محظوظ ذلك الذي تسمح له ظروف الحياة بالبقاء، حيث عاش طفولته وشبابه، فكيف الحال إذا كانت مهنته تقضي، أيضاً، بالحفاظ على هذا المكان كما كان في الزمن الماضي؟ هذا هو حال المهندس سامي نوّار، الذي التقته القافلة لتكتشف صورته الشخصية.
عشقه بين السماء والأرض. في رحلات خاصة عبر الصحراء يراقب النجوم ويسبر أغوارها بـ (تلسكوبه) الخاص، أما على الأرض فإنه يعشق مدينة جدة، خاصة المنطقة التاريخية منها، كيف لا وهو ابنها الذي ولد في أحد بيوتها وتربى في حاراتها ودرس في مدارسها وكتاتيبها؟! تسمع منه كلمات تدل على حميمية العلاقة التي يحتفظ بها تجاه المباني التي يدير الحفاظ عليها من قبيل: “كرامة المبنى” و “احترامي للأصالة العربية في المبنى”. فيتعامل مع مئات البيوت القديمة وكأنها أبناؤه، أو ربما أجداده الذين يحمل لهم الكثير من التبجيل والإكبار.
“وقع السقف يا عم سامي!” كانت هذه الجملة هي أول ما قاطع لقاءنا مع مدير إدارة حماية منطقة جدة التاريخية، المهندس المدني سامي نوار، وذلك عندما دخلت عليه مجموعة من الشبان الذين يعملون هناك بشكل مفاجئ يحملون إليه الخبر. استأذن منا فوراً وخرج لمعاينة الموقع، وطلبنا اللحاق به فوافق.
السقف الذي وقع كان لإحدى الغرف في مبنى قديم من مباني جدة التارخية يزيد عمره عن المائتي عام، وتسكنه أسرة هندية كان ربّها يتوسل المهندس سامي بألا يجبرهم على مغادرة المنزل بعد وقوع سقف احدى غرفه. فقد كان على المهندس معاينة المبنى وتحديد ما إذا كان سوف يُصنّف ضمن البيوت التي تعد في حال الخطر، وبالتالي يُخلى من سكانه أم أنه سيسمح بترميمه وعودة سكانه إليه؟! وتبلغ نسبة المنازل الآيلة للسقوط في جدة 13 في المئة من بين 500 منزل.
هذا جزء يسير من العمل الذي يقوم به المهندس سامي ضمن مهامه المستمرة في حماية وتطوير المنطقة التاريخية، ويليه التعامل مع هذا المبنى وغيره من تقييم وترميم وإصلاح على يد “معلمين” سعوديين قلائل، يمكنهم الترميم بالطرق القديمة نفسها في البناء، ثم تطوير فهم الناس لأهمية المنطقة التاريخية ثقافياً، وصولاً إلى إحياء وتأهيل المنطقة بطريقة تجعلها استثماراً سياحياً ناجحاً يمول نفسه.
ولد المهندس سامي نوّار عام 1959م في أحد منازل ما يعرف بمنطقة “البلد” أو جدة القديمة التي هي اليوم أحد أحياء المدينة الحديثة، وحتى عام 1948م لم تكن مساحتها تتجاوز كيلومتراً مربعاً واحداً داخل سور يحيط بها. هذا الكيلومتر المربع هو ما أطلقت عليه تسمية منطقة جدة التاريخية التي تحتوي خمسمائة منزل تقليدي تتراوح أعمارها بين المائة وخمسين سنة، إلى الأربعمائة سنة.
في رمضان من عام 1411هـ، صدر القرار بإنشاء إدارة لحماية المنطقة التاريخية، وتضمن القرار تعيين المهندس سامي نوّار مديراً لها، لتصبح مسؤوليته العناية بالمنطقة التي ولد وتربى ولعب في أرجاء حاراتها. إنها حضن ذكريات طفولته، وبين الأزقة الضيقة وخلف الرواشين الخشبية وعلى أرضيات كتاتيبها ومقاعد مدارسها تكونت مداركه الأولى، ثم وجد نفسه طالباً في المدرسة السعودية الموجودة في موقع طفولته ذاته، ثم دارت الأيام معه في إكمال دراسته في مدرسة الفاروق ثم مدرسة الشاطئ قبل أن يبتعث للولايات المتحدة لدراسة الهندسة في جامعة ولاية كاليفورنيا في “ساكرامنتو”.
المنزل الذي ولد فيه سامي لا يبعد أكثر من أربعين متراً عن موقع مكتبه في (بيت نصيف) اليوم. وعندما دخلنا للقائه وجدنا حوله العديد من الشبان وقليلاً من “الشيّاب”، اكتشفنا لاحقاً أنهم من فريق العناية بالمنطقة، حيث اتخذ القرار بترميم البيوت القديمة بالطريقة نفسها التي بنيت بها أصلاً، مما يستدعي خبرات البنائين القدامى ونشاط المتدربين الجدد على أساليب البناء “الجدّاوية القديمة”. وهناك أيضاً 17 في المئة من هذه المنازل مهجورة دون سكان، ويكلف إصلاح كل منزل منها ما معدله ثمانين ألف ريال سعودي.
خليط من الأساليب
كانت جدة من أولى المدن التي تم تقسيم مبانيها تاريخياً في الشرق الأوسط. ويقول المهندس سامي إن أسلوب البناء المتميز لمنطقة جدة التاريخية ليس “جداوياً” صرفاً، بل هو طراز يجمع خليطاً من الأساليب المعمارية التي تعتمد على مواد محلية تميّز بها كثير من معمار المدن والقرى الساحلية على شاطئ البحر الأحمر في السودان واليمن ومصر والأردن وإريتريا وغيرها.
ومن العقبات أو التحديات التي تواجه حماية المنطقة التاريخية في جدة هو قلة – بل ندرة – الأيدي العاملة المدربة أو الراغبة في تلقي التدريب على مهارات ترميم المنازل المهددة بالخطر، فتم التوجه لمعالجة هذه المشكلة إلى شباب من الصم والبكم الذين أثبتوا قدراتهم العالية على التعلم والأداء رغم الإعاقة.
يقول المهندس سامي: الهدف الأساس من إنشاء إدارة حماية المنطقة التاريخية في جدة هو هدف ثقافي وطني يحافظ على ثروة تاريخية في العديد من الآثار في المنطقة التي تتضمن، (بالإضافة إلى المنازل القديمة) بعض المساجد والأسوار والبوابات والعيون. ويرى المهندس سامي أن هناك معوقات عديدة أمامه يتصدرها تحدي تنمية الوعي العام بأهمية المنطقة والإنتهاء من تجديد المنازل المصنفة بأنها خطرة وتسهيل الوصول إلى المنطقة. كما يطمح إلى أن يكون تمويل الإصلاحات والترميمات في المنطقة تمويلاً ذاتياً، بحيث تكون ميزانية المنطقة استثمارية فتعاد عملية تأجير واستثمار البيوت المرممة.
أقدم المباني في المنطقة مسجدان يعود تاريخ بنائهما إلى عهد الخليفتين الراشدين عمر وعثمان، رضي الله عنهما. ولكن هل إسكان هذه البيوت القديمة فكرة جيدة؟
يجيب المهندس سامي: البيوت إذا لم تسكن فإن المنطقة برمتها تتحول إلى مدينة أشباح وهذا ليس الهدف من حمايتها، بل الهدف هو جعلها منطقة حية يعيش فيها الناس كما هي الحال اليوم ويزورها من يريد التثقف بتاريخ المدينة من خارج المملكة وداخلها. “لو أن عشرة في المئة فقط من سكان مدينة جدة وحدها الذين يصل عددهم إلى نحو ثلاثة ملايين يزورون المنطقة، لكان الأمر كافياً لتمويل مشاريع الترميم، ولكن هناك مشكلة أخرى هي الوصول إلى المنطقة الشحيحة بمساحات تكفي لمواقف للسيارات، كما أنه لا بد من تجهيز المنطقة خدماتياً لاستقبال زوارها، وعندما يتحقق ذلك سأكون في غاية السعادة”.