يقول ناقد إيطالي معاصر وهو يتجول بين جنبات مهرجان البندقية هذا العام: «إنه أرشيف للفن المعاصر». كل عامين تعيش فينيسيا أو البندقية، أحلى أيامها, ففوق هذه المدينة العائمة يلتقي الفنانون المعاصرون لكي يعرضوا آخر صناعاتهم, وأحيانًا صيحاتهم الفنية في مسرح مفتوح تتمازج فيه الألوان والأشكال والكتل لتخلق فضاء ثريًا وخصبًا يعكس تنوع ثقافات العالم ومقارباته الجمالية. أما جديد هذا العام فهو التحاق عدد من الدول العربية, بينها المملكة, بقطار البينالي الذي يعد الحدث الأقدم والأشهر في العالم في مجال العروض الدولية للفنون المعاصرة.
زميلنا عبدالله المغلوث تجوَّل لأيام بين ردهات البينالي 54، الذي انطلق في يونيو الماضي، وعاد بهذا التقرير المفصل.
الجناح البريطاني كان من مفاجآت البينالي، إذ نقل الفنان مايك نيلسون منزلاً تركياً بكل تفاصيله إلى البندقية
اليابانية تابايمو تقهر ضفدع الفيلسوف الصيني جوانغ زي، وورود «يونغ لي» تغني وتفترس، ومطبعة «بولتنسكي» تنجب أطفالاً، والفلك الأسود السعودي يسطع في فضاء الأرسنالي
بينالي البندقية المكان الوحيد في العالم الذي لا يحتاج إلى خريطة. آلاف الزوار الذين يقصدونه زرافات ووحداناً من كل أنحاء العالم يتركون الخرائط المعروضة أمام البوابات خلفهم. بوصلتهم هي الأعمال الفنية التي تجعلهم يرددون أمام كل عمل فني «واااااو» سواء كانوا صينيين أو سعوديين، دانماركيين أو أندونسيين. يقول الصحفي ريتشارد دورمنت في الديلي تلغراف، إن «البينالي»: «يمتلك لغة خاصة يجيدها ويفهمها الجميع. عند زيارته لا تحتاج إلى مترجم أو دليل أو خريطة. تحتاج فقط إلى أن تجلب معك كل حواسك لتتمتع بكل لحظة، وبكل عمل في أروقته».
وإذا كانت كأس العالم لكرة القدم تضم أفضل 24 منتخباً لكرة القدم، فإن البينالي يحتضن في دورته الحالية الرابعة والخمسين، التي افتتحت في الرابع من يونيو وتنتهي في 27 نوفمبر من العام الجاري، 89 دولة. وتمثل المشاركة في البينالي حلم أي فنان. تعد ليزا فريمان، الخبيرة في الفنون الحديثة، أن الشخص الذي ينال شرف المشاركة في «البينالي» كالذي يحصل على جائزة نوبل في الفنون المعاصرة.
إن السعادة لا تغمر الفنانين المتواجدين في البندقية فحسب، بل حتى الزوار الذين ينتظرون سنوات عديدة حتى تتاح لهم فرصة حضور هذه الأولمبياد الفنية التي يبلغ عدد زوارها نحو 3 آلاف يومياً. فالياباني هيشو يوشيرو انتظر وزوجته 11 عاماً حتى استطاعا توفير ثمن الرحلة والإقامة في البندقية لحضور البينالي لمدة أسبوع.
البينالي رقم 54 الذي يقام تحت عنوان «إضاءات» يشعل الضوء في داخل كل شخص فينا، سواء كنا فنانين، أو أشخاصاً عاديين. يحرضنا ويستفزنا ويلهمنا. إنه يضيء الجوانب المعتمة في دواخلنا. إنه ليس رحلة بجوار أعمال تركيبية وفنية مذهلة، بل رحلة تلامس شغاف القلوب، وتحرك الوجدان والأبدان.
«القافلة» هنا تستعرض ثمار رحلة قصيرة إلى البينالي استغرقت ثلاثة أيام بصحبة الألوان والنوارس، وصهيل القوارب الصغيرة التي تسبح في قنوات وعروق البندقية.
الطفل الرهيب
جناح ألمانيا مسرح للدهشة. فور أن تدخله ستشغلك ثلاث شاشات ضخمة تعرض ثلاثة أفلام متفرقة في وقت واحد. المؤثرات الصوتية والضوئية التي تتداخل مع بعضها وتملأ الجناح صنعت فيلماً رابعاً لا يقل إثارة عن البقية. ستحتار ماذا تشاهد وماذا تترك خلفك. لكن ستتخذ القرار نفسه الذي اتخذه الزائر الذي سبقك، والآخر الذي سبق من سبقك، وهو أنك ستلتهم الثلاثة أفلام الواحد تلو الآخر. ففي البينالي لا مجال للتفريط في أي مشهد. وستختتم جولتك بتصفح أثاث الجناح الذي يرتدي أزياء مسرح كلاسيكي عتيق. مسرح مطلي بوجوه موسيقيين ومسرحيين ألمان عظماء كبيتهوفن، وباخ وفريدريش شيلر يلوحون بأيديهم نحوك. هذا المزيج المدهش من الأفلام والموسيقا والثقافة والمسرح والصور لا يستطيع أن يقدمه بهذه الحساسية والمهارة سوى شخص واحد. هذا الشخص هو الفنان الألماني الراحل كريستوف شلينغنسيف، متعدد المواهب، الذي كرمه وطنه باستعراض أعماله في بينالي البندقية 54. شلينغنسيف المخرج السينمائي والمسرحي والأوبرالي، الذي توفي في أغسطس عام 2010م عن عمر يناهز 49 عاماً، إثر إصابته بسرطان في الرئة ملأ رئات الزوار بعطر أعماله في فينيسيا. يقول الموسيقي الفرنسي، برينارد تشاروي، الذي كان يحمل كاميرتين فوق كتفه، ويصور كل شيء في الجناح الألماني حتى أحذية الموسيقيين الذي ينتشرون بسخاء في أنحاء المعرض وشرايينه: «هناك شيء لا أستطيع أن ألتقطه هنا. هذا العطر الذي يفوح من هذه الأعمال التي تركها كريستوف وذهب».
القاسم المشترك بين أعمال شلينغنسيف هو رائحتها. فرائحة النبل تتدفق من مشاهدها. يعالج في جل أعماله الفقر والعنصرية والبطالة بطريقة فنتازية لا تشاهدها فحسب، بل تتأملها وتستنشقها وتبكي إثرها ومعها. استعرض الجناح عملاً مسرحياً خلاباً لكريستوف بعنوان: «فرصة 2000» قدم فيه رؤية درامية عن العاطلين عن العمل بطريقة مؤثرة. رصد دموعاً يذرفها العاطلون من عيونهم ومن أفواههم ومن أصابعهم. أنتج بروفايلاً تصويرياً باذخاً أسماه: «100 عام مع أدولف هتلر، الساعات الأخيرة في قبو الفوهرر» اتسم بالبساطة والتعقيد. أحياناً تعتقد أنك أمام معادلة رياضية، وأحياناً أخرى تحسبك تستمع إلى نهر يتدفق.
يعشق «الطفل الرهيب»، كما يحلو للنقاد الألمان مناداة كريستوف، التقشف في استخدام الألوان سواء في أفلامه أو ملابسه. يعتقد أن وفرتها في العمل يعد تبذيراً للتركيز وفقراً في الإبداع، لذلك تكتفي أعماله بألوان قليلة، لكنها تزدهر بقصص غفيرة.
وقد اضطرت الفتيات الألمانيات اللاتي يحرسن الجناح بابتساماتهن إلى توفير دفتر آخر للضيوف، لتسجيل آرائهم بعد أن امتلأ الأول، ذو المئة صفحة عن بكرة أبيه، بعد أيام قليلة من افتتاح البينالي. تقول فتاة فيتنامية في الدفتر الجديد مخاطبة، أينو لابرينز، زوجة الفنان الراحل التي ساهمت في جمع أعماله وعرضها في الجناح: «أحسدك… أحسدك… إنه فنان هائل. غيرني بعد ساعة قضيتها بجوار أعماله، فكيف بكِ أنت التي قضيت سنوات بجواره».
وشكر فنان ألماني المخرجة سوزان جينشيمر، التي كان لها اليد الطولى في هذا الجناح، قائلاً:«كريستوف يمخر عباب قلوب جديدة في فينيسيا العائمة. أنت السبب يا سوزان».
بلاتيني الفن
إذا كان الجناح الألماني بدا كمسرح أوبرا، فإن الجناح الفرنسي ظهر كمطبعة صحيفة ورقية. لكنها لا تطبع الصحف والمجلات، وإنما الأطفال. فقد برع الفرنسي كرستيان بولتنسكي في تقديم عمل يثير الأسئلة بعنوان «فرصة». ويُظهر كيف أصبحت الحياة ميكانيكية. ينمو الأطفال في بيئة تجعلهم يتوارثون عادات متشابهة. تجعلهم يصبحون نسخاً متكررة وإن اختلفوا قليلاً. جودة العمل لا تشعرك في لحظة واحدة أنك في جناح فني بل في مطبعة حقيقية من خلال أوجاع الورق، وصراخ المكائن. بولتنسكي لم يحصل على أية شهادة في الفنون. اعتمد على تدريب نفسه بنفسه، من خلال اطلاعه الخاص. كان يدخل المتاحف والمعارض بتذاكر متسخة يلتقطها من أكياس النفايات بجوار المراكز الفنية. بدأ رساماً تشكيلياً في عام 1958م، ثم اتجه لإنتاج الأفلام القصيرة في الستينيات. أما في السبعينيات فقد كرس جل وقته لصناعة مجسمات ومنحوتات بمواد مختلفة. تارة بالطين، وتارة أخرى بالسكر والقماش. كان هدف بولتنسكي هو صناعة شيء جديد. لا يدري بولتنسكي ما هو، لكن يعلم أنه في الطريق إلى اكتشاف هذا الشيء. في مطلع الثمانينيات انشغل بالصورة الفوتوغرافية. انكب على الصورة المظلمة. ركز على الظل وانصرف عن الأصل. بدأ يستكمل بعض الصور بريشته. خرج بأعمال غير مألوفة. تطور هذا الاهتمام لديه وصنع معارض تتركز على هذا الاتجاه. مؤخراً انشغل بالأطفال ونموهم وتشابههم والحياة الرتيبة التي يعيشونها حسب فلسفته.
إن مشاركة بولتنسكي في البينالي تعكس انغماسه بتجربته الجديدة المليئة بالأطفال وبيئتهم. ربما في العقد القادم سيكون لبولتنسكي «66 عاماً» معرضاً آخر في مكان آخر، لكن سيكون حتماً في موضوع مختلف. مختلف كلياً. فبولتنسكي يمقت النمطية ويهوى التغيير. هذه المفردة لا يرددها بل يكرسها في كل مشاركة جديدة له. إنه مثل ابن جلدته «بلاتيني»، لاعب الكرة الشهير، لم يركن لإبداعه في التسجيل من الكرات الثابتة. فهو يسجل بالرأس وبالصدر إذا تطلب الأمر ذلك!
ورود مثيرة
الفنان بايك يونغ لي فرش جناح كوريا بالورود. ما بين وردة ووردة هناك وردة. الجميل في ورود بايك أنها تتحرك. وأحياناً تقتل. بايك المعروف بمواهبه المتعددة في الرسم والنحت والكتابة يؤمن بأن بعض الورود عنيفة. قد تلتف حولك وتخنقك. لذلك وضع وروداً في أرجاء الجناح تفترس وأخرى تغني.
عندما اختار مجلس الفنون الكوري الفنان بايك يونغ لي ليصبح ممثلاً رسمياً لكورياً في بينالي البندقية استحم في اليوم التالي بقصاصات من الأخبار التي نشرتها الصحف عن اختياره. بايك يحول كل شيء حوله إلى مادة قابلة للنشر والتصوير. حصد بايك إعجاباً كبيراً في بلاده خلال مشاركته في مهرجاني غوانغجو وبوسان. كتب أحد المعجبين به في صفحته على الفيس بوك: «إنه مصنوع من الألوان».
فلسفة الضفدع
ولا يقل الجناح الياباني إثارة عن الكوري، فالفنانة اليابانية الشابة، تابايمو «36 عاماً» استطاعت أن تنتصر لخيال الضفدع. وأعادت قراءة المقولة الشهيرة للفيلسوف الصيني جوانغ زي، عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، التي قال فيها: «الضفدع في البئر لا يستطيع تخيل ما يجري في المحيط» عبر عمل تركيبي متعدد التقنيات يجسد قدرة الضفدع على رؤية السماء بوضوح والتي بدورها تعكس ما يجري في المحيط بكل دقة.
فالسماء هي مرآة الماء حسب تابايمو. وأدهشت تابايمو الجمهور الكبير الذي زار الجناح الياباني بعملها الفلسفي الذي استخدمت فيه الكثير من الخامات والتقنيات والألوان بمهارة فائقة وتناغم فريد. ولم تستطع الفنانة الشابة التي أطلت في الجناح بفستان بسيط إخفاء دموعها وهي تشاهد الزوار يصورون عملها ويصفقون لها. انحنت لهم وودعتهم بابتسامة مبللة بدموع فرحها.
إسطنبول القديمة
من مفاجآت البينالي الجناح البريطاني الذي تصدى له الفنان مايك نيلسون «44 عاماً» ببراعة. نقل منزلاً إسطنبولياً بذكاء إلى البندقية. غرفة المعيشة، وغرفة النوم، والدرج، والأواني المنزلية. إعجاب الزوار بالجناح والفكرة يجسده الطابور الطويل الذي يقلك إلى داخله. الانتظار يصل إلى نصف ساعة حتى يتسنى للزائر الوصول إلى المدخل الرئيس. الخارجون من المنزل يربتون على أكتاف الداخلين قائلين: «إنه يستحق الانتظار». لكن قبل الدخول يستوقفك أحد المنظمين قائلاً: «أرجوك، لا تلمس أي شيء من المقتنيات. احترس، إن السقف منخفض، والمصابيح قابلة للكسر. الغبار، يسود المكان». سألته: «كم تستغرق الجولة». فأجابني: «حسب تأملك واهتمامك» .
هناك من يقضي 5 دقائق. وهناك من لا تكفيه 3 ساعات متواصلة». شخصياً، أنفقت ربع ساعة متجولاً بين أركان المنزل الذي لا ينقل أسطنبول القديمة إلى البندقية، بل ينقل الكثير من المنازل العربية بطقوسها وشخوصها وأثاثها. يقول الصحفي البريطاني، ريتشارد دورمنت، الذي يكتب للديلي تلغراف البريطانية: «إن هذا الجناح من أجمل الأجنحة التي شاركت فيها بريطانيا. ربما ينافسه جناح عام 1995م. إن الفكرة ساحرة والتنفيذ عظيم. أرشحه للحصول على جائزة في البينالي»«التلغراف، 31 مايو، 2011م». لكن لم يحصل نيلسون على جائزة كالعادة. فسوء الحظ ما زال يلازمه، إذ كان أحد المرشحين مرتين للحصول على جائزة تيرنر، أهم وأرفع جائزة في الفنون المعاصرة البريطانية التي تمنح الفائز بها 25 ألف جنيه استرليني، بيد أنه لم يحصل عليها حتى اللحظة.
رياضيو أمريكا
وأمام الجناح الأمريكي يسير الرياضي دان أوبراين الحاصل على ذهبية العشاري في أولمبياد أطلانطا عام 1996م، فوق جهاز الجري الثابت «تريد ميل» المثبت على دبابة عسكرية. وعلى بعد خطوات من الدبابة تبدو مواطنته بطلة العالم في الجمباز تشيلسي ميميل تقفز بين كراسي متفرقة وضعها الفنانان جنيفر ألورا وجيليرمو كازاديلا اللذان فازا بتصميم الجناح الأمريكي في دورة البينالي الجارية.
تقول القيّمة على الجناح الأمريكي، ليزا فريمان، عن جنيفر ألورا وجيليرمو كازاديلا «إنهما يستخدمان الرموز الشهيرة في دورات الألعاب الأولمبية وغيرها من المسابقات الرياضية الدولية في أطر وصيغ جديدة».
وقد أدى هذا التوجه إلى جذب الكثير من الزوار إلى الجناح الأمريكي الذي تدفق عليه الزوار من كل فج عميق لمشاهدة أعمال لورا وكازديلا الممتزجة بأداء خلاق لرياضيين حفروا أسماءهم في الذاكرة عبر إنجازاتهم.
تقول الصحفية البرازيلية ميريتا قوانزالي إن الازدحام الكبير حول الأعمال الأمريكية محير «هل هو من أجل الفكرة أم الرياضيين؟ مهما كان السبب أعتقد أنها محاولة جديرة بالتأمل والنقاش».
آلية اختيار شادية ورجاء عالم؟
يكاد الدكتور عبدالعزيز السبيل، رئيس لجنة جناح المملكة في بينالي البندقية لا يغادر البينالي. يتصفح أجنحة الدول المشاركة باهتمام فنان وناقد حاذق. يرصد الأعمال ويدون الملاحظات حولها في ورقة يحملها أو يسجلها صوتياً في جواله. سألته وهو في طريقه إلى تناول الغداء مع عدد من الفنانين في فندق «دانييلي» الذي تطل نوافذه على منطقة الجارديني الشهيرة عن آلية اختيار ممثل السعودية في البينالي. أجابني وهو يشاهد سفينة ضخمة تقل عدداً من الزائرين إلى مقر البينالي، أن لجنة جناح المملكة ارتأت أن تترك اتخاذ القرار للاختصاصيين. يقول: «الاختيار يعد أهم قرار بعد المشاركة. يجب أن نتخذ قراراً مسؤولاً، لأن العمل ستتم محاكمته من آلاف الزوار والمتذوقين الذين يجيدون قراءة الفن». وقد عقدت اللجنة التي يترأسها السبيل اجتماعات عدة لتحديد الأسماء المناسبة لتولي ملف الاختيار. وبعد نقاشات مختلفة وفق السبيل وقع الاختيار على السعودية، منى خزندار، الحاصلة على الدكتوراه من جامعة السوربون العريقة في فرنسا، ومديرة معهد العالم العربي في باريس، والبريطاني روبن ستارت، المستشار في الفنون المعاصرة والمهتم بالفن العربي ليتصدى لهذه المهمة. ويرجع رئيس جناح المملكة الاختيار إلى خبرة هذين الاسمين وتجربتهما المهمة في هذا المجال.
قال روبن ستارت «56 عاماً» الذي أنفق أكثر من عقدين من عمره باحثاً في الفنون بالوطن العربي أن مهمة اختيار أول ممثل للمملكة في مشاركتها في الأولمبياد العالمي للفنون المعاصرة «البينالي» يعد «مهمة شاقة» على حد وصفه. وأكد الخبير البريطاني في مجال الفنون المعاصرة، أنه استعان وزميلته خزندار بذاكرتهما وأصدقائهما والفنانين والمراكز الفنية في المملكة وخارجها لحصر الأسماء المتميزة في مجال الفنون المعاصرة التي تعكس إبداع الفنان السعودي. ووقع الاختيار أخيراً على 5 فنانين سعوديين في هذا المجال لعرض أفكارهم حول المشاركة. وأشار ستارت إلى أنه وزميلته منى وبتشجيع من لجنة المعرض حرصا على اصطحاب الأسماء الخمسة المرشحة لمقر الجناح السعودي المقترح في الأرسنالي بالبندقية ليقدموا مشاريعهم المقترحة للمشاركة مستلهمينها من أجواء المهرجان الفني. بالفعل ذهب الفنانون المرشحون وهم: فيصل سمره، وشادية ورجاء عالم، وأحمد ماطر، ومهدي الجريبي، وعبدالناصر الغارم إلى فينيسيا. وبعد نحو 6 أسابيع من زيارتهم للبندقية قدم هؤلاء الفنانون، باستثناء أحمد ماطر الذي انسحب بسبب ضيق الوقت، عروضاً عن أفكارهم للقيمين روين ستارت، ومنى خزندار في مقر وزارة الثقافة والإعلام بالرياض.
وفي صباح اليوم التالي وفي فندق الإنتركونتننتال بالرياض، وهو الموعد المحدد لرفع اسم الفنان المرشح للجنة المعرض، وقبل أن تنبس منى خزندار ببنت شفة قال لها روبن: «شادية ورجاء عالم، أليس كذلك؟» ابتسمت حينها منى دلالة على الموافقة. وبعد تناولهما طعام الفطور مباشرة انهمكا روبن ومنى في إعداد خطاب للجنة يوصي بترشيح مشروع شادية ورجاء عالم الذي يحمل عنوان «الفلك الأسود» برفقة المسوغات والعروض الأخرى التي قدمها الفنانون الآخرون.
ويشير روبن إلى أن اللجنة صادقت على القرار مباشرة مما يجسد بيئة العمل الصحية التي تحترم اختصاصات ومسؤوليات الجميع. وتتفق الدكتورة منى خزندار مع روبن مؤكدة أن العمل مع لجنة معرض المملكة كانت «من التجارب الماتعة والملهمة».
ويؤكد روبن وهو يرتشف القهوة في مقهى محاذ للبوابة الرئيسة للبينالي أن عدم فوز الأعمال المتبقية لا يقلل بأي حال من الأحوال من قيمتها، لكن والكلام لروبن «عمل شادية ورجاء كان الأنسب للبينالي حسب وجهة نظره وزميلته منى».
ولم تخف رجاء عالم سعادتها بفوزها وشقيقتها شادية بتمثيل المملكة في مشاركتها الأولى بالبينالي. تقول: «إنه حلم». رجاء التي بدت مبتسمة ومبتهجة بأصداء مشاركتها بالبندقية وهي تتناول طعام العشاء في فندق ويستن أوروبا العائم تشير إلى أنها «فخورة جداً بالمشاركة في هذه التظاهرة الفنية الحاشدة وستظل ترافقها طوال حياتها» رجاء التي حصلت قبل شهور قليلة على جائزة البوكر العالمية في الرواية العربية عن روايتها «طوق الحمامة» تكاد تعد عام 2011م «أهم عام في حياتها» بمناسبة فوزها مع شقيقتها بالمشاركة في البينالي وحصولها على البوكر. وتعتقد رجاء أن مشاركتها مع شقيقتها شادية في عمل واحد منحه «وهجاً إضافياً».
إن الجميل في الشقيقتين هو أنهما لا يكملان جمل بعضهما فحسب بل يضيفان إلى بعضهما حتى في أعمالهما الفنية سواء المشتركة أو الفردية. فعندما تقوم رجاء بكتابة رواية تراجعها شادية وتسجل ملاحظاتها عليها وتعمل رجاء على الأخذ بها. وإذا قامت شادية برسم لوحة أو التقاط صورة أو صنعت مجسماً لا تتردد رجاء في إبداء وجهة نظرها حولها التي تأخذها شقيقتها بعين الاعتبار. وتتميز الشقيقتان بأعمالهما التي تحمل الصبغة العالمية. فشادية شاركت في معارض فنية عدة في سيول ولندن وليل وأسطنبول وبون. ونالت أعمالها الكثير من الاهتمام والتقدير حول العالم. في المقابل، ترجمت رواية خاتم لرجاء إلى الإسبانية، كما نقلت روايات عدة لها للإنجليزية والفرنسية كفاطمة وألف ليلة وليلتي. يقول ستارت إن ترحالهما المستمر واطلاعهما على الأعمال العالمية جعل عملهما يحمل «روحاً عالمية تلامس الجميع».
وترتكز فكرة الفلك الأسود على عقد مقارنة فنية بين مكة المكرمة والبندقية. حمائم مكة المكرمة تقابلها طيور النورس في البندقية. وهدير المياه في البندقية، يعيدك إلى تهاليل ملايين الناس الذين يؤدون شعائرهم الدينية في مكة المكرمة. وتشترك كلاهما في أجواء تتسم بالحميمية والسلام.
وتصف خزندار الفلك الأسود من رؤية فنية قائلة: «شكل بيضوي فولاذي مصقول، ينتصب كمرآة عاتمة، ساطعة من جانب ومخفية من الجانب الآخر، يظهر على الأرض على مساحة بالحجم نفسه مصنوعة من كريات الكروم المرصوفة على شكل دوائر تعانق مكعباً».
وقد أطلقت خزندار على هذا الفلك اسم «مرآة اللامرئيات» مؤكدة أن شادية ورجاء برعتا في سبر أغوار المدينتين من خلال الانعكاسات الضوئية والصوتية التي أشعلتاها في الفلك الأسود.
116 عاماً من الدهشة
أبصر بينالي البندقية النور في 19 أبريل 1893م بقرار من مجلس مدينة البندقية، الذي اقترح تأسيس معرض فني وطني «يقام كل عامين» ابتداءً من السنة المقبلة احتفالاً بالذكرى الفضية لزواج الملك أمبرتو ومارغريتا من سافوي. وانطلق فعلياً في 30 أبريل عام 1895م. وقد شهد افتتاح المعرض الفني الوطني الذي عرف بالبينالي لاحقاً توافد أكثر من 200 ألف زائر في اليوم مما مهد الطريق لاستمراره وتوسعه.
أجنحة دولية
أقامت بلجيكا أول جناح أجنبي في البينالي عام 1907م بمبادرة من البروفسور فيرنس جيفرت، مدير الأكاديمية البلجيكية للفنون التشكيلية. وقد تم بناء 3 أجنحة جديدة في البينالي الثامن عام 1909م لبريطانيا وألمانيا والنمسا. وتحتضن منطقة الجارديني 29 جناحاً وطنياً دولياً. وبقية الأجنحة غير الثابتة تقع في منطقة الأرسنالي المجاورة. وتتواجد 5 أجنحة رسمية عربية في البينالي لمصر والعراق وسوريا والسعودية والإمارات. وبالإضافة إلى المشاركات الرسمية الممثلة في الأجنحة الوطنية الدولية هناك مشاركات فردية تخضع لتقييم لجنة فنية متخصصة.
لائحة الفائزين
فاز الجناح الألماني وفنانه الضيف كريستوف شلينغينسييف بجائزة الأسد الذهبي لأفضل مشاركة وطنية في بينالي البندقية الرابع والخمسين، ومنحت جائزة الأسد الذهبي لأفضل فنان، إلى الأمريكي كريستيان ماركلاي، لعمله «الساعة». أما جائزة الأسد الفضي لأفضل موهبة جديدة، فمنحت إلى البريطاني هارون ميرزا. وتتألف لجنة التحكيم للدورة الجارية من رئيس اللجنة، حسن خان «مصر»، وكارول ينغهوا لو «الصين» وليتيزيا راغاليا «إيطاليا» وكريستين ماسيل «فرنسا» وجون واترز «الولايات المتحدة الأمريكية».
أرامكو السعودية في البينالي
قال رئيس لجنة جناح المملكة في بينالي البندقية الدكتور عبدالعزيز السبيل إن رعاية أرامكو السعودية ممثلة في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي للجناح الأول يستحق الكثير من الامتنان والتقدير. فهو يرى أن لهذه الشركة فضلاً كبيراً بعد الله على المملكة وأثراً، أيضاً، في ثقافتها وازدهارها. ويؤكد السبيل أن هذه المشاركة كان لها أبلغ الأثر في النجاح الذي يحققه الجناح السعودي، مؤمناً بأن مركز الملك عبدالعزيز سيكون مسرحاً لأعمال فنية وثقافية ستسهم في تنمية هذا الجانب في المملكة العربية السعودية.
دورة استثنائية
تشارك في هذه الدورة 89 دولة بعد أن شاركت 77 فقط في الدورة السابقة. وتشارك للمرة الأولى في بينالي عام 2011م كل من: إمارة أندورا، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية بنغلاديش الشعبية، وهايتي. وتعود للمشاركة دول عدة بعد مشاركات سابقة وهي: الهند «1982م»، جمهورية الكونغو «1968م» والعراق «1990م»، وجمهورية زيمبابوي «1990م»، وجنوب أفريقيا «1995م»، كوستاريكا «1993م»، وكوبا «1995م». وتشترط اللجنة المنظمة موافقة رسمية من الدولة لقبول مشاركتها في البينالي. وعادة تتولى هذا الدور وزارات الفنون أو المجالس العليا للفنون، أو وزارات الثقافة والإعلام التي تقوم بترشيح فنان لتمثيلها رسمياً.
شادية ورجاء عالم في الفلك الأسود
في نوفمبر الماضي وبينما كنا في مطار البندقية بانتظار طائرتنا التي تأخر إقلاعها، سرحنا بأفكارنا في رحلتنا الحالية وفي أولئك الذين جاؤوا مسافرين لهذه المدينة العريقة عبر السنين.
وافق ذلك اليوم الوقفة بعرفات في موسم الحج حيث ملايين الحجاج من أنحاء العالم يقصدون مدينتنا مكة بينما سافرنا نحن بالاتجاه المعاكس نحو هذه المدينة، وذلك للتشبع بأجواء مرساها الأرسينال بغرض إنشاء عمل فني لبينالي البندقية 54، وكانت عقولنا منشغلة بالبحث عن إلهام عندما برز الاسم ماركو بولو لدائرة الضوء، ومعه فعل الرحيل، الجسدي أو الفكري، كوسيلة حيوية للتواصل والتنوير.
فعندما كان ماركو بولو يسافر إلى مدن أخرى، كان يسعى دائماً إلى رؤية البندقية فيها، فهذه المدينة الأولى تبقى دائماً محوراً وملهماً لإبداعاته. وبالنسبة لنا تعد مكة مدينتنا الأولى التي نبحث عنها في كل مدن العالم.
لقد نشأنا معاً في مكة وسط حضارات متعددة تجسدت في مختلف الألوان واللهجات والعادات والموروثات، الأمر الذي عمق جوعنا لبناء هوية متعددة متشابهة. ولقد كنا محظوظين برحلات متعددة قمنا بها على مدار حياتنا، نحمل معنا ثقافتنا الكونية مدينتنا، نعكسها على العالم ونعكس العالم عليها.
أكثر من 3 آلاف
زائر يومياً
زار معرض الفن الدولي «البينالي» بعد مرور 18 يوماً على افتتاح دورته 54 أكثر من 50 ألف زائر. وعلى وجه التحديد 51630 حسب بيان اللجنة المنظمة، أي بمعدل نحو 3 آلاف زائر يومياً. و%25 من الزائرين هم دون 26 عاماً من مختلف الجنسيات والمشارب. والمعرض الذي افتتح في 4 يونيو سيواصل استقباله للزوار حتى 27 نوفمبر 2011م.