الرحلة معا

غازي القصيبي

مالئ الدنيا وشاغل الناس

يضم عددنا هذا مجموعة من المواد عن معالي المرحوم الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، وزير العمل السعـودي، الذي كان خلال مرحلة إنتــاج العدد لا يزال على فراش المرض بعد فترة العلاج التي أمضــاها في الولايـات المتحدة. وقد انتقل – يرحمه الله – إلى جوار ربه، يوم الأحد 5 رمضان 1431هـ (15 أغسطس 2010م) في مستشفى الملك فيصل التخصصي في مدينة الرياض. نسأل الله للدكتور غازي الرحمة والمغفرة وأن يسكنه فسيح جناته. لقد كان الدكتور القصيبي هرماً من أهرام المملكة، أبدع في عدة مجالات، وصار في بعض الأحيان مالئ الدنيا وشاغل الناس، بسبب إنجازاته الإدارية في الوزارات التي تحمّل مسؤولياتها منذ منتصف السبعينيات الميلادية، وإبداعاته الأدبية والشعرية والفكرية.

لقد تميَّز الدكتور غازي برؤية ثاقبة، تركِّز على الخطوط العريضة، ولا تضيع وسط التفاصيل التي تعالج عادة في مستويات أخرى. كما أنه اتسم بمواجهة المشكلات ووضع الحلول والخطط للتعامل معها بأسلوب علمي فعّال. وكلنا يتذكر دوره في إحداث نقلة نوعية كبيرة في المملكة في أكثر من مجال.

فحين كان وزيراً للصناعة والكهرباء في أواخر السبعينيات عمل، وبدعم من جلالة الملك خالد وولي عهده الأمير (الملك) فهد – رحمهما الله – لإعادة بناء قطاع الكهرباء في المملكة، وتحويله من مجموعة شركات صغيرة متناثرة هنا وهناك إلى شركة عملاقة تخطط للمستقبل وتتوقع المشكلات وتضع لها الحلول.

وكلنا يتذكَّر دوره في بناء مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين وإنشاء شركة سابك التي أصبحت عضواً ثابتاً في قطاع الصناعة البتروكيميائية العالمية. واليوم نرى سابك، التي واجهت بعض المشكلات في احتلال مكانها الطبيعي في السوق في البداية، تتحوَّل إلى عضو رسمي في هذا السوق، ومصدر دخل رئيس للمملكة يضيف قيمة لمواردها البترولية ويزيد من دخلها.
وحين كان وزيراً للصحة أحدث نقلة نوعية في الخدمــات الصحيـة في الممـلكة إلى درجة أن الألسن لا تزال تلهج بذكره والدعاء له حتى اليوم. لقد ركَّز على رفع مستوى الأداء في المستشفيات العامة والخاصة، ففاجأ تلك المستشفيات بزيارات ليتأكد من جودة الخدمات التي تقدَّّم للمرضى. وكان النشر عن تلك الزيارات يمثل رادعاً للمقصرين المنتمين للمؤسسات الصحية الأخرى في البلاد.

ولا أريد أن أتحدث في هذه الافتتاحية عن أدب وشعر الدكتور غازي فهو عَلَمٌ في مجال الرواية والشعر، ولكنني أود أن أعيد إلى الذاكرة دوره، الذي سبق زمانه، في مجال الأمن الفكري، حين حاور عدداً من المتشددين في ذلك الوقت بشكل علني.

كما أننا لا ننسى أنه كان بعد غزو الكويت وزارة إعلام بحالها حين تصدى للمعتدي وأعوانه في الدول الأخرى في عمود (في عين العاصفة) الذي كان ينشر يومياً في جريدة الشرق الأوسط. كان عموده يعالج أهم الموضوعات، وبأسلوب بليغ ومؤثر، فتتناقله أجهزة الفاكس (البريد الإلكتروني لم يكن شائعاً في ذلك الوقت)، ويكون موضوع الحوار في المجالس.

كما تميز الدكتور غازي بحسن استغلاله لوقته. ولذلك فقد ألَّف الكتب والدواوين وهو على رأس الوزارات. ولكنه حين خرج من الوزارة إلى السفارة، في فترة من فترات خدمته، استفاد من الوقت الإضافي المتوافر فأتحفنا بالكثير من الروايات والدواوين التي كانت من أكثر الكتب مبيعاً.

أما أدواره الإنسانية فحدِّث ولا حرج. وأول ما يخطر في البال هنا أعماله في وزارة الصحة. كما لا ننسى أنه هو صاحب فكرة جمعية الأطفال المعاقين التي أصبحت من أهم الجمعيات الإنسانية في بلادنا. وهو منشئ جمعية أصدقاء المرضى التي لا يعرف قيمتها إلا المرضى الذين لا يحظون بزيارات لأسباب مختلفة.

الدكتور غازي القصيبي عملاق من عمالقة الوطن العربي، بتعدد الفنون التي أبدع فيها، وبأدواره الرسمية والوزارات والسفارات التي تحمَّل مسؤولياتها وأحدث فيها نقلة نوعية. أتذكر أنه حين كان سفيراً للمملكة في المنامة ولندن أنه كان ينظِّم لقاءً أسبوعياً غير رسمي للسعوديين المقيمين والزائرين، يكون فرصة للتعارف والتآلف وحل المشكلات، إن وجدت.

وبالإضافة إلى كل ما ذكر فقد كان الدكتور غازي يتصف بثقة في النفس ترفض التواضع المزيف ولكنها لا تصل إلى درجة الكبرياء. كما كان محط ثقة ولاة الأمر في هذه البلاد فقدَّموا له الدعم وأعطوه الصلاحيات لرفع مستوى القطاعات التي تولاها فقام بالدور خير قيام في كل قطاع مرّ عليه.

معالي الدكتور غازي:
باسم كل من استفاد من تحسين خدمة كنت خلف تحسينها، سواءً في مجال الكهرباء أو في مجال الصحة أو في المجالات الإنسانية الأخرى، وباسم من يتمتعون بقراءة كتبك، الروايات والدواوين الشعرية وغيرها، نسأل الله – العلي القدير – أن يشملك بعفوه ومغفرته، وأن يجعلك من سكان الفردوس الأعلى، وأن يلهم أهلك وذويك ومحبيك، الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أضف تعليق

التعليقات