قول في مقال

هل الورق متمرّد ماكر؟!

في زمن التقنية والشاشات الضوئية.. هل تتراجع مكانة الورق في حياتنا؟ أم أنه بعد كتاب أمبرتو إيكو «لن يموت الكتاب» ينفض الغبار عن تاريخه؟!.. يظهر لنا الورق اليوم كمتمرّد ماكر ليسرد لنا الباحث إبراهيم محمود في قول مستفيض جانبًا من تاريخه وخفته.

الكتابة عن الورق عصية، فالورق يكاد يلخِّص حيواتنا الكبرى، بقدر ما يمكنه تقديم ما يعيدنا إلى بداياتنا الأولى، لحظة الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة، وظهور الورق شاهداً على أننا دخلنا عهداً جديداً مع أنفسنا وفيما بيننا، ليكون عنواناً عريضاً على حياة من نوع آخر.

إن ثمة حضارة نوعية عززت وجودنا، من خلال طبيعة الورق وكيفية إعداده، لكن ذلك سرعان ما يعيدنا إلى البداية مع كل اكتشاف لقدرة ٍما فينا ومن حولنا، نظراً لسعة أبعاده!
يحيل الورق إلى ما هو طبيعي، وهنا يكمن نبض الكائن الحي، عمق أنفاسه، شعرية الممتد في الورق هذا الذي نأخذه بمقاييس مختلفة، ونعتمده وفق أشكال مختلفة ومن التذوق بالمقابل.

كأننا في اعتمادنا على الورق نستشعر عمق تواصلنا مع الكائن الحي: النبات، وما في هذا الكائن من ميزة افتداء أو تفانٍ. فالورق مخلوق صناعي من مخلوق طبيعي، وبالتالي فإن في مسيرته أثراً من تكوين سابق على وجودنا، وما يبقينا في حالة من التحري الدائم عنه.
إن عهود الورق هي الاحتفاظ بما يصلنا بأسلافنا. وهو بذلك لا يلعب دور الوسيط ، فقط، في الوصل بين أزمنة متباعدة أو متقاربة، وإنما يحفّزنا بدوره، على دوام التخيل والتأمل فيما كان عليه أولئك الذين سبقونا في الوجود، بقدر ما يمتعنا، إذ نخط ونقرأ على سطحه المأهول بالبياض أكثر من غيره، وقد أودعناه أسراراً لنا أو بعضاً مما نعتبره دالاً علينا.

الورق مرهف الإحساس، خفيف الروح. استحال مصنفات أو مدونات أو أعمالاً محفوظة ذات شأن: فكرية وفنية وأدبية وغيرها، إنه عائدنا الوفير فيما حققناه من انتصار على أنفسنا بأنفسنا، وفيما تمكنا من بلوغه في الطبيعة بالذات. إن بياضه المهيب يترجم سلوكه الحي وهو في صمته المتوثب، البياض الذي يستقبل النقيض ويتكامل به. حيث الكتابة بالحبر الأسود أو الأزرق غالباً. فنجد أنفسنا إزاء عالمين هما واحد، إذ الأسود مهاد الألوان كلها، والأبيض نفي لها، وبتعبير شتراوس «لئن كان الأسود صبغة، فليس الأبيض كذلك: فهو يتحدد بوصفه نفي ثروة يحتويها الأسود في ذاته».

ولعل استشرافنا لهذا العالم المركَّب يؤهلنا لأن نمضي قدماً لمعرفة الورق أكثر، وهو المشغول كثيراً ببياضه، بحيادية لا تخفى ظاهرياً على أي كان، لكنه سرعان ما يتزاحم بسطور وكتابات، بلغات شتى، ليكون في هيئة الصوت، بينما الكتابة تتجلى في هيئة اللغة التي تؤرخ للصوت.

إن هذا التناوب بين البياض والسواد، بين الورق وما يتعرض له من تغيير تبعاً للمستجدات، هو الذي حث الجاحظ على الدخول في لعبة مزدوجة، هي «الجد والهزل»، وهو يفصح عن الورق ومدى قدرته على حفظ الأثر، والجلد ومقامه الاعتباري إزاءه. إنه يطرح جملة إشكالات تضمن لكل من الورق والجلد حقوقاً، ولكنها حقوق مسماة لا تنفصل عن ذائقة الكاتب، وليس اسم الوراق إلا تعبيراً عن المقام الرفيع للورق، رغم ما يظهره الجاحظ من موقف نقدي من الورق. إن كل ذلك راجع إلى تقدير من المتعامل في سوق السلع، وبيان داء كل منهما. يقول في رسالة الجد والهزل: «وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصيني، ومن الكاغد الخراساني؟!»، ولاحقاً يشير إلى طبيعة التقابل المقلقة، في مخاطبته لأحدهم: «وزعمتَ أن الأرضة إلى الكاغد أسرع، وأنكرت أن تكون الفأرة إلى الجلود أسرع».

ثمة فتح مجال واسع أمام قارئه ليمضي عميقاً مع متخيله، وكيف أن القائم بين الورق والجلد أكثر من مفهوم التعارض أو التفاضل، رغم أن الجلد لا يكف عن تذكيرنا بأولويته في البقاء أو الاستمرارية في الوجود، ولكن الورق يكتسب قيمته ويعتد باسمه من خلال الوراق بالذات.

ليكون هذا الجد والهزل نوعاً واحداً أو زوجاً من جماليات الملموس أو المحسوس قرطاسياً.
شاهدٌ هو الجاحظ على عصره الذهبي، بقدر ما يجد نفسه أمام كائن يهبه ما هو معزز لسلوكه في الكتابة، إنما، أيضاً، حين يجد نفسه بين كائنين يصلانه: الورق من النبات يكون، والجلد من الحيوان يكون، بينما المتعامل معهما والمستفيد منهما هو الإنسان. إنها جملة أهواء وأذواق وثقافة فاعلة في التمييز بين الكائنات الثلاثة في الحالة هذه.

إننا في حياتنا اليومية، لا نجد أنفسنا بعيدين عن الورق وخفته وسهولة التصرف به، من خلال دفاتر ذات أحجام أو قياسات مختلفة، وعبر أوراق مختلفة في ألوانها كذلك، وحتى حين نجد أنفسنا في مواجهة البياض الكومبيوتري، أي البياض الذي لا يراعي ذمة كما هو شأن الورق، إنما يكون له عالمه المغاير تماماً، خصوصاً حين نتذكر هنا نوعية الكتابة المقررة أو المبرمجة كومبيوترياً. أما الورق فمن مزاياه الكبرى أنه يحافظ على إبداعية الكتابة وفنيتها، عندما يتراءى الورق شاهداً على صاحبه من خلال طريقة كتابته وهي توقيعه الذاتي بجلاء..إن عالم الورق لا ينقطع، ولا يمكن وضع حد له، واعتباره في سياق «كان يا ما كان».
إننا من خلال الورق لم نزل نخوض صراعات عدة أو جمة مع أنفسنا، عندما نبحث عن ميزة قائمة لكل منا من خلال الكتابة على الورق، وهذا ما لا نجده في حيّز الشاشة البيضاء، وأقرب مثال حول ذلك هو المتعلق بـ«الخط العربي»، أو الغرافيكيات ذات الشأن في تاريخنا الثقافي، إذ إننا لا نكتفي بفعل التخطيط الوظيفي، إنما نؤرخ لأنشطة روحية فينا، بقدر ما نشدد على صلات وصل مع ماض لنا، ولأن الخط يدعمنا بقدر ما نبحث عن علامات فارقة لنا فيما نبحث عنه أو نسعى إليه. إن ذلك أكثر تميزاً من مهنة الوراق الذي كان صاحب مهنة، رغم عدم خلوه من جانب إبداعي في الكتابة أو التسطير، ولكن طريقة الخط أو نوعيته تبقينا في فضاء فن عريق، كما أن الورق يمكّننا من أنفسنا جهة القدرة على الإبداع، كما لو أن الورق مستفز لصاحبه، وهو مشغول ببياضه أو فضائه الرحب الذي يتراءى فائضاً على هامشه، إذ ليس من هامش للورق إلا ما نعتقده، ولكي نترك لأنفسنا فرصة النظر في المغاير وفيما لم نستطع من الوصول إليه، لأن الورق برحابته يُشكل إغراءً و تجاوباً مع قوانا الإبداعية والحية. هنا، حيث نستحضر صورة الورق أو هيئته كما نرفقه بالحبر وما يكونه الحبر في الكتابة، وكيف أن الجمع بين السائل نسبياً والجامد، يولّد حركة ماضية في شعريتها، إنها توأمة العلاقة بين عالمين: عالم الورق وعالم الساكن في الورق ومن يصلهما ببعضهما بعضاً، وذلك عندما يكون الحبر خطوات أصابعنا. ولأن الحبر على تماس مباشر بالجاري في عروقنا، وكأن الورق جسد والحبر دم متدفق عبر سطور أو خطوط محددة هي أعصابه وأنسجته التي تحيله إلى مظهر كائن حي، يكون على أتم استعداد لفتح حوار مع قارئه تفسيراً وتأويلاً.

ولأن الورق رحالة، ينتقل من يد لأخرى، وهو الضامن لتوسيع حدود التعارف وإبقاء حدود التواصل مفتوحة أبعد مما هو متصور أو متخيَّل، وأنه من خلال فعل الانتقال أو الارتحال يحمل الكثير مما يعنينا ذاتياً، ولو أن الورق في الحال هذه يكون مطبوعاً في هيئة كتاب، إنما دون أن يغفل البتة عمن يكون وراء تأليفه، وأي يدٍ أبدعت في تركيبه أو تأهيل ورقه بمعنى ما!

إن ذلك يذكرنا أيضاً بأولئك الذي يتتبعون طرق الكتابة على الورق أو فيه، وتحرّي الجانب النفسي، من خلال الربط بين الكتابة وشخصية الكاتب، كأن الورق هو من ناحية ما في مرتبة المهاد الروحي الشفيف للكاتب ومصيدته عندما يندفع كاتباً ويترك أثراً حيث يدل عليه أثره كما أنه يترك في الورق بصمته هي أكثر من بصمة شخصية «جنائية»، إنها بصمة إبداع ما هنا.

إن تاريخنا المديد يبقينا على تماس مباشر مع الورق، رغم كل الوعود التي تمنحنا إياها الأجهزة المتعلقة بالكتابة المقررة سلفاً: تقانياً، لأن مجرد التخلي عن الورق، رغم كل ما يقال عن إمكانية نفاد مصادره، يعني الانسلاخ عن تاريخ كامل، هو تاريخ روحي وجمالي يستحيل تنحيته أو زحزحته جانباً، نظراً لمأثرة الورق الكبرى، حين نكون أطفالاً ونحن في عالم الخربشة فيه أو عليه، وكأن الطفولة لا يمكنها أن تؤكد حيويتها وشعرية عالمها دون المرور بتجربة الورق وإمكانات الورق في جلاء أوجه الإبداع لديه.

وحيث نكون شباباً وكباراً، ولكل مرحلة نوعية ورق، وطبيعة كتابة، إنما الورق في عمومه هو واحد، وبالتالي فإن الذي يبقينا على تواصل معه، هو جملة الذخائر الإبداعية والنفسية الكثيرة التي تنطوي عليها نفوسنا، وهي لا يمكن لها أن تبرز إلى العيان دون اعتماد الورق، ورق من نوع ما، مهما كان لونه أو مصدره، طالما أن تعميقاً لشخصيتنا الإنسانية واليومية يتم باسمه!

أضف تعليق

التعليقات