العيد كلمة مرادفة للفرح والبهجة. لكن ماذا لو كنّا نهرب من هذه البهجة؟
هل في الطرف الآخر من الزمن والمكان بهجة توازي بهجة العيد، ثم تتفوق عليه؟ وهل الأعياد اليوم صورة طبق الأصل عن أعياد الأمس؟ ما الذي اختلف؟ وما الذي يجعل الناس غرباً وشرقاً يهربون منه. أو يحاولون الانعتاق منه أو التخفف من أعبائه؟ رحاب أبو زيد تصف لنا حال العيد اليوم، وبأنه يختلف عمّا مضى..آتياً بأمر فيه تجديد!
حين كان عم صالح يهمّ بمغادرة الحرم النبوي الشريف بعد صلاة العيد، كان يذرف الدمع على صحبة له عادت إلى بارئها وأبقته وحيداً في حقبة تغيّرت عليه وزمنٍ غادره لم يعد يجد فيه ما يرتبط بصلة وثيقة مع تاريخه وثقافته الممتدة الآفاق مجتمعياً. قبل ما يفوق أربعين عاماً، لم يكن ليهنأ له نوم صبيحة يوم عيد الفطر المبارك طيلة سنوات عمره السبعين دون أن تدق كفّاه الأبواب الخشبية غبطة كدقّات قلوبهم آنذاك قبل أن يبارك أهله وجيرته وأبناء الحارة بمقدم العيد السعيد. اليوم ترتبك صباحات العيد.. وتتفاوت أنواع التهاني، بين رسالة إلكترونية ممرّرة وأخرى «برودكاستية» للعامة! أو تهنئة سريعة عبر هاتف متنقل! لم يعد العم صالح يدري هل يداوم على العادة أم يقطعها من حيث إنها لا تتلاءم أو تناسب المنهج الجديد للحياة اليوم! ويقول: «في المجمل باتت معظم العائلات تؤثر النوم على استقبال المهنئين الذي لطالما امتد إلى صلاة الظهر دون تثريب».
بصحبة العم صالح نكتشف أن استمرار العادة هو الحنين إلى الأيام الخوالي، وأننا مع العادة لا ضدها طالما كانت تقود التعوّد إلى ابتلاع الاستغراب وائتلاف المحيط، لذلك كان يبتسم كلما استرجعت الذاكرة صوت الزوجة الأصيلة حينما تقول «الله لا يقطع لك عادة يا أبو أحمد»! فالعادة هي استمرارية التفاعل الإيجابي مع الحياة ومقاومة سطوة الفقد والاغتراب.
لم يكن أبو أحمد وحيداً في هذه المرحلة، فجميعنا مرتبك حتى الآن دون قواعد ولا التزامات ولا طقوس واضحة المعالم للعيد.. فلا يزال الكثيرون يتساءلون عن الوقت المناسب لزيارة التهنئة بالعيد، وما إذا كانت الزيارة «ضرورية» أصلاً. لقد بات الأمر مشوباً بالحرج والتكاسل، تبعاً لحجم القرابة ومتانة الصلة!
الجيل الجديد وعيد الزمن الجميل
اليوم لم تعد تشهد الأواصر العائلية على اللزومية من عدمها، إذ إن الجيل الجديد صار يرفع شعار «لسنا مضطرين إلى عمل شيء لا نرغب فيه»! وهنا تكمن أهمية «تعويد» الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم الاحتفاء بالعيد وسط الجماعة بدلاً من الهروب إلى النوم أو السفر. تعترف إحدى السيدات الهاربات من العيد إلى أنها تنزع أحياناً إلى إطفاء الأنوار وإخفاء أي دليل حيوي على وجودهم بالبيت في حين يقرع جرس الباب مراراً وتكراراً دون مجيب ودون شوق لاستقبال أحد، والسبب، كما تزعم، هو الخوف من الحسد!
في المقابل تطرح نورة الرجاء وهي شابة مثقفة عرضاً مغايراً لمفهوم العيد، إذ تلتزم جميع الفئات العمرية من أفراد العائلة حضور المحفل الرئيس في بيت الجد الأكبر من اليوم الأول للعيد، وحرصاً من الجيل الثاني، جيل الآباء والأمهات، على المحافظة على العادة، انتقلوا بها إلى منزل زوجة الجد بعد وفاته، وفاءً وعرفاناً لها رغم أنها ليست جدتهم المباشرة. ولا تنفي نورة الشعور بالارتياح بعد الفراغ من هذا التجمع «الإلزامي» حيث يهرع الجميع في ثاني يوم من العيد إلى المطارات هرباً من المزيد من الالتزامات ربما، أو لحاقاً بما تبقى من بهجة حقيقية يبحثون عنها في أرض الله الواسعة. وواقع الحال يثبت أننا يجب أن نفتش عن السعادة بداخلنا، لكن «شباب اليوم» لا يطيلون التردد ولا يفرطون في الوقت، الأمر محسوم والتغيير مطلوب..
تؤكد وفاء الشدّي المنحى ذاته بأن العيد أصبح مكلفاً جداً على المستويين الاقتصادي والعاطفي فالنزوع إلى العائلة القريبة لا يتطلب تقديم عطاء كبير أو مجاملة لغير المرغوب فيهم ليس لسبب منطقي سوى عدم التآلف فحسب، إذاً فالمسألة تعود بنا أدراجنا إلى التعود والعادة.
وتعترف بأنهم كجيل شباب يلحّون على مطلب السفر كملاذ من هذه اللقاءات والاجتماعات التي يغلب عليها طابع الرسمية الممجوجة، بل قد يكسوها النفاق في بعض الأحيان. ويبدو أن «فرض» الأشياء مهما كانت تنطوي على متعة طفئ بريقها، خصوصًا إذا استخدمت مع جيل يوصم معظمه بالمكابرة والعناد.
لماذا يهربون من العيد؟
سؤال يردده الأكبر سناً، فالعيد بالنسبة إليهم فرصة للتلاقي والسلام والسؤال عن الصحة والأحباب، بينما الجيل الجديد يرى أن لقاءات العيد تُكلف أعباء مالية، ابتداءً من صينية الشكولاته التي يبلغ سعرها 500 ريال فما فوق، إلى ملابس ذات علامات تجارية باهظة الثمن، مروراً بالهدايا التي تُقدم للأطفال والتي تتنافس الأمهات في أن تكون الهدايا التي يقدمها طفلها لأقرانه أفضل من هداياهم. لقد أصبح العيد حلبة للمنافسة ترفع شعار من الأفضل مادياً ؟! من جهة أخرى هناك من يلقي على هذه التجمعات العائلية الكبيرة باللائمة حيث تنشب خلافات أيديولوجية صغيرة ومماحكات اجتماعية هم في غنى عنها، لذا آثروا السلامة. فهربوا باتجاه المطارات ليعبروا إلى مدن لا يعرفون فيها سوى الأماكن، ولا يرون سوى الوجوه العابرة درءاً لكل المفاجآت غير السعيدة التي تطل عليهم في العيد السعيد!
ليس الهروب من العيد ظاهرة عربية فقط، بل حتى في الغرب نجد أن أعيادهم حتى وإن بدت مزهوة بالألوان وشجر الميلاد والهدايا، وكل المظاهر الجميلة التي تنقلها وكالات السفر والدعاية والإعلام إلا أنهم يفرون منه، ويشعرون بثقله كثقل ديك الحبش الذي يطهونه محشياً ومشوياً. فما تنقله الأفلام الهوليودية عن ثقل العيد يشكل ظاهرة يعانيها المجتمع الغربي. والخوف من أن يتفاقم لدينا هذا الهروب، ليتحول إلى ظاهرة حقيقية، لا يجدي معها التجاهل نفعاً، لذا من باب أولى أن نبحث عن العيب لنصلحه.
ما لعيدنا عيب سوانا!
يقول الشاعر الفلسطيني عيسى عدوي المعروف بالزكراوي عن العيد ومكمن الفرح فيه:
فالعيد فـرحـتُـه بـلـمّــة أهــلِــه
وأنــا غـريـبُ الــدار ثـــم وحـيــد
اليوم، لا يأتي العيد مفلساً من الفرح إلا لمن كانت له ذكريات قديمة جميلة مع الأحباب والأهل، وطفولة حافلة بالرضا والسماحة. ففرحة العيد على وجه طفل، أو شيخ مريض، أو أم ثكلى هي أربح استثماراً، إذ إن بهجتهم تكتنز تباشير الفرح بالدنيا وتختصر سعادة الدارين على الأرض. حين يخلو العيد من عبق الأجداد المتمثل في دهن العود والصندل، ورائحة كفوف الجدات المخضبة بالحناء.. نتهمه بخلو الوفاض، وبأنه تغير ولم يعد العيد كما كان. فلماذا لا نتخفف من مظاهرنا الخادعة والفارغة، ونبحث عن نقاط التقاء في يوم العيد، ونؤجل العتب واللوم لنقتنص، بذلك، فرحة حقيقية في يوم العيد، وندخل السعادة على قلب من أحبونا بصدق.