك وحماسي لأصدقاء على مشاهدة مباراة من مباريات المونديال، على سبيل المثال، فالصورة ليست ذات علاقة بالضيافة العربية ولا ترسخ لهذه التقاليد.. أليس في هذا المثال، على سطحيته ومعاداته لنموذج الأكل (الصحي)، خلطٌ بين الأصل والمظهر؟ ألا تقتضي الضيافة أن نبهج الضيف بما يناسب مزاجه وما يتوقعه ويحبه؟ لم إذن تحضر الضيافة العربية في أذهاننا عند القهوة.. وتختفي عند المشروبات الغازية؟

الكاتبة الأمريكية الشهيرة نورا إيفرون لا تمانع أن تطلب أطباق السمك المختلفة في المطاعم، أو أن تتذوقها في منازل أصدقائها، لكن عندما يأتي الأمر لتخطيط دعوة غداء أو عشاء في منزلها فإن نورا ترفض تقديم السمك تماماً، والدافع وراء هذا الموقف الصارم هو سبب مضياف محض. فالسمك وجبة سهلة الأكل ولا تتطلب ممن يتناولها جهداً أو تفكيراً في تقطيعها ومضغها، ولا تؤمن له أيضاً فرصة للعب بالطعام.. الترصد له وتحريكه والإشارة بالشوكة أو السكين أثناء الحديث.. وبالتالي لا يعود أمام الضيف سوى مضغ طعامه بسرعة، ثم البقاء لدقائق مع المضيف لشكره قبل أن يتجه إلى الباب ويترك مضيفه وحيداً مع الأطباق. قد يتفق البعض مع نورا أو قد يختلف، لكن يجوز القول إن هذا تفكيرٌ يمتحن أصل الضيافة ولا ينشغل بمظاهرها..

الضيافة اليوم، خصوصاً لأنها ضيافة عربية، تحتاج إلى إعادة نظر.. تحتاج إلى أن يستعيد المضيف بهجته بالضيف ويبتعد عن انشغاله بمظاهر الضيافة، تحتاج إلى أن تأتي ضيافته من واقع عصره وثقافته وحضارته بل وأسلوبه الخاص.. تذكر تلك الدعوة التي شعرت فيها بإكرام المضيف أو المضيفة لك دون ضغط أو إجهاد؟ من دون أن تقرأ في عينيه قلقاً من أن ينقص من الطعام شيء أو أن يكون الملح قد زاد في الطبق أو أن يخرج الضيف دون أن يكون قد أشبع معدته..؟ لِمَ لا تراجعها، وتحاول أن تقتدي، ومرة بعد مرة سيتكون لديك أسلوبك الخاص في الضيافة، وربما تقرر أن السمك هو أفضل الوجبات لأسباب تطيح بعملية أسباب نورا إيفرون.. وحينئذ ستكون زيارة أي ضيف لمنزلك فرصة كي يتعلَّم أكثر عنك، يستمع إلى ما يقوله منزلك، ومطبخك، ومائدتك عنك.. وتصبح حينئذ ضيافتك له، فعلاً، كما في بيت حاتم الطائي الشهير، مدعاةً للأحاديث والذكر.

أضف تعليق

التعليقات